صفحات الناسمازن عزي

ذئاب منفردة تحت قمر “الخلافة”/ مازن عزي

 

 

 

بعد حصار دام 16 ساعة، اقتحمت الشرطة الأسترالية، الإثنين الماضي، مقهى لينت في سيدني، وحررت الرهائن المختطفين من قبل معن هارون مؤنس. العملية أسفرت عن مقتل رهينتين، والشيخ هارون، اللاجئ الإيراني إلى أستراليا منذ العام 1996، المعروف برسائل “الكراهية” التي كان يرسلها إلى عائلات الجنود الأستراليين القتلى في أفغانستان. وكالات الإعلام ومحللون متخصصون في “الإرهاب”، أكدوا بأن الشيخ هارون “ذئب منفرد”.

وفي مدينة نيويورك الأميركية، قُتل اثنان من ضباط الشرطة، السبت، بعد تعرضهما لإطلاق النار من قبل إسماعيل برينسلي، الذي أقدم على الانتحار بعد قليل من الهجوم. منفذ الهجوم، مقيم في أتلانتا، وجاء إلى نيويورك مؤخراً قادماً من بلتيمور، وأكد قائد الشرطة أنه “حتى اللحظة، لا توجد أي مؤشرات تفيد بأن برينسلي على صلة بأي جماعة أو منظمة إرهابية”.

كما أكدت الشرطة الأميركية مقتل أحد أفرادها في ولاية فلوريدا، بعد تعرضه لإطلاق النار، الأحد. المشتبه به، شاب في الثالثة والعشرين من عمره، يُدعى ماركو أنطونيو باريلا.

وفي فرنسا، ألقت الشرطة الفرنسية القبض على رجل بعد قيامه بدهس عدد من المارة في مدينة ديجون، وهو يردد “الله أكبر”، ما أسفر عن سقوط عدد من الجرحى. وفتحت إدارة مكافحة الإرهاب تحقيقاً في الحادث، لاحتمال أن يكون الهجوم جاء بدافع “التشدد الإسلامي”.

وفي مدينة جويه لي تور، أعلنت الشرطة الفرنسية عن مقتل مسلح اقتحم أحد مراكز الشرطة، السبت، وقام بطعن ثلاثة شرطيين وهو يهتف “الله أكبر”، قبل أن يقوم أحد أفراد الشرطة بإطلاق النار عليه، فأرداه قتيلاً على الفور.

وأعرب رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، عن “قلقه” داعياً في الوقت نفسه إلى “ضبط النفس” و”التعقل”، بعدما اقتحمت شاحنة سوقاً لعيد الميلاد في وسط مدينة نانت، الإثنين، ما خلّف 11 جريحاً.

ذئاب اللا أحد

شاع مصطلح “الذئاب المنفردة” في التسعينيات، بعد استخدامه من قبل المتعصبين الأميركيين؛ أليكس كورتيس وتوم ميتزغر، اللذين يقولان بسيادة العرق الأبيض على بقية الأعراق، وضرورة هيمنته على الإقتصاد والسياسة في العالم. ميتزغر دعا إلى نشاطات تحت-أرضية يقوم بها أفراد أو خلايا صغيرة، تشكل أعمالاً قتالية منفردة، ضد الحكومة أو أهداف أخرى، وتنسب إلى مجهولين.

والذئب المنفرد، يتصرف بمفرده، لدعم معتقدات أو فلسفات تخص جماعة متطرفة، من دون أوامر أو توجيهات خارجية. وتقنيات الذئب يتم تطويرها وتوجيهها، ذاتياً، كما ينظّر كورتيس لذلك: “لا يمتلك الذئب المنفرد أي تواصل شخصي مع المجموعة التي يتماهى معها، ما يجعل من تعقبه، من قبل مسؤولي مكافحة الإرهاب، أمراً بالغ الصعوبة”.

ذئاب الدولة الإسلامية

مقطع مصوّر نشرته مؤسسة “دابق” الإعلامية التابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” في “يوتيوب”، بعنوان “الذئاب المنفردة: جيش الدولة الإسلامية”، تعهد “عباد الصليب بقيادة أميركا”، بمواجهة “حرب جديدة، تنسف مخططاتهم وتكشف حقائقهم، وتحول بينهم وبين ما يريدونه”. وكان المتحدث باسم “الدولة الإسلامية”، الشيخ العدناني، قد ذكر في تسجيل صوتي سابق أن “أفضل ما يمكنكم فعله، هو قتل كل كافر، فرنسياً كان أو أميركياً أو أياً من حلفائهم”.

