ريم يسوف تسرد “حكاية قبل النوم” بالأبيض والرماديّ/ عمر شبانة
الطفولة في صورها المتعدّدة، طفولة الإنسان، طفولة الأشياء، وطفولة العالم كلّه، يمكنها أن تكون مسرحًا، أو شاشة سينما، أو قصيدة، أو حتى رواية تسرد سيرة حدث ما، أو تتذكّر أو تتخيّل وتتأمّل. ويمكن أن تكون فضاءً تشكيليّا غارقًا في ما يشبه الكوابيس والأحلام والأمل.
إذا جاز لمعرض تشكيليّ أن يكون حكاية، وهو ما يصحّ مع معرض الفنّانة ريم يسّوف، إذ تسمّي معرضها “حكاية قبلَ النوم” (غاليري المشرق، عمّان)، فإنها حكاية لا تصلح أبدًا لما قبل النوم. فرغم العوالم الطفولية، فالحكاية تحمل الكوابيس في أحشائها، في رؤيتها للعالم. كوابيس تبرز لنا في ألوان الأشياء وحركتها أيضًا. لذلك تستدرك الفنّانة وتقول لأطفالها، أطفال معرضها “لنْ أَرويَ لكمْ حكايةَ ما قبل النوم..”، وتخبرهم أن حكاياتها “أَصبحتْ على قصاصات من ورقٍ صغير، سَكَنَتْها وجوهٌ وأجسادٌ وأصواتٌ، رَفضتْ دخولَ كابوسنا اليومي.. ورَفضتْ أَنْ ترى الوحشَ، وقَدْ ابتلعَ جنيّات أُمنياتنا المُلوّنة، وحشٌ قَدْ اختطفَ كلّ ابتسامةٍ من وجوهِ أطفالي، وحشٌ غيَّرَ لونَ الأرضِ، وغيَّرَ صوتَ أمّي وأبي.. وكلّ رائحةِ من جدةٍ حنونة..”.
الأبيض مع الرماديّ يترافقان هنا، وليسا مجرّد لونين، فامتزاجهما يحيل إلى الاختلاط في المشاعر لدى الفنانة، اختلاط يعبر عن امتزاج الأشياء ببعضها، واختلاط العناصر التي تشكل المشهد الكليّ في عملها. وهذا التمازج والاختلاط يعكس ما تلتقطه العين، وما تختزنه الذاكرة من مشاهدات ومعايشات تترنّح بين الواقعيّ والحلميّ والمتخيّل. عالم شديد الكآبة، لكنه يحمل في طيّاته نظرة مستقبلية متفائلة بالطفولة، رغم كل ما ينطوي عليه من أسباب التشاؤم.
الطفولة موضوعًا وأسلوبًا
هذا كله، وسواه، هو ما تفاجئنا به أعمال الفنانة السوريّة ريم يسّوف، أعمال بلا أسماء، للفنانة المغتربة بعيدًا من وطنها، لكنها تعمل جاهدة للبقاء في عالم الطفولة، طفولتها هي نفسها ربّما، لكن في الأساس هي طفولة العالم أيضًا. وليست الطفولة هنا موضوعا للأعمال وحسب، بل هي أسلوب في الرسم والتلوين، تبرز من خلال الأشكال والألوان والحركات الطفولية، حيث كلّ ما في اللوحة يحيل إلى ذلك العالم، بما فيه من حيوية وحركة ونشاط، فيما يتعرض هذا العالم إلى الموت بأشكال عدة.
من طفولتها، ومن طفولة العالم، تستحضر الفنانة عناصرها وموادّ العمل، فتستعيد أبرز ما في تلك الطفولة المبتعدة من كائنات ورموز تصنع عالمها الجديد وتحميه. هنا تحضر القطط الصديقة، والطيور المترنحة في الفضاء، والطائرات الورقية التي تحمل أفكارا ورسائل من ذلك العالم البعيد، عبر تكوينات وألوان تحيل إلى عالم من الحلم، والرغبة في التحليق بعيدا عن الواقعيّ المحتشد بالخراب والموت والدمار. هذا ما نشاهده في عملها عموما، وفي معرضها المقام حاليّا في غاليري “المشرق” في عمّان، حاملا عنوان “حكاية ما قبل النوم”.. في خمسة وعشرين عملا، اختلفت قياساتها ما بين (مترين) و (30 سم)، وعلى قدر من التنوع، بحيث نجد أعمالا أقرب إلى صيغة الجداريات، لا لجهة الحجم فقط، بل من حيث التنوع في تفاصيلها بين الواقعيّ والفانتازيّ.
سرياليّة الواقع
الوقوف مدهش أمام أعمال هذا المعرض عموما، وربما كان الأكثر تمثيلا للدهشة، عمل الطفل الذي يتّخذ صورة بناء هرميّ، يتكوّن من شُقق على شكل صناديق تتخلّلها النوافذ، كما ينطوي المشهد على بضع خيام بيضاء، وفي ما حول البناية (البرج) تحلّق الطيور السوداء، ومن إحدى النوافذ تنطلق “طيّارة ورقيّة”، والرسائل البريدية. وكما هي غالبية أعمال الفنانة، يطغى هنا اللون الرماديّ بدرجاته، جنبا إلى جنب الأبيض، مع حضور ضئيل للبنيّ المحروق. ويلخّص هذا العمل ببساطته وتركيبه مجمل أعمال الفنانة، لجهة الانطباع العامّ للمشاهدة، وليس العناصر الأساسية للعمل، فهذه العناصر، كما سنرى في أعمال أخرى، تُبرز حضورا أقوى للبشر، أطفالا أوّلا، وشخوصا مختلفة بدرجات متفاوتة.
ما يشدّنا في هذا العمل، مثلًا، هو البناء الغرائبيّ، بناء يمزج بين واقعية القسوة وقسوة السرياليّة، حيث يتحوّل الكائن/ الطفل إلى “عمارة” بطبقات من شقق مائلة وخيام، تعكس ربّما الحالة السورية الراهنة، ولكن من غير دماء، كما في بعض أعمال سابقة للفنانة، بل بحضور قوي للخطوط والحركات الهلامية للتكوينات، حركات تنمّ على المرونة والبساطة، مع بروز الحسّ بالمنحوتة المتأثرة بتقنيات الحفر حينا، وبحضور الغرافيك والتصميم (الديزاين) في الأشكال، في بعض الأحيان.
منذ إطلالتي الأولى على عوالم هذه الفنانة، قبل ثلاثة أعوام، في معرضها الشخصيّ الأول في عمّان، معرض جاء في عنوان “حوار”، وشكّل آنذاك نقلة في تجربة الفنانة الشابة (1979)، تشكّل لديّ تصوّر عن عمق هذه التجربة، وتنوّع إيقاعاتها، رغم تركيزها وتمركزها حول “ثيمة” الطفولة وعالمها، فهي عوالم غنية ويمكن للبحث فيها أن يطول ويتعمّق، لما تحمله من قدرة على استعادة الذكريات مرّة، والتخيّل والحلم مرّات.. في ما يشبه إيقاعات عمل سيمفونيّ يتنقّل عازفوه بين آلات عدّة.
من خلال مقارنة ذلك المعرض بمعرضها الحاليّ، أجد اليوم ما هو مشترك ومؤتلف، وما هو مختلف. فمن جهة، ما تزال الثيمة هي نفسها، من حيث المضمون والأسلوب والتقنيات أساساً، وما تزال الروح، روح الطفولة واللعب والمرح، هي الروح ذاتها. لكن الاختلاف يكمن في التفاصيل، في ما يستجدّ من إضافات مشهدية تتعلق بالحدث، أو ما يرتبط بتفاقم الحالة على الأرض، وما تشكّله القراءة الجديدة والمقاربات اليوميّة لما يجري.
نحن هنا، وكما ستخبرنا الفنانة في محادثة خاصة، حيال “حكايات” تحمل روح السخرية مما يحيط بالحدث من تهريج، خصوصا على صعيد التناول الإعلاميّ، أو في مواقع التواصل. لكن في أعمال سابقة، خصوصا قبل أن يحضر الطفل، بعوالمه المختلفة، كان هناك الجسد بتعبيراته ودلالاته، بحسب ذاكرة ومخيال الفنانة، في ظل غياب “الموديل”. ثم كانت مرحلة “دموية” تأثرت فيها الأعمال بالحدث المباشر، وكان استخدام الألوان على نحو واضح وصريح للألوان القوية الصارخة، مع استخدام للأبيض والرماديّ والأسود لخلق التوازن، ولأسباب تقنية أيضا.
ونعود إلى شيء من ملامح هذا العالم، عالم ريم كما تبدو في مَرسَمها الأنيق ببساطة، والبسيط بأناقة وبراءة، حيث كانت “في جبل اللويبدة العمّاني العتيق، تواجه قماش اللوحة وتواصل إبداعها”، واصفة بياض قماش الرسم بأنه “المرعب الساحر”، وتقول “طفولتي هي مركزي وبدايتي، والطائرة الورقية تمثل الصوت العالي بصمت لأطفال موجودين أو كانوا بيننا.. ومع بداية الثورات في الوطن العربي تحولت المرأة في لوحاتي إلى طفلة، وصار القط صديق طفولة أو شاهدًا في أعمالي التي تظهر أحلام طفل هو ضحية أحداث كبيرة”.
