ساحة تقسيم قلب اسطنبول.. سحر المكان وعبق التاريخ
عمر كوش
الأصوات التي تنبعث من الآليات في منطقة “تقسيم”، قلب المدينة التركية التاريخية، اسطنبول، بدأت تثير ضجيجاً غير عادي، يمتزج أحياناً مع أصوات المتظاهرين في شارع “الاستقلال”، الذي لا تنقطع حركة المارين فيه، ليلاً نهاراً، ومعها بدأ جدل كبير، في الأوساط التركية، حول مشروع بدأ تنفيذه مؤخراً، يهدف إلى تجديد ساحة تقسيم، المكان الأشهر في المدينة، في ظل تخوف الاسطنبوليين من ذهاب روح الساحة التاريخية مع أتربة الحفريات وغبارها.
وتتحدث بلدية اسطنبول عن أن المشروع يرمي إلى تسهيل حركة النقل في محيط ميدان تقسيم، الذي يعرف ازدحاماً كبيراً في حركة السيارات والحافلات، فيما يذهب مناصرو المشروع إلى القول، بأن الميدان كان مجرد نقطة عبور، ويريدون ضح دم جديد في الساحة، وتحويلها إلى “شانزيليزيه” اسطنبولي، حيث تشمل المرحلة الأولى حفر أنفاق متعددة الاتجاهات للسيارات، مع الابقاء على الترام الأحمر القديم، والمحافظة على المعالم التاريخية للساحة، وخاصة نصب أبطال الجمهورية التركي في الساحة، وفتح المجال أمام المشاة للتنقل دون إزعاج. بعدها ستبدأ أعمال بناء وترميم الواجهة الخارجية، وتحويل الحديقة العامة إلى مكان للباعة والمقاهي ومعرض للفنون، وإعادة بناء الثكنات التي كان الجيش الانكشاري يتمركز فيها، ولكن ليس لاستقبال الجنود، في هذه المرة، بل لإقامة مركز ثقافي وفني.
غير إنجاز هذا المشروع قد يطول، ويمتد إلى سنوات عديدة، قد تتحول معه الساحة إلى غابة من الاسمنت، بغية جذب المزيد من السياح والاستثمارات الأجنبية، والشركات متعددة الجنسيات، التي ستحول هذا القلب إلى مكان تجاري، لا يكترث سوى بأموال المستهلكين، ولا يهمها سوى الربح، حتى وإن تغيير الوجه الأكثر أهمية بالنسبة لتركيا، الأمر الذي جعل بعض المنتقدين، يتحدثون عن أهداف سياسية، ترمي إلى تغيير، أو طمس هوية قلب اسطنبول، الذي تمرد على كافة السلطات والامبراطوريات.
والواقع، هو أن التجوال في منطقة تقسيم، وخاصة حواريها الضيقة وأزقتها، أشبه برحلة استكشافية للتاريخ والدول والحضارات، تتحول مع التقدم في سبر أغوار المسكوت عنه والمنسي، إلى ما يشبه عملية إعادة اكتشاف، أو إعادة كتابة تاريخ هذه المدينة الساحرة، التي عرفت تاريخياً باسم “القسطنطينية”، أو “الأرض المحمية”، حسب إحدى تسميات مدينة اسطنبول التاريخية.
كواليس السلاطين
ويكشف التجوال في شوارعها جوانب من تاريخ هذه المدينة المديد، وما خبأته كواليس سلاطينها وحكامها، من حياة زاخرة بالعلم والعمل في السياسة والتاريخ والأدب، وصولاً إلى ما قدمه فن العمارة والقصور الحجرية الضاربة في أعماق التاريخ. ولعل التاريخ الاجتماعي والمعرفي والمعماري لهذه المدينة، يكشف زوايا عن هوية الناس فيها، وحياتهم العائلية، وعن حياة الحكام والقصور، والمعالم الأثرية، وأبرز الفنون.
وكانت اسطنبول قد حملت اسم “الأرض المحمية” لقرون عديدة، إلا أنها كانت تسمى في مراسيم ووثائق السلطنة العثمانية، القسطنطينية؛ ولم تجد اسطنبول العثمانية أي غضاضة في حمل اسم قسطنطين العظيم، كما لم يبالغ أحد في الحساسية حيال هذا الاسم، لكن خلال الأيام المضطربة لحرب الاستقلال، حاول اليونانيون، كقوة محتلة، وضع اسم الملك قسطنطين، حاكم اليونان في ذلك الوقت، بدلاً من اسم قسطنطين العظيم القديم، لذلك حذف اسم القسطنطينية رسمياً.
وكانت هذه المدينة العظيمة تحمل العديد من الأسماء الأخرى. منها، على سبيل المثال، “روما الجديدة”، حيث أفضى غنى اسطنبول إلى ظهور أسماء متنوعة لها في لغات أمم مختلفة؛ مثل دار السيادة، ودار السعادة، والباب العالي، ومقر الخلافة، وبوابة النعيم، وسواها. وكلها أسماء بