روايات على حافة الربيع العربي
أمجد ناصر
مع اندلاع الانتفاضات العربية أواخر العام الماضي واستمرارها فصولا دامية، للأسف حتى الآن، برزت أسماء ملهمة لشعراء وكتاب في قلب الحراك الشعبي العربي، يكفي أن نتذكر بيت الشعر الشهير لأبي القاسم الشابي “إذا الشعب يوماً أراد الحياة” الذي كان أيقونة الثورة التونسية.
معظم العرب ممن تلقوا قسطا بسيطا من التعليم يعرفون بيت شعر الشابي الذي يؤكد عجزه بجزم قاطع النبرة، استجابة القدر لمن يعمل في سبيل الحياة.
هكذا لم يكن غريبا أن يعبر بيت الشابي الفضاء المشبع بأنفاس الانتفاضة، ويصبح أحد شعارات الشباب العربي الذي أخذ على عاتقه خلخلة أسس الاستبداد وصولا إلى اقتلاعه.
هناك أسماء شعرية أخرى -بطبيعة الحال- حضرت في المشهد الانتفاضي العربي، وكلها ترقى إلى فترات نضال عربية سابقة، الأمر الذي يجعل “للربيع العربي” نسبا راسخا في أرضنا، فالثورات والانتفاضات وحركات الإصلاح العربية لم تهبط علينا بمظلة من السماء، ورغم مفاجأتنا بتوقيتها وسرعتها وجذرية مطالبها، فإنها لم تكن بلا تراكمات أو مقدمات.
هناك أجيال تعاقبت على طريق الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي والتحرر الوطني، أسهم كل واحد منها بقسط في تهيئة المناخ لما نشهده اليوم من ثورات وانتفاضات.
***
تحدثتُ حتى الآن عن الشعر الذي صار شعارا ومصدرا للعزم والإلهام في الثورات العربية، ولم أتحدث عن غيره من الفنون الأدبية، وذلك لما للشعر من طبيعة بلاغية خاصة وقدرة على تكثيف الوقائع والأحوال، لكن هذا لا يعني ابتعاد فنون كتابية أخرى عن ميدان التغيير. وسأكرس هذه الكلمات للحديث عن روايات خاضت في الواقع العربي الذي ثارت عليه جموع الشباب في غير بلد عربي، وقلَّبت وجوهه الكيئبة.
لقد قيض لي أن أكون عضوا في لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة اختصاراً باسم “البوكر”، ووقفت على القواسم التي شغلت بعض الروايات التي دخلت القائمتين الطويلة والقصيرة، وهي قواسم تعكس -على ما يبدو- أوجهاً من الواقع العربي، أو لنقل بدقة أكبر: أوجهه الغالبة، الأمر الذي يجعل من الرواية اليوم، مرآة للتحولات والصراعات التي يشهدها الواقع العربي على غير صعيد.
ثيمات مشتركة
من الثيمات المشتركة التي نلاحظها في روايات القائمة الطويلة، وصولا إلى القائمة القصيرة، “ثيمة” الاستبداد السياسي وتحالفه مع رأس المال اللقيط. هناك أكثر من رواية تناولت هذا “الزواج” غير المقدس بين السلطة والمال، بينما كان الشارع يشهد صعودا للأصولية والمحافظة الاجتماعية ونوعا من الردة القبلية أو الجهوية.
هناك روايات خاضت -على نحو مخصوص- في ظاهرة الإسلام الجهادي المقاتل، وما يحضر في ركابه من تكفير للمجتمع وعنف ضد دولة الاستبداد التي تقابل العنف بالعنف وتكاد أن تتخلى -في إطار تمسكها بآلة الحكم القمعية- عن مسؤولياتها الوطنية وتعمل ما في وسعها لإدامة طغيانها.
وقد رأينا مدى هذا التمسك الدامي بالسلطة في غير بلد عربي هبَّت عليه رياح التغيير الراهنة، حيث تحولت الدبابات التي يفترض أن تحرس الحدود، إلى أدوات عقاب ضد المنتفضين.