تحوّلات التجربة ومرجعيّاتها
ثمة مراحل- محطّات مرّت بها هذه التجربة الفنية، بدءا من رموزها وعلاماتها، وصولا إلى مضامينها الأساسية. التحوّل الأخطر- تقول الفنانة- كان مع “الثورة”، ومع أول حالة عنف مورست ضد الطفولة، الأمر الذي شكّل صدمة كبيرة، ولم تعد الألوان تجدي، وبدأ الابتعاد عن المشروع الخاص، ممثّلا في الاشتغال على الجسد، في اتجاه العمل على دمج الخاصّ بالعامّ، وهكذا كانت ثيمة الطفل تفرض نفسها، وتفرض لون البياض الذي هو “سيّد” الألوان.. أو كما تشرح ريم الحالة “ثورة على الألوان الصارخة والصاخبة، وتوحّد مع الأبيض الذي هو “ضحيّتنا”، خلال ست سنوات، كما أنه فرصة للبحث والدراسة والتجريب، لإيجاد حلول جديدة. لكن هناك أيضا اللون البنيّ والترابيّ الذي يحيل على أصل الإنسان.
بعض من شاهد الأعمال الأولى لـ(يسّوف)، أشار بتلميحات إلى وجود تأثيرات دينيّة، ومؤثّرات من فنون عصر النهضة، لكنّنا لا نجد فيها مثل هذه المؤثرات، بل هي “عالم” خاصّ بها، جرى تخليقه من تجربة خاصة بالفنانة وبثقافتها السوريّة تحديدا. عن مثل هذه المؤثرات، تنفي ريم أيّ صلة بينها وبين تلك العوالم، وترى أن الأمر يتعلّق بقراءات خاصة وشخصية، لا علاقة حقيقية لها بتجربتها، بل ربّما وجود تشابه في بعض الجوانب، وتحديدًا ما يحيل على التكوينات البسيطة، وهي غير متعمّدة، ولا تشكّل مرجعيّات لما تقوم به. وهي تؤكد وجود تأثيرات من الفنّ السوريّ عمومًا، لا تجربة فنية بعينها. بل تجربة الواقع المرعب حيث “في حالة الخوف والعجز نعود، بشكل غير واعٍ، إلى مرحلة الطفولة”.
رسائل إلى المستقبل
الفنانة التي درست الفن في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، تشير إلى أهمية التفاعل مع العالم بالنسبة للفنان، والانفتاح على مختلف التجارب التشكيلية، إذ إن الفن- كما ترى- يرتبط بفكرة السفر عبر الألوان والبلاد، ما يدعم تجربة الفنان فِكريًا وفَنيًا. وبخصوص “مغامرة” الرحيل إلى عمّان، تقول الفنّانة المقيمة في باريس حاليّا إن الفنّان “ضد التقوقع. وكانت زيارتي مدينة عمّان فكرة مؤقتة لمتابعة عملي بمجال الفن، ولكن مع وجودي فيها، كانت الأحداث (السوريّة) تتطور بشكل يقلق، نتيجة المفاجآت المرعبة التي تحدث، ومن بينها ما حدث أمام مرسمي، ما جعلني أتمسك بمسؤوليتي تجاه فنّي وعملي بشكل أكبر، واتخاذ القرار الحاسم بتأسيس مرسم لي في عمّان ومتابعة العمل بجدية”.
وما بين معرضها “حوار” ومعرضها الحالي، أقامت يسّوف معرضها “نسائم باردة”، باريس 2014، وفيه اعتبرت أن من واجبها “التذكير بمأساة الأطفال في سورية”. وأنّ أعمالها “رسائل إنسانية موجهة للعالم: أحاول، من خلال اللوحة، أن أوصل أفكاري لأيّ إنسان، ولكلّ إنسان.. أعتبر عملي نوعاً من الدفاع عن حياة الأطفال”. فهي تعيش الحرب بما يشبه السخرية من المتحاربين. كما أنها برسالة واضحة باسم الفن إلى المستقبل الذي تمثّله الطفولة.. فالفنانة، أخيرًا “ليست مع فكرة الفن للجماليات وللتزيين، وإنّما هو فكر أولًا وثقافة شعب”.
ضفة ثالثة