رأيت الصورة تبكي.. دموع الطيب تيزيني/ محمد ملص
لم تكن المرة الأولى التي أرى فيها صورة لقامة ثقافية سورية يبكي! لعلّ تلك المرة؛ كان البكاء مغمّساً بالحنين لوطن يغرّبك ويبعث بك إلى المنافي. وكان هذا قبيل هذه السنوات الخمس؛ التي جرى خلالها لهذا الوطن ما جرى. لكن الصورة التي رأيتها هذه الأيام؛ كانت لقامة ثقافية سورية أخرى؛ فضلت البقاء والعيش في ربوع هذا الوطن على الرغم مما يحصل له وفيه. فتساءلت: أين صار هذا الوطن؟!
وباعتبار أننا على مدى هذه السنوات الخمس الأخيرة؛ نعيش مفرغين من «الهواء» وعديمي «الوزن» ولا «ثقل» لنا؛ فإننا لم نتوقف عن معايشة «صور» هذا الوطن؛ وهو يُدمَّر أمام أعيننا؛ قطعة وراء الأخرى؛ ويتذاوب مواطنوه كتلة وراء الأخرى بأشكال مختلفة بين اللجوء والهجرة؛ ويصل الأمر به؛ إلى ما هو عليه اليوم؛ إلى حد أن «الأقفاص» الحديدية المعبّأة بمواطنيه؛ نشرت على الأسطحة وفي الشوارع؛ مهما كانت هذه الأقفاص؛ سواء كانت جريمة حقيقية وفعلية؛ أو «لعبة درامية» مفبركة؛ لكنها تفصح كما غيرها من الصور؛ عن الكثير مما نحن أسرى له. وتحمل الكثير أيضاً من المجاز؛ ومن الدلالات لما آل إليه حال الإنسان السوري. والذي لا يمكن أن يغيب عن الوجدان؛ أو يمحي من الذاكرة إطلاقاً.
حين رأيت صورة المفكر الطيب تيزيني يبكي؛ لم أفاجأ أبداً؛ ربما دهشت! فأخذت أتامل صورة هذا «الطيب» وأحاول أن أرى تلك «اللحظة» المخبأة؛ وراء طفرة الدمع في تلك العيون؛ التي تشــعّ طيبة وحناناً؛ فلم يتبدّ لي من خلال الاختناق الذي أصابني؛ إلا ذاك «الاختناق» الكامن وراء ذلك التغضّن الكسير؛ في وجه الطيب تيزيني.
كان لا بدّ لي من أن أفكر بالحال الذي يأخذ برجل تجاوز الثمانين من العمر؛ إلى هذا «الاختناق»؛ على الرغم من أنه قضى ما يتعدّى نصف قرن من الزمان؛ وهو يقرأ ويدرّس ويكتب ببصيرة وبعمق؛ ومن فكرة راهنة إلى فكرة أكثر راهنية؛ ومن مكان إلى آخر؛ بدأب نادر وإلحاح لا يلين؛ وهو يسعى أن يبين ما يمكن أن يحمي هذا المجتمع؛ وما يمكن أن نفعله؛ كي نجنّبه أن يصل إلى هذا الذي وصل إليه الآن.
أعتقد أن الإنسان بعد هذه الرحلة الطويلة من الألم؛ لا بد من أن يجد نفسه؛ وهو يتأمل ما جرى للوطن؛ أنه أمام الأسئلة التي لا تقود إلا إلى الشعور بالاختناق؛ وأن يغرورق بالدموع.
بينما كنت أغوص في تلافيف تلك الصورة؛ كان الشيء الغريب أني رأيت الصورة ذاتها قد نفرت الدمعة منها؛ وتصادى في داخلي رنين كلمات ظهرت لي بعد غيابها لزمن طويل؛ ثم أخذت تلك الدموع التي طفرت من الصورة تكتب الكلمات التي يصدح رنينها في داخلي: «إبك يا بلدي الحبيب».
ثم أخذت أسعى لتذكّر مصدرها؛ واستطعت أن أستعيد أنها عنوان الرواية التي قرأناها في الستينيات ونسيناها؛ والتي لا أذكر منها اليوم؛ إلا الألم العميق الذي كان يتوشّم في داخلنا خلال قراءتها؛ ونحن في مقتبل العمر. وطبعاً كان لا بد من الاستعانة بالإنترنيت؛ لتذكّر اسم كاتبها الجنوب إفريقي (آلان باتور).
لأني أتحدّث هنا؛ عن انطباعي لصورة الطيب تيزيني؛ فلن أضيف أي جديد إذا قلت إن هذا المفكر السوري الذي درس الفلسفة؛ واختار لنفسه لا أن يفسر الواقع فقط؛ بل أن يسعى لتغييره أيضاً. فقد كرّس حياته وعلمه ومعرفته وفكره الفلسفي؛ لاستقراء محسوس ومجسّد للواقع العربي وإشكالياته الراهنة؛ ولتوصيف الأحوال التي عليها هذا الواقع وهذا المجتمع؛ واستنتاج الأفكار التي يمكن لها أن تنهض به ليستعيد العافية المفتقدة؛ سواء في الماضي أو الحاضر؛ ومن التراث إلى الثورة؛ كي ينهض هذا المجتمع العربي؛ ويرتصف بين المجتمعات السائرة نحو التقدم والرفعة. وما قام به أو حققه من أفكار واستنتاجات؛ سواء على الصعيد التعليمي؛ أو في حضوره الدائم في قضايا الحياة الثقافية. كان عقله وأفكاره وخبرته؛ هي دائماً مجالاً رحباً لإثارة النقاش والحوار؛ مع كل التيارات والاتجاهات والأيديولوجيات. ليس على الصعيد الفكري البحت؛ بل على صعيد القضايا الوطنية المعاشة والفاعلة.
ليس هذا التأكيد على توجّه وجهد الطيب تيزيني؛ سواء اختلفت معه أو اتفقت؛ القصد منه التعبير عن تفرّده؛ بقدر ما هو تأكيد على توجّهه وفاعليته؛ من معرفتي الشخصية به؛ وقراءاتي ومتابعتي له ولأفكاره؛ منذ البداية وحتى اليوم.
لكن واقعنا اليوم؛ غدا بالخوف عدوّاً لنفسه! ولم تعد المرجعيات الراهنة هي ذاتها؛ المرجعيات العقلانية والأخلاقية والسلوكية؛ التي تربّينا عليها؛ أو اتخذناها «مصحفنا» الذي اتكأنا على «آياته».
فقد غدت المرجعيات الراهنة نقيضة لتلك. وحلت الصفاقة مكان الشجاعة؛ والمواربة مكان الشهامة؛ والسرقة مكان النزاهة؛ والكذب مكان الصدق.
ألم يقل الطيب أنه «حين يُدمّر الداخل تكثر الغربان وتصبح البلاد قابلة للاستباحة»؟.
اليوم لعلنا ندرك بعمق وحسرة؛ ذاك العقم الثقافي الذي تحدثتَ عنه. وأن «رباعيات» الاستبداد هي التي نجحت بدلاً من بيانك في النهضة والتنوير العربي، فقد غدت هويتنا الوطنية مفكّكة ومرشحة للقضم.
اسمح لي يالطيب؛ أن أختم هذه الانطباعات والخواطر؛ بأن أشير إلى أننا في منتصف السبعينيات؛ حين كتبنا سيناريو لفيلم سينمائي عن «القرامطة»؛ كان سيحققه صديقنا عمر آميرالاي. أردنا لخاتمة ذاك الفيلم الذي لم يتحقق؛ أن يعيش (الحسن الأعصم) قائد قرامطة البحرين؛ اللحظة الصعبة؛ حين أدرك أن جحافل جيوش الخليفة المستبدّ؛ تزحف لتستبيح وتنهي تلك الدولة العادلة؛ بذاك الشعور بـ»الاختناق»، لكنه حبس دموعه ولم يسمح لها أن تغرورق في عينيه.
(مخرج سينمائي سوري)
السفير