وتلعب مواقع التواصل الاجتماعي، وعالمية وصولها، ولا محدودية البيانات التي يمكن نقلها عبرها، وسيلة تلجأ إليها الجماعات المتطرفة، وتحولها إلى سلاح لتجنيد الأنصار الجدد، في أي مكان في العالم. الخبير في قضايا “الإرهاب الرقمي”، جيف باردين، يعتقد بأن تنظيم “الدولة الإسلامية”، يجند شهرياً أكثر من 3400 عنصر عبر حملات إلكترونية غاية في التنسيق. هذا التجنيد يتم بغرض تحويل أفراد إلى مقاتلين قادرين على القيام بأي أنشطة مسلحة، من دون أن تتمكن مخابرات الدول الغربية من تتبع تحركاتهم. في حين أن الرئيس السابق لوحدة مكافحة الإرهاب في الشرطة البريطانية، نيك أوبرايان، يقول: “يتعلق الأمر بوسيلة تكنولوجية رخيصة الثمن ويسهل التحكم فيها، سواء كان المستخدم مختبئاً داخل مغارة في أفغانستان، أو جالساً قرب حاسوبه المرتبط بهاتف يعمل بالأقمار الاصطناعية، فتغريدة في تويتر لا تكلف صاحبها أي شيء”.

إذاً، يتعلق الأمر، باستخدام تنظيم الدولة، لثورة وسائل الاتصال الحديثة، في خدمة قضيته: إقامة الخلافة الإسلامية. أي، أن تستخدم وسائل تقنية، تنتمي إلى ثقافة ومعايير مرحلة توصف بما بعد الحداثة، لنشر أفكار تنتمي إلى صدر الإسلام الأول، والقرن السادس الميلادي. قد يشبه ذلك، ويعادل، اكتشاف الإنسان البدائي، للنار.

لكن الذئاب الجهادية المنفردة، هي ظاهرة تخص المجتمعات الغربية. وتتضمن قائمة الذئاب، عشرات الأسماء، من المواطنين الغربيين الأصليين الذين تبنوا فكرة السلفية الجهادية، وقاموا بعملياتهم ضد أبناء جلدتهم. قد يتعدى ذلك حالة الإغتراب التي تعيشها أبناء الجاليات المسلمة في الغرب، إلى تبني المحتوى الإسلامي، بالمعنى الهوياتي؛ اكتشاف بُعد جديد للذات، عبر اسباغ قيمة عليا على فكرة قدسية، وتبخيس الذات أمامها. قد يعطي ذلك إحساساً بالأمان، والإنتماء، لمن يعانون ضروب الشعور بالدونية، وربما العدوانية المزمنة، وعدم القدرة على التكيف مع القيم المجتمعية السائدة في الغرب. كراهية الذات، حين تتحول إلى طقس قدسي، يقود إلى الخلاص، عبر تحويرها إلى كراهية الآخر، تكفيره، قتله.

سوابق جنائية واضطراب عقلي

الشيخ هارون قال في موقعه الإلكتروني، إنه تعرض دوماً لـ”الهجوم والاتهامات الكاذبة من قبل الحكومة الأسترالية ووسائل الإعلام، منذ أن بدأ حملة الرسائل السياسية العام 2007″. كما عبّر عن غضبه من حكم قضائي حرَمه من رؤية أطفاله. وقال إن “الحكومة الأسترالية أخذت أطفاله منه، وإنه ممنوع من رؤيتهم أو حتى الاتصال بهم”.

هارون كان قد أثار حفيظة القائمين على المذهب الشيعي في سيدني، الذين طلبوا من السلطات التحقيق في حقيقة ما يزعمه عن كونه رجل دين شيعياً. وحين أعلن تحوله إلى المذهب السنّي، رفضه رجال الدين السنّة في المدينة. قد يكون ذلك نتيجة سجله الجنائي السيء الصيت. فقد اتهم، العام 2013، بالمساعدة في قتل زوجته، طعناً، واشعال النار في شقتها بسيدني، ثم أطلق سراحه بكفالة. كما أنه متهم بـ50 تحرشاً جنسياً في العام 2002، حين ادعى أنه “معالج جنسي”، مطلقاً على نفسه اسم محمد حسن مانتاغي.

رئيس الوزراء الأسترالي، أشار إلى ذلك بشكل متأخر، ومقتضب، حين قال: “الجاني معروف جيداً لكل سلطات الدولة… كان لديه تاريخ طويل من جرائم العنف، والميل إلى التطرف والاضطراب العقلي”.

بدوره، اسماعيل برنسلي، قاتل الشرطيين في نيويورك، يُرجح بأنه كان قد أطلق النار على فتاة، يُعتقد أنها صديقته السابقة، فأصابها بجروح بالغة. برنسلي كان قد نشر تهديداً موجهاً لشرطة نيويورك في مواقع التواصل الاجتماعي، بحسب شرطة بالتيمور.

