رفّة عين اسمها الاستيقاظ/ راتب شعبو
قد يبدو من الطريف أنني كنت أستسلم مراراً، وأنا في سنوات سجني المديد، لبزوغ أمل طارئ بأن ما أنا فيه ليس إلا حلما ثقيل. وكنت أبدأ، بكل قدراتي الواعية، في التحقق من كوني يقظا بالفعل، وأن ما أنا فيه هو حياتي الحقيقية، وليست إحدى ضلالات النفس وخدعاتها أو إحدى مشتقات الأماني المعكوسة، على ما تذهب إليه نظريات الأحلام.
تنتهي عملية التحقق بلحظة واحدة من خض العقل وتركيز النظر لاكتشاف حدود الحلم والخروج إلى اليقظة. لحظة واحدة من بحث كثيف عن الحافة التي تفصل عالمين، عن الشق الذي يسمح للنفس الحبيسة أن تتبخر رويداً رويداً خارجةً من مضيق الكابوس. هذه اللحظة الواحدة تجعلك تعيد التأكد من أن هذا الباب الحديدي ثابت لا يزول، كما هذه الحيطان ذات البقع المصفرة الكريهة بفعل الرطوبة، وكما تلك الشبابيك المقضبة العالية.
بلحظة واحدة تتأكد أن هؤلاء الأشخاص الساعين في أرجاء المهجع لا يتبدلون، ولا تتماوج المسافات الفاصلة بينهم، كما لا تبدو عليهم الخفة وانعدام الثبات الذي يميز شخوص المنامات عادة، إنهم على المستوى نفسه من الواقعية الذي أنت عليه. خلال هذا التحقق الخاطف تتسرب مرارة ارتدادك المهزوم إلى قسوة المحيط الثابتة، الارتداد اللين الذي تفوح منه رائحة كسولة شبيهة بالسخرية الذاتية التي هي الترميم الأنسب لما تسببه هذه الآلية الطريفة، ولكنها القاسية، من تشققات عميقة. السخرية الذاتية في المتناول دائماً، جاهزة للخدمة كما تكون سيارات الإطفاء في المطارات.
“تكرار بزوغ أمل أخرق، ثم خفوته العاجل وانطفاؤه، وهزيمة النفس المطرودة من عالم بديل قبل أن تدخله، المطرودة قبل أن يتاح لها الوقت الكافي لطرق الباب. أقول في نفسي، إنها حيوية اليأس، أو هو نبض اليأس الذي يبقيه حياً فلا يتحول إلى جثة منتهية. ما قيمة يأس ميت أو منته؟ الأمل الأخرق البازغ الذي لا يفتأ أن يموت، ليبزغ وينطفئ من جديد في هذه البركة البليدة الراكدة، هو ما يبقي اليأس حياً. ثم أسأل نفسي وقد فاجأني قولي السابق: هل الأمل هو حياة اليأس؟ هل ينبض قلب اليأس بالأمل؟ وحين أدرك ذلك أقول: لا يأس إذن بلا أمل.
إلى الحلم يهرب المرء من يقظته القاسية، لأن الحلم يبقى عجينة دافئة طيعة لنفوس المعذبين. لكني وأنا المعذب كغيري، أبتكر أو تبتكر نفسي طريقة أخرى، فتحول اليقظة إلى حلم تريد أن تصحو منه إلى يقظة أخرى هي بمثابة حلم.
يكتب “أبو المجد” لمراسلة صحافية تعرّف إليها حين كُلف بمرافقة صحافيين يقومون بجولة في تدمر قبل أشهر من استيلاء داعش عليها: “أتمنى أن أستيقظ في بيتنا القديم، لأجد أن الحرب كانت مجرد حلم”. أبو المجد هو اسم وهمي لعسكري سوري من جنوب البلاد، سوف يضطر إلى ترك بيت العائلة التدمرية التي لجأ إليها واحتضنته أياما عديدة كي لا يتسبب لها بأذى، بعد تهديدات عناصر داعش لكل من يؤوي أحداً من عساكر النظام. وسوف يلقى حتفه ذبحاً في اليوم نفسه أمام جمع من رواد المسجد الذي سُحب منه وهو يصلي باللباس التدمري التقليدي الذي أعطته إياه العائلة التي حمته.
كان أبو المجد قد كتب للمراسلة قبل ذلك أنهم في البرد وتحت المطر ومحاطون بـ”الجهاديين” من كل جهة، ينتظرون تعزيزات لا تأتي منذ خمسة أيام، “إذا متّ، فهل ستقولون رحمه الله؟” يختم بسخرية حارقة.
ويكشف في حديث آخر مع المراسلة أن ما يدفعه للكتابة لها هو مجرد شعوره بأن هناك من يسمعه: “أنا بحكيلك لأنو حدا يسمع صوتي”. وكان قد حكى لها أنه لاعب كرة قدم وأنه يحب فريق ريال مدريد، “بس إلي 4 سنين ما حضرت رياضة”، كما تظهر صور رسائله التي تنشرها المراسلة. لا غرابة إذن أن يصيبه عارض الأمل بأن ما هو فيه إنما هو محض حلم سوف تطويه اليقظة دون تبعات.
في السجون والحروب وفي البؤس اليومي وأشكال الانتهاكات غير المحصورة، يحاول الضحايا رمي الواقع عن كواهلهم بآلية متشابهة، آلية التمسك بفكرة رحيمة تقول إن واقعهم مجرد حلم وأن ثمة لحظة خاطفة تمحو الواقع المأساوي هذا برفّة عين، اسمها الاستيقاظ. ولكنهم لا يستيقظون سوى على الأسوأ.
العربي الجديد