صفحات الرأي

دفاعاً عن الأسرار وعن الحرية/ دلال البزري

 

 

أنتَ الذي تكتب على “اللاب توب”،  تتعاطى هاتفاً “ذكياً”، وتلازم “السوشال ميديا”، وبالقليل الذي تعرفه عن التكنولوجيا الرقمية، أو عن أحوال هذا العالم؛ أنت “الانسان الجديد” بالطرق التواصلية الجديدة التي تزهو بها، تتسلّى، تنظّم، تعبّر عن موقفك ومشاعرك، تعالج وحدتك، تتبادل الهموم والأفراح مع أصدقائك الإفتراضيين… لا بد أنك شعرتَ، أو لاحظتَ، وبإشارات متناثرة هنا وهناك، بأن عالمك الجديد هذا، “مجالك الحيوي” الجديد، يقع تحت الرقابة. ومن الصغيرة إلى الكبيرة: مثلا: بمجرد أن تفتح “اللاب توب” خاصتك، ومن دون أن تتصل” بخط الأنترت، فأنت عرْضة للرقابة. مثال آخر، إذا اشتريت بطاقة سفر الكترونياً، أو غير الكترونياً، هناك من يعلن عن رحلتك في الشبكة، يتابع مسارها، ويهنئك بالسلامة. مثال أخير: إذا غيّرت شيئاً بهاتفك “الذكي”، كأن تشتري جهازا جديداً، أمامك سلسلة من عمليات تحميل مطلوبة منك، كلها تؤكد بأن الجهة المنظمة لها تعرف عنك كل شيء. والكل شيء هذا يحتوي على معلومات أوردتها  عن نفسك، بملء خاطرك، وأخرى وردت عبر آخرين، تبدو لكَ تافهة، ولكنها ثمينة جداً بالنسبة للقيمين على الرقابة؛ مثل مكان إقامتك، أو استخدامك لهواتف اخرى، أو تنقلاتك، أو آرائك وأذواقك أو نوع عملك الخ. لا تنضب جعبة “غوغل” او “فايسبوك”، ونظراؤهما، من ابتكارات جديدة تمكنهم كلهم من انتزاع معلومات دقيقة عن سكان الكوكب الإفتراضي.

راقبهم قليلا أولئك المراقبين، وسوف ترى كم هو مكتظ عالمهم باشارات صغيرة، وارفقها بالقليل الذي تعرفه من طموحات ومشروعات “غوغل” و”فايسبوك”، بعضها هو بمثابة الفضائح، وبعضها الآخر يمر من دون انتباه. فأنتَ مراقب من جهات صاحبة رؤوس أموال خيالية، لديها مشاريع إستثمارية إعلانية ضخمة، تعرف وجوه بعضها مثل مارك زوكربرغ (صاحب فايسبوك)  وتجهل الوجوه والأسماء الباقية، بل ربما تحتاج إلى عمر بأكمله لتلمّ بشبكة العلاقات التي ينسجها أولئك القيمون العباقرة، مع الدول والشركات العملاقة، أو مع الشبكات الأخرى… فنحن نتكلم هنا عن ملايين من سكان الكوكب الإفتراضي، استوطنوا فيه، إما عن طريق هاتفهم “الذكي”، أو مواقع التواصل، أو بمجرد انهم يستخدمون “اللاب توب”.

وطبعاً، يحضر البريطاني جورج اورويل هنا، وروايته الخيالية الإستشرافية، “1984” (كتبها عام 1949)، وبطله “الأخ الأكبر”؛ يروي هذا الكتاب قصة المجتمع البريطاني، الذي تعرّض لحرب نووية، واستقر في حكمه نظام توتاليتاري، رقابي، مستوحى من الستالينية والقليل من النازية،  وتنكب فيه عين “الأخ الأكبر” على مراقبة سلوك المواطنين و أفكارهم ورغباتهم وطموحاتهم، تريد ان تعرف أعمق أعماقهم، تسهيلا للنيل من حريتهم.

في البدء، في زمن بعيد، خمس سنوات على الأقل، ومع اندلاع الثورات العربية، اكتشفنا ان العالم الإفتراضي هذا هو مكمن الحرية: بداخله يمكن للشباب أن يعبّروا عن آرائهم بحرية، بعيداً عن مراصد المخابرات، أن ينظموا أنفسهم، أن يتعارفوا ويتصادقوا أو يتحابّوا. هذا الإكتشاف سرعان ما انتشر بيننا؛ والشعوب المقهورة، التي لها نصيب قليل من الحرية، اعتبرته منبرها وأداتها ومجالها. ثم دخل الإرهاب على الخط، وصار صاحب الصورة والكلمة الأكثر تعرضا للرقابة، فطولِبَ القائمون على هذا العالم الإفتراضي بقصْقصة أجنحة الارهاب “الإعلامية”. والآن استقر الوضع على عالم يراقب بعضه البعض، وفوق رأسه أرباب عمل يراقبون الجميع، أو مؤسسين يجمعون ويحللون المعلومات، الشخصية وغير الشخصية، خدمة لمصالح غير واضحة تماماً، ولكنك تشك بأنها لصالح أقوياء، أقوى منك ومن دولتك وطائفتك. وبدل عين “الأخ الأكبر” الأورويلية، هناك عيون، إن عرفت اصحابها، مثل مارك زوكربرغ، فبالصورة وبعدد الملايين التي جناها من اختراعه، وما زال يجني. ومثل مارك زوكربرغ أمثال، تحدس بوجودهم، ولا تستطيع لمْسهم لمس اليد.

الأرجح ان الرقابة ستتطور، وتخترع أقنعة جديدة، كلما انكشف قناع؛ وسوف يوازيها نمو في عدد سكان العالم الإفتراضي. مثل خلية سرطانية، سوف يتمدد الإثنان على الوتيرة ذاتها: مزيد السكان، مزيد من التنظيم للرقابة. بحيث تبدو لنا توجّسات جورج أورويل، على سوداويتها وغرابتها، ضئيلة وضعيفة، وأكثر تفاؤلا مما يجب. فكما ان السرطان، أيضاً، هو مرض الحياة المعاصرة، بكافة جوانبها، التلوث والعمران والطعام والهواء الخ… كذلك مرض خنق الحريات العامة والخاصة سوف يكون النتيجة شبه الحتمية لتوسع العالم الإفتراضي وازدياد عدد سكانه. سيشعر الكثيرون بهذا الإختناق، وسوف يلجأون إلى الوسائل “البدائية” لحماية أسرارهم وحريتهم؛ ولن يكون أمامهم ساعتها سوى الورقة والقلم، والحمام الزاجل إذا أرادوا التوسّع. ومع الورقة والقلم سوف يعيدون إكتشاف علاقات “بدائية” أخرى، العلاقات الإنسانية الحيّة، بعدما بنوا أوهاماً حول الصداقات الإفتراضية، ملازمة لأوهام الحرية المطلقة داخل الشبكة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى