ديفيد هارفي واعادة تشكيل خيال التمرد داخل الفضاء الحضري/ محمد تركي الربيعو
■ في عام 1967، كان العالم يحتفي بالذكرى المئوية الأولى لصدور الجزء الأول من كتاب «رأس المال» لماركس. وفي هذه المناسبة أصدر المخطط الحضري وعالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر أطروحته الشهيرة «الحق في المدينة»، التي هدف من خلالها إلى استفزاز الفكر الماركسي التقليدي الذي لم يتفق قط على أهمية الحضر في استراتيجيات الثورة. فقد بقي هذا الفكر يؤمن بأن البروليتاريا المتركزة في المصانع هي طليعة التغيير الثوري، في حين نظر إلى الحركات الحضرية (الشبابية، والنسوية، المهمشين) بوصفها محاولات إصلاحية للتعامل مع قضايا محددة، ولا يمكن لهذه الحركات إطلاق شرارة تغيير راديكالية أو ثورية.
وباستحضار الطبقة العاملة كأداة للتغيير الثوري في مختلف أجزاء أطروحته، كان لوفيفر يشير إلى أن الطبقة العاملة الثورية الجديدة باتت تتكون من سكان الحضر، وليس فقط من عمال المصانع. فالمصانع وفقاً لهنري لوفيفر في أجزاء كبيرة من العالم الرأسمالي المتقدم، إما اختفت أو تقلصت. في حين أن العمل المهم والآخذ في التوسع باستمرار لصنع حياة الحضر والإبقاء عليها يقوم به اليوم بشكل متزايد عمال غير آمنين، وغالباً ما يعملون لبعض الوقت، وغير منظمين، ويتقاضون أجوراً زهيدة؛ من هنا فقد حلت طبقة «البريكاريا» محل «البروليتاريا» التقليدية كبديل اجتماعي قادر على إنتاج وإعادة إنتاج حياة المدن.
وفي سياق إعادة الاهتمام بأفكار هنري لوفيفر السابقة، وبزوغ حركات اجتماعية من مختلف الأشكال على مستوى العالم تطالب بالحق في الدولة، يرى ديفيد هارفي/المنظر الماركسي وأستاذ الأنثروبولوجيا والجغرافيا الحضرية في جامعة نيويورك في كتابه «مدن متمردة: من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر» ترجمة لبنى صبري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر» أننا نعيش اليوم حالة من القلق والاستياء وحتى الإثارة حيال التحولات الحضرية التي تشهدها مدننا، لكننا نفتقر، على ما يبدو، إلى القدرة على النقد المنهجي، كما نفتقد حتى الآن أي معنى واضح لممارسة الحق في إعادة اختراع المدينة، لتلائم أهواء قلوبنا بدرجة أكبر. ولذلك سيكون من المفيد أولاً – وفقاً لهارفي- أن نتأمل كيف صنعنا وأعيد صنعنا على مدار التاريخ، من خلال عملية حضرنة دفعتها قدماً قوى اجتماعية رأسمالية قوية. فقد كانت وتيرة التطوير العمراني واتساع نطاقه المذهل، خلال المئة سنة الماضية تعني أنه قد أعيد صنعنا مراراً دون أن ندرك ذلك.
في هذا السياق، يعود هارفي بدايةً إلى لحظة قدوم لويس بونابرت للسلطة، بعد أن قام بانقلاب في عام 1851 ونصب نفسه امبراطوراً في عام 1852. وحتى يتمكن من البقاء سياسياً، لجأ الامبراطور السلطوي لقمع سياسي واسع النطاق للحركات السياسية البديلة، لكنه كان يعلم أنه يتعين عليه التعامل مع مشكلة استيعاب الفوائض الرأسمالية، ولذلك قام بالإعلان عن برنامج ضخم للاستثمار في البنية التحتية داخل البلاد وخارجها. ولتحقيق هذا الأمر، أحضر بونابرت البارون أوسمان إلى باريس، لتولي الأشغال العامة في عام 1853. فكّر الأخير في المدينة على نطاق مهيب، ألحق بها الضواحي وأعاد تصميم الأحياء (مثل حي ليه هال) بدلاً من مجرد إضافة نتف وأجزاء من النسيج الحضري، وقد غير المدينة بالجملة، بدلاً من تطويرها بالتدريج. هذا التغيير لم يقتصر على البنية التحتية، بل استتبع أيضاً بأسلوب حياة حضرية جديدة، وبناء نوع جديد من الشخصية الحضرية. فأصبحت باريس مدينة النور، والمركز الكبير للاستهلاك والسياحة والمتعة (لقد غيرت المقاهي، والمتاجر الكبيرة وصناعة الأزياء من أسلوب الحياة بشكل يمكنها من استيعاب الفوائض الكبيرة من خلال أنماط استهلاكية فجة) لكن في عام 1868 تعرض النظام المالي للاهتزاز، كما خاض نابليون الثالث حرباً ضد بسمارك في ألمانيا وخسرها. مع ذلك وبعد عقود من هذا التراجع في النموذج الجديد للحضرنة، عاد مشروع أوسمان من جديد – وفقاً لهارفي- لكن هذه المرة ليس في فرنسا، بل في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد نُشر تقييم مطول لأعمال أوسمان في مجلة معمارية، وثق بالتفصيل ما قام به وحاول تحليل أخطائه؛ كان كاتب المقال هو روبرت موزيس، الذي فعل لاحقاً بكامل منطقة نيويورك الحضرية، بعد الحرب العالمية الثانية ما فعله أوسمان في باريس. فقد غير موزيس نطاق التفكير بشأن عملية الحضرنة، من خلال نظام شبكة الطرق السريعة وتغيير البنية التحتية (الممولة بالدين) عن طريق تشييد الضواحي وإعادة الهندسة الكاملة، ليس فقط للمدينة، بل للمنطقة الحضرية برمتها. وكما في فرنسا، فقد تضمنت عملية الحضرنة الجديدة، تحولاً جذرياً في أسلوب الحياة والاستهلاك (من مساكن الضواحي المقامة على مساحات كبيرة من الأراضي إلى البرادات وأجهزة التكييف وغيرها من الأمور)، لكن ذلك جاء على حساب تفريغ المدن المركزية، وتركها خالية من قاعدة اقتصادية مستدامة. ومن ثم إنتاج ما سمي بالأزمة الحضرية في الستينيات، التي ميزتها ثورات الأقليات المتأثرة (خاصة الأمريكيين من أصل إفريقي) في المدن الداخلية، الذين حرموا من الوصول إلى الرخاء الجديد.
ولم تكن المدن الرئيسية فقط هي التي دخلت في حالة تمرد، فقد احتشد التقليديون خلف الباحثة الحضرية جين جاكوبز ساعين لمكافحة الحداثة الوحشية لمشروعات موزيس واسعة النطاق، بطرح شكل جمالي مختلف لحياة الحضر يتركز على تطوير الأحياء، والحفاظ على الهوية التاريخية، وفي نهاية المطاف تحسين المناطق القديمة. مع ذلك الوقت كانت الضواحي الجديدة قد شيدت بالفعل، وكان التحول الجذري في نمط الحياة الذي أنذرت به قد أفرز كل العواقب الاجتماعية الممكنة. وكما حدث مع أوسمان وفرنسا، بدأت الأزمة تتكشف، وجاءت أحداث عام 1968 الدرامية في الولايات المتحدة لتعلن عن انخراط طلاب الطبقة المتوسطة من البيض والساخطين على الأوضاع القائمة في حالة من التمرد، وقد سعوا للتحالف مع جماعات مهمشة أخرى، واحتشدوا لخلق حركة تهدف إلى بناء عالم مختلف يتضمن تجربة حضرية من نوع مختلف. وإلى جانب هذا التمرد جاءت الأزمة المالية وهوى النظام الرأسمالي برمته في خضم أزمة عالمية كبرى. ولمواجهة هذه الأزمة، رأت النيوليبرالية – كما يرى هارفي- أن الحل الأمثل يكمن في تحرير السوق، بدل التنسيق السابق مع الحكومة. كما أنه لا بد من توجه عملية إعادة بناء المدن أو الحضرنة إلى خارج الولايات المتحدة الأمريكية. من هنا أخذت أعمال تشكيل المدن من جديد تزدهر في تشيلي وإسبانيا وأيرلندا، كما أخذت تظهر مشروعات عمرانية مع بداية التسعينيات بشكل باذخ في الشرق الأوسط في أماكن مثل دبي وأبو ظبي والرياض وحتى القاهرة، كوسيلة للتخلص من الفوائض الرأسمالية الناجمة عن الثروات النفطية. وكما حدث في المراحل السابقة، جلب هذا التوسع الكبير والأحدث في عملية الحضرنة تحولات هائلة في أساليب الحياة، إذ أصبحت جودة حياة الحضر سلعة تباع للقادرين، فضلاً عن النزوع الدائم للاقتصاد الاستعراضي.
كيف يمكن إعادة «الحق في المدينة» من جديد؟
وبوصفه يسارياً، يرى هارفي أنه قبل التطرق للوسائل والأساليب التي يمكن من خلالها إحياء دورنا في هذه المدن، لمواجهة هذا الحضرنة المميتة لحياتنا ولروح مدننا، فإنه لا بد بدايةً من إعادة النظر بالمفاهيم التقليدية للثورات (خاصة المفهوم اليساري التقليدي). وأيضاً إلى إعادة كتابة تاريخ النضالات العمالية التقليدية، فقد اتضح بعد الفحص والتحقق أن أغلب النضالات التي خاضها عمال المصانع كانت تستند إلى قاعدة جماهيرية أوسع كثيراً. يستشهد هارفي في هذا السياق بكتاب ادوارد تومبسون «صناعة الطبقة العاملة الإنكليزية» الذي رصد من خلاله كيف اعتمد تشكيل هذه الطبقة بدرجة كبيرة على ما حدث في الكنائس وفي الأحياء، كما في مناطق العمل. رغم ذلك، بقيت الرواية الثورية الماركسية تنظر للطليعة (العمال) بوصفها هي من تقود النضال الطبقي – عبر ديكتاتورية البروليتاريا – إلى عالم موعود تضعف فيه الدولة والطبقات، وبالتالي في حال غياب أي دور لهذه البروليتاريا لا إمكانية تذكر لحدوث ثورة.
ولكن أمام هذا العجز عن التغيير لدى الماركسية التقليدية، هل بات يعني ذلك غياب أي فرص جدية للمطالبة بالحق في المدينة من جديد؟ في هذا السياق، يرى هارفي أن الحل الأمثل لتجاوز هذا المأزق النظري الماركسي للثورة، يكمن في تغير مفهومنا عن البروليتاريا ـ كما أشار إلى ذلك هنري لوفيفر- ليشمل جحافل منتجي الحضر غير المنظمين. ومثلما صور ماركس القيود المفروضة على طول يوم العمل، باعتبارها الخطوة الأولى على المسار الثوري، يمكن – وفقاً لهارفي- اعتبار استعادة حق الجميع في العيش في منزل لائق وبيئية معيشية ملائمة هو الخطوة الأولى باتجاه حركة ثورية أكثر شمولية. الحق في المدينة ليس حقاً فردياً حصرياً، بل هو حق جماعي مركز، وهو حق شامل وجماعي، ليس فقط لعمال البناء، بل لكل أولئك الذين يسهلون إعادة إنتاج الحياة اليومية مثل، مقدمي الرعاية، والمدرسين، وعمال الصرف الصحي، وعمال صيانة مترو الأنفاق، وموظفي البنوك، وجمعيات الأحياء، والشباب، وقوى الثقافة والذاكرة. هنا يغدو مفهوم «الحق في المدينة» مع هارفي مفهوماً يسعى لخلق وحدة في خضم تنوع هائل من الفضاءات والمواقع الاجتماعية المتشرذمة. وفي ظل هذا المفهوم يمكن حتى لجماعات اليسار التقليدي أن تخوض نضالات متعلقة بالحضر، لأن الحركات الاجتماعية الحضرية تحتوي دائماً على مكون طبقي، حتى عندما تكون متمحورة في الأساس حول الحقوق، والمواطنة، والكدح من أجل إعادة الإنتاج الاجتماعي.
٭ كاتب سوري
القدس العربي