الغربة، أو الهجرة إلى الغرب، ثيمة أخرى تسري في تلافيف روايات عديدة في القائمة، وهي مرتبطة عضويا بالثيمة السابقة. هنا تبرز الهجرة كمنفذ وحيد للمغاير والمختلف عن السائد، فحيال انسداد شرايين الحياة العربية، وانغلاق الآفاق أمام التغيير، وحالة الاستنقاع المجتمعية، مصحوبة بالتكفير الأصولي وعنفه، دفعت بشرائح واسعة من النخبة العربية للهجرة إلى الخارج.. إنه الفرار بالجلد من جحيم السلطة واندفاع الشارع إلى مربعات الدين والطائفة والقبيلة والجهة.
كما تغوص روايات عديدة في قضايا الفساد الداخلي الإداري والمالي، والقمع الذي يمارس ضد المرأة، حيث تبدو قضية المرأة في صلب النضال الاجتماعي من أجل الحرية والكرامة وغير قابلة للانفصال عنها.
ومن التعميم إلى التخصيص، سأتناول سريعاً -هنا- الروايتين اللتين تقاسمتا جائزة “بوكر” للعام 2011، وهما “القوس والفراشة” و”طوق الحمام”.
القوس والفراشة
تتمتع رواية الشاعر والكاتب المغربي محمد الأشعري بحبكة تتكشف ببطء مع تقدم السرد، حيث يعاين الكاتب التقلبات التي طرأت على المجتمع المغربي مع عهد الملك محمد السادس الذي شهد انفتاحا على غير صعيد، قياسا بعهد أبيه الذي اتسم بسيطرة شبه مطلقة على الحياة العامة من خلال قبضة بيرقراطية وأمنية شديدة.
ولكن مع الانفتاح الذي رافق عهد الملك الجديد، تدخل الساحة المغربية أيضا قوى جديدة. يكشف الأشعري في روايته “القوس والفراشة” عن صعود رأس المال الطفيلي والفساد المالي والإداري، وتحطم أحلام اليسار وتبعثر قواه، وبروز ظاهرة الإسلام السياسي بوجهه الجهادي المقاتل.
ويتقاطع الفساد الداخلي على مستوى الأفراد والمنظومات الاجتماعية، مع مقولات النخب في الانخراط في “اللحظة السائدة” في العالم: لحظة العولمة الاقتصادية والليبرالية السياسية. وتنتهي رواية الأشعري بنوع من انفجار قد يكون أبعد من تفجير انتحاري نفسه بواسطة حزام ناسف.
“القوس والفراشة” رواية متماسكة على صعيد البنية واللغة والحبكة والانضباط الداخلي للسرد، نرى من خلالها، وعبر مسحة شعرية حزينة، التغيرات التي طرأت على المغرب وتخلخل الرؤى واختلاط القيم، بما في ذلك قيم الحب والصداقة.
طوق الحمام
هناك قواسم مشتركة بين رواية الكاتب المغربي محمد الأشعري ورواية الكاتبة السعودية رجاء عالم، أبرزها الفساد الذي ينخر العمران ويتجرأ حتى على المقدسات.. لا توجد مكة في المغرب، ولكن هناك مدينة مراكش التي يركز عليها السرد الروائي عند الأشعري، ولمراكش خصيصة رمزية ومادية عند المغاربة.
في “طوق الحمام” نحن إزاء تركيب روائي يحاول أن يبتكر حلولاً للسرد والخروج من سيطرة ضمائر محددة عليه من خلال استنطاق زقاق (أو حي) في مدينة مكة.
وتتحلى الرواية ذات التركيب البنائي غير التقليدي، بلغة خاصة تزاوج بين ما هو تراثي وما هو حديث. تقدم لنا الكاتبة السعودية عالمَ مدينة مكة الذي لا نعرفه، بل تقدم لنا مكة التي لا نعرفها.. مكة الناس العاديين والعمال المهاجرين البائسين وفساد رأس المال الذي لا تردعه قداسة المدينة ورمزيتها عند نحو مليار من البشر حول العالم.
كما تكشف عبر التجوال البطيء فيها، عما تعرفه المدينة المقدسة من تغيرات تهدد بمحو شخصيتها العمرانية من خلال البناء الجديد والفساد العقاري ضارب الأطناب.
هاتان روايتان تختلفان في شكل السرد، ولكنهما تشتركان في حفرياتهما داخل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في كل من المغرب والسعودية، حيث يتحول الفساد إلى ما يشبه المؤسسة القائمة بذاتها، وحيث تتهدد معالمَ المكان -رغم رمزيته وقدسيته- أرواح جشعة، منبتة، قادرة على تسويق الرداءة والانحطاط بوصفهما حداثة وانفتاحاً.
الجزيرة نت