من جهة أخرى، نسبت السلطات الفرنسية الحوادث الأخيرة إلى “مختلين عقلياً”. في حين اعتبر المدعي العام الفرنسي، أن دافع التطرف الإسلامي يبدو واضحاً في بعض هذه الهجمات. إلا أن سائق السيارة الذي صدم حشداً في ديجون، بحسب المدعي العام، يعاني “اضطرابات نفسية قديمة وكبيرة”، وأضاف أن “عمله لا يمت بأي صلة إلى الإرهاب”. وأكد أن المهاجم هو فرنسي في الأربعين من عمره، ولد في فرنسا لأم جزائرية وأب مغربي، وقال إنه عمل بمفرده بعد تأثره لمعاناة الأطفال الفلسطينيين والشيشانيين. وأوضح أن الرجل مدمن سابق على الكحول، تلقى 157 علاجاً في مستشفيات للأمراض النفسية، وأنه يعاني من “اختلال قديم” يسبب له “هذياناً”.

حيرة التجاهل

وسائل الإعلام، زعمت بأن الشيخ هارون “المنعزل”، بحسب ما يصفه معارفه، تحوّل إلى ذئب “منفرد” منذ إعلانه في موقعه الإلكتروني، مبايعته للخليفة ابراهيم، أبو بكر البغدادي، ولدولة الخلافة الإسلامية. لكن ذلك الإعلان، ورغم أنه يخالف أبسط قواعد الذئاب المنفردة، لم ينجح أيضاً في جذب الانتباه إليه.

تجاهل المخابرات الأسترالية للمحتوى الذي ضمنه الشيخ هارون، في مبايعته لدولة الخلافة، قد يناقض ما قال به الخبير جيف باردين، حول تركيز أجهزة المخابرات على جمع أكبر قدر من المعلومات للوصول إلى رؤوس التنظيمات المتطرفة: “إنها تنكبّ على تحليل المعطيات الخاصة بأعضاء مجموعات جهادية، وفك خيوط عملياتها والاندساس داخلها، بشكل يسمح بتفكيك مكوناتها، ليسهل التعرف على هويات من يقف وراء تلك التنظيمات السرية”.

بدوره، مهاجم الشرطة الفرنسية بالسكين، هو من مواليد بوروندي بأفريقيا، ولديه “سجل إجرامي” معروف لدى الشرطة، إلا أن اسمه لم يكن مدرجاً على قائمة المراقبة الخاصة بإدارة الأمن الوطني، كما أن شقيقه معروف لدى الإدارة، وهناك تقارير تشير إلى أنه كان يعتزم السفر للقتال في سوريا.

رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، دعا الثلاثاء، إلى “التيقظ والوحدة”، بعد الهجمات الثلاث الدامية التي شهدتها فرنسا خلال الأيام الأخيرة، وصرّح فالس “إننا لا نقلل من شأنها”، مؤكداً أنه لا يوجد “أي رابط” بين الهجمات، وأن قوات الأمن أمام “أفراد… يمكن أن يتصرفوا منفردين”، ما يُعقد عمل أجهزة الاستخبارات.

في حين أن وزير الداخلية الفرنسية برنار كازنوف، أشار الإثنين، إلى أن الهجمات المنفردة، هي أفعال “مختلة” وأنه “من الأصعب تفادي مثل هذه الأعمال”.

واقع يشبه السحر

الشيخ هارون طلب بعد احتجازه للرهائن في المقهى، راية لتنظيم “الدولة الإسلامية”، والاتصال برئيس الوزراء الأسترالي توني أبوت، وأن تقول وسائل الإعلام إن أستراليا تتعرض لهجوم من “الدولة الإسلامية”. الشيخ طلب من أحد المراسلين مخاطبته بلقب “الأخ”. وهارون تمكن ببندقية، من حجز العشرات، لكن بعض الرهائن الذين تمكنوا من “الفرار”، أشاروا إلى “سترة غليظة” كان يرتديها هارون، و”ظنوا” أنها تحوي حزاماً ناسفاً. تقارير الشرطة اللاحقة نفت ذلك.

المهاجمون الفرنسيون، مُغفلو الأسماء، هتفوا: “الله أكبر”، أثناء عملياتهم. بعضهم حمل سكاكين، وآخرون استخدموا سياراتهم لدهس المدنيين.

ووصف قائد شرطة نيويورك، هجوم اسماعيل برنسلي، بأنه “عملية اغتيال مدبرة”، لافتاً إلى أن الضابطين القتيلين، كانا يجلسان في سيارة الدورية، عندما قام المسلح بإطلاق النار عليهما دون أي تحذير مسبق.

في كل تلك الحوادث، يظهر تزامن غريب مع قمر دولة “الخلافة”، حين هلّت “بشائره” على أمة الإسلام. ثمة حكاية أسطورية، تربط بين عواء الذئاب والقمر، وتقول بأن “المستذئبين” من البشر، تكتمل ذئبيتهم في ضوء بدر كامل. ويبدو بأن ذئابنا المنفردة، تبعث برسائلها، عملياتها، لتحث “بدر” الخلافة على الاكتمال، فوق الأمم كافة. هنا، لا فرق بين “رومانسية” جهادية منشودة، وأعمال إرهابية متعمدة، ما دام السحر يطل علينا، ويطغى على واقع محقون بالخيال.

كاتب وصحافي سوري

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى