رسالة سوريّة إلى فرنسا / حسن القالش
يتفاقم بمرور الوقت شعور فرنسا بأنّها مهدّدة داخليّاً، كأحد تداعيات القضيّة السوريّة عليها، ويَكمُن التهديد في الجانب الجهادي الإسلاميّ في تلك القضيّة. بيد أنّ الخطّة الأمنيّة التي أعلنت عنها حكومة مانويل فالس في نيسان (أبريل) الماضي لمواجهة ظاهرة الجهادييّن الفرنسيّين الذّاهبين والعائدين من سورية لا يبدو أنّها تتوافق مع التاريخ المشرقي لفرنسا، وهنا تحديداً تكمُن إحدى عُقَد القضيّة السوريّة على المستوى الدولي.
ذاك أنّ دولاً تمتلك تاريخاً طويلاً وحافلاً في المنطقة كفرنسا أُصيبت بنوع من الشّلل الاستراتيجي، فبتخلّيها عن سياستها الكولونيالية، أو عن رُوح هذه السياسة، بما كانت تقدّمه لها من دراسات وأفكار، يبدو أنها فقدت القدرة على فهم الواقع الجديد والتغيّرات التي يعيشها المشرق، وعلى استشراف مستقبله بالتالي، فضلاً عن قابلية التدخل الإيجابي فيه.
بكلمات أبسط: لم تعد فرنسا تعرف ما تريد من هذا المشرق كما كانت من قبل، ما جعل حضورها الحالي فيه أقرب إلى رفع العتب عن هيبة الماضي القريب.
والحال أن أحد جوانب القصور في الخطة الأمنية للحكومة الفرنسية يكمن في عدم الاستفادة من ذاك الماضي الكولونيالي، وتحديداً من تجربة الانتداب على سورية ولبنان و «سياسة الأقليّات» التي اعتمدتها في البلدين. فإذا كان صحيحاً، وهو صحيح، أنّه كانت لهذه السياسة أخطاء ومساوئ، فقد كان لها وجه صائب في المقابل، تمثّل في التركيز على الأقليّات الإثنية والدينية في المنطقة وإدراك تمايزها عن محيطها، وحساسية مصيرها، فضلاً عن الموقف المبدئي المُبكّر من فكرة القوميّة العربيّة الذي أثبتَ وجاهته تاريخيّاً.
وانطلاقاً من هذه الرؤية يمكن البحث عن توسيع الخطّة الأمنيّة الفرنسيّة، أو تسييسها بشكل أفضل، وقد يكون ذلك بإدخال بعض عناصر سياسة الأقليات إليها، فيصار إلى تطبيق هذه السياسة على شريحة من مُسلمي فرنسا، وبهذا يعاد صوغ مفهوم «الاندماج» الذي تُقاومه مجتمعات المسلمين في أوروبا.
ولعلّ إحدى أهم المؤسسات القادرة على المشاركة في هذه السياسة الجيش الفرنسي. ذاك أنّ تجربة إشراك أقليّات المشرق في المؤسسة العسكريّة كان أولى الخطوات التي أحدثت صدمة في الوعي الجمعي لهذه الأقليّات، والتي أدّت، في ما بعد، إلى ولادة هويّة جماعية قادت إلى رغبة في تأكيد الذات والوصول إلى سؤال الهوية الوطنية، وهو ما ترافق يومها مع ميل الى البقاء تحت الرعاية الفرنسيّة، والرغبة في الانتماء إلى الغرب وقيَمه.
لكنّ أنجع الحلول كانت في تجنّب الفشل السياسي والأخلاقي لفرنسا وشركائها الدوليّين في سورية منذ بداية الثورة. فهكذا، وإضافة إلى الخطر الجهاديّ، وَجد اليمين المتطرف فيها، وفي أوروبا عموماً، البيئة المثاليّة للّعب على الأوتار الوطنيّة الحسّاسة ورفع مستوى شعبيّته، فخلق هذا اليمين بدوره البيئة المثاليّة لدخول روسيا البوتينيّة في عمق أوروبا عبر تحالفه معها، وهذا ما جرّه الفشل في سورية، الذي لم يَفُت أوان استدراكه بعد، فالحلّ وخلاص فرنسا من كابوسها السّوري يكمن هنا أوّلاً.
* كاتب وصحافي سوري
الحياة