دولة الخلافة: اهي دولة ممكنة؟
علي العبد الله
برزت دعوة الى اقامة دولة “الخلافة” كجزء من تصور مجموعات سلفية سورية لنموذج الدولة في سوريا حيث اصدرت مجموعة من الكتائب المسلحة والتنسيقيات يوم 15/12/2012 “ميثاق العمل المشترك لإقامة خلافة إسلامية” جاء في مقدمته:” إيمانا منا بوجوب العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية واستئناف الحياة الإسلامية وتحقيق بشارة الرسول( ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) نعاهد الله تبارك وتعالى على العمل وإسقاط مشروع الدولة المدنية الديمقراطية في سوريا وإقامة خلافة إسلامية”.
ينطلق دعاة إقامة دولة الخلافة من اعتبارها فرضاً إسلامياً، ويرون فيها الأداة الأنجع لحل كل مشكلات المسلمين، ووسيلة مضمونة لانتصارهم على الخصوم والأعداء.
واقع الحال أن اعتبار إقامة دولة الخلافة فرضاً إسلامياً ليس له سند صلب وواضح من النص الديني (القرآن الكريم) حيث لم ترد في النص لا صراحة ولا مداورة، ناهيك عن أن اعتبارها فرضاً إسلامياً يجعلها أصلاً من أصول الدين وهو مخالف لما تواضع عليه المسلمون من أصول وهي: الألوهية، الرسالة، الميعاد، لم تشذ عن هذا إلا الشيعة الإمامية التي اعتبرت الإمامة أمراً إلهياً. كما أن وقائع التاريخ في العهدين النبوي والراشدي تشير إلى الضد من ذلك حيث توفي الرسول (عليه الصلاة والسلام) من دون أن يحدد طريقة للحكم أو يسمي إماماً بعده، إذ لو كانت أصلاً من أصول الدين لانفده قبل رحيله، وهذا ما أكده المسلمون وجسدوه في خلافهم في سقيفة بني ساعدة، فقد تناقشوا وتفاضلوا قبل أن يتفقوا على اختيار شخص من أوائل المؤمنين: أبو بكر الصديق، وينصبوه إماماً. أما الحديث الشريف الذي يستند إليه هؤلاء في تبرير دعوتهم والذي نصه: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه إذا شاء الله أن يرفعه، ثم تكون مُلكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت” فبحاجة إلى تدقيق لأنه لا يتسق مع منطق القرآن الكريم الذي يجعل من الغيب مساحة خاصة بالله عز وجل (ولله غيب السموات والأرض– هود 123)، مبدأ تكرر باللفظ نفسه ستَّ مرات، و(قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله- النمل 65) و(عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو– الانعام 59) و(ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء– الاعراف 188) و(وما كان الله ليطلعكم على الغيب– آل عمران 179)، وقد منع النبي (عليه الصلاة والسلام) من الخوض في موضوع الغيب. كما أن وقائع ما اعتبر العصر الراشدي تشير إلى الضد مما ورد في الحديث حيث تباين منهاج الخلافة أيام عثمان وعلي عنه أيام أبي بكر وعمر تبايناً شديدا، وهذا يضع علامة استفهام كبيرة على صحة اعتبارها مرحلة واحدة ووصفها كلها بخلافة راشدة، ناهيك عن أن تسمية الخلافة وُلدت من وصف ما حصل: خلف الرسول في موقعه في قيادة المسلمين فهو خليفة، اشتق منه وصف النظام السياسي بالخلافة، وقد تخلى عنه عمر بن الخطاب إلى أمير المؤمنين، لأنه اعتبر نفسه خليفة أبي بكر وليس خليفة الرسول، ورأى أن وصفه سيكون خليفةَ خليفةِ رسول الله وأن في ذلك ركاكة وتكلفاً.
لقد تشكلت دولة المدينة تاريخياً في سياق الاستجابة للضرورة الاجتماعية التي يستدعيها النص الديني عبر تحديده لعلاقات مُلزِمة بين المسلمين الأفراد بعضهم ببعض وعلاقتهم بأولي الأمر= الحكام، وبغير المسلمين، كي تقوم الدولة بحفظ هذا النظام وإلزام الأفراد به، وما يقتضيه ذلك من تشريع وإدارة وقضاء وتنفيذ وردع…إلخ. أما دولة الخلافة التي تلت وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) فتطابق تشكيلها مع شروط وظروف العصر الذي قامت فيه حيث كان نمط الدولة السائد آنذاك هو النمط الإمبراطوري المرتكز إلى حق الفتح.
لقد أخطأ دعاة إقامة دولة “الخلافة” (دولة أمة العقيدة: دولة متعددة الأعراق والأقوام، دولة فوق وطنية) عندما لم يميزوا بين ضرورة الإمامة، المرتبطة بالاستجابة للضرورة الاجتماعية، التي نادت بها كل المذاهب الإسلامية (السنة، الشيعة، المعتزلة، المرجئة، الخوارج.. إلخ) عبر النص على وجوب تنصيب “إمام” لرعاية شؤون المسلمين، وطبيعة الدولة وارتباطها بشروط وسمات العصر الذي تقوم فيه، حيث لا يمكن فصل الدولة عن العصر الذي تنشأ فيه، وقد ذكرت كتب التاريخ أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حاول وقف الفتوحات عند حدود معينة (العراق)، لكنه لم يستطع لأن نمط الدولة السائد آنذاك لا يسمح بذلك، فنمط الدولة الإمبراطوري يستدعي الحرب والاستعداد للحرب للمحافظة على الذات والأرض، فلو بقي المسلمون في حدود دولة المدينة لما تركهم سكان الجزيرة العربية من غير المسلمين يعيشون بسلام، ولو بقوا في حدود جزيرة العرب لما وفرتهم الإمبراطورية الفارسية أو الرومانية، التي تتصرف بموجب قانون الدولة الإمبراطورية: حق الفتح.
كان التمييز بين ضرورة “الإمامة” وعلاقة شكل “الإمامة” بالزمان والمكان حرياً بوضع حد لهذه الدعوة غير المنطقية حيث لم يعد للدولة الإمبراطورية وجود بعد أن قاد التطور السياسي والاجتماعي إلى إلغاء “حق الفتح” عام 1919 في عهد عصبة الأمم ما جعل الدولة الإمبراطورية بسماتها المعروفة (عدم ثبات حدود الدولة، لأنها عرضة للتغير الدائم بحسب نتائج الحروب والغزوات، وعدم ثبات الشعب، يزداد وينقص بحسب نتائج الحروب والغزوات، وعدم ثبات حدود السيادة والولاء) غير شرعية ولا تمتلك فرصاً للنهوض لأنها ستواجَه من قبل دول العالم قاطبة، وأمامنا أمثلة معاصرة: الإمبراطورية السوفييتية المنهارة والأمريكية التي تلقى مقاومة دولية للحدّ من ممارساتها الإمبراطورية، والسعي لإقامة دولة حديثة تتفق مع روح العصر وتحقق للمسلمين في أوطانهم الحرية والكرامة والاستقلال.
المدن