رحلة العودة من المطار
عناية جابر
رحلة العودة من الولايات المتحدة الى مطار بيروت في كفة ورحلتي الطويلة من المطار الى بيتي في كفة اخرى. الاخيرة استغرقت دهرا رغم قصر المسافة- لا تتعدى الدقائق العشر بالسيارة بين المطار وبيتي- ذلك انها طالت ما يكفي لاستعراض حياة وطن وادراك مدى التعفن الذي اصابه.
رحلة الطائرة امتدت على يومين كاملين مملين الى درجة سمحت لي باستعادة شريط حياتي كاملا خياراتي المهنية، احلامي وسوى ذلك من امور الحياة وشجونها…..
اما الرحلة الثانية التي يفترض انها قصيرة ولا تتعدى الكيلومترات السبع فهي تجبرك على المرور على حواجز اشعوبب مختلفة ومتنوعة تشترك جميعها في وسائط التعبير وتختلف بالاهداف. كلها تحرق الدواليب بلا استثناء وكلها ترمي العوائق في الشوارع بغية التعبير عن مطلب ما او رفع ظلامة ما. لكن المشترك فيما بينها يقف هنا. ويتراءى للعائد من بلاد الاجانب مثلي ان هذه الشعوب التي تقتسم بقعة جغرافية بهذا الصغر لا يجمعها اي هدف مشترك. لا بل بالعكس فما هو مطلب محق وشرعي لجماعة منها هو بمثابة اعلان حرب والتحريض عليها عند الجماعة الثانية .
فالذي يريد اطلاق الرهائن في سوريا مثلا لا يجد وسيلة فعالة لاطلاقهم غير قطع الطريق على نفسه وشعبه. فيما تستشعر الجماعة الاخرى في هذا الخطف لهؤلاء الرهائن اياهم عملية انتصار لـبجماعتهاب هناك وتصحيحا لخطأ تاريخي جعل الاقلية تنتزع السلطة في غفلة من التاريخ .
نخلص من هذا الحاجز بعد لأي وبعد جهود جبارة استثنائية واتصالات بكل من توفر من اصدقاء واعدقاء لكي نجد انفسنا بمواجهة حواجز وجماعات اخرى باطارات مشتعلة ايضا لمطالب مختلفة واحيانا معاكسة. هنا الجماعة تستنكر توظيف عدد من العمال الذين تعتبرهم محسوبين على طائفة اخرى ولو حليفة. فيما تعتصم اخرى على مقربة منا مطالبة بنزع سلاح المقاومة.
ثلاثة حواجز كافية لعائد من السفر كي تشير في دلالاتها الى انحلال الدولة الجامعة المفترض انها تضم شعبا لا شعوب. ليس هذا وحسب بل وتشير الى ضرورة طرح السؤال حول وجود هذا الشعب الموحد اصلا وحول غياب اي رؤية مشتركة بين مكوناته او اي هم مشترك. تسير الامور بين الجماعات كأنها تجتمع في دائرة واحدة لكن كل منها يدير ظهره للآخر باتجاه رغباته وتطلعاته الخاصة. وهي فكرة تشكيلية بامتياز وتجريدية وسوريالية بامتياز اكثر .
تخلص لا بد الحواجز لتصل الى بيتك فتصطدم بحواجز من طبيعة اخرى وان تكن غير مستقلة تماما عن الحواجز الاولى لجهة اسبابها وتردداتها عن تلك التي في الشارع. تصل الى بيتك مع حملك الثقيل فتجد كما هجست تماما ان الكهرباء التي توصلك الى بيتك مقطوعة ولم يحن بعد موعد كهرباء الاشتراك مع الشركة الخاصة. حسنا صعدنا بحملنا الثقيل الى البيت لنجد ان انقطاع الكهرباء ادى الى انقطاع المياه أيضا في بلادنا الجميلة حيث الحرارة تناهز الاربعين درجة مئوية.
رحلة العودة من المطار الى بيتي كانت بليغة بطولها بحيث قادتني الى جروح الوطن التي تزداد يوما بعد يوم. وطن يفقد اهله عقلهم اكثر فأكثر وكأنهم شربوا جميعهم من ‘نبع الجنون’. الشيء الوحيد المتبقي لكل عاقل ان يشرب مثلهم من النبع نفسه لكي يشاركهم حفلتهم التنكرية ولكي يتمكن من متابعة العيش بينهم بدون اسئلة كبيرة. المهم الا تسأل نفسك الى اين نسير بل ان تسير وكفى. المهم ان تعرف ما هي هويتك الطائفية وان تنضم الى قطيعك بكل غريزية. ولماذا العقل والمنطق طالما هناك غرائز؟
لا ماء لا كهرباء لا طرقات سالكة ولا آمنة في دولة الجماعات الطائفية التي عجزت عن تأمين هذا الحد الادنى من شروط العيش. فكيف يمكنك الركون الى مثلها وتسليمها مقاليد وطن وامة ودولة وهي اعجز من ان تؤمن ابسط من ذلك بكثير. فكل ما نطلبه حاليا من هذه الطوائف لا يتعدى توصيل الكهرباء وتوزيعها لا اعادة اختراعها. كما ان ايصال المياه الى البيوت يبدو انه اسهل على ‘اخوت شانيه’ من عقلاء وعلماء هذه التركيبات العصبية.
كيف يمكنك ان تثق اذا بهذه القوى التي يمنعها عجزها الفكري والتنظيمي عن توقع متطلبات الناس من الحاجات الاساسية؟ لا بل كيف تريد منهم ان يعدوا للغد عدته وهم يتمنعون اصلا عن اجراء اي تعداد سكاني يسمح لهم يتوقع الحاجات وتطورها في الزمن بذريعة عدم كشف احجام الطوائف ووزنها في المحاصصة؟ عصبيات لا تريد ان تبحث في اي من مشاكلها الفعلية. ‘عقلها’ مأخوذ بحجم حصتها من دولة تتآكل وتتعفن كل يوم. الجنازة حامية والميت كلب. يريدون السيطرة على دولة لم يعد فيها من الدولة الا الاسم فقط. يريدون رفع اعلامهم على بناء لم يعد صالحا لغير الهدم من فرط ما ضربه الاهتراء. يسيرون بعكس التاريخ وعكس كل الشعوب. ففي الوقت الذي تضحي شعوب الارض بهوياتها التاريخية لكي تبني وحدات سياسية كبرى جديدة من اجل البقاء على قيد الحياة تضحي شعوبنا بمستقبلها وحياتها من اجل نصرة الهوية المحلية الصغيرة. حكومات الارض كلها تدرس كيف ستؤمن العمل والسكن والصحة لابنائها بينما حكوماتنا تنكب على تهجيرهم الى دول اخرى. شعوبنا مولعة اليوم بـ’الحواجز’ تنصبها بسبب ومن دون سبب.
حواجز ان افصحت عن شيء فعن حقيقة اننا محكومون بقوى سياسية عاجزة وهرمة بسبب من تركيبتها الاجتماعية الطائفية. السياسي هو من يسوس البلاد اي يديرها حسب اللغة العربية فإذا كان عاجزا عن ايجاد الحلول لمثل هذا النوع من المشاكل البسيطة فبربكم بماذا تريدوننا ان نكلفهم؟ بأي مهمة كبر شأنها ام صغر؟
القدس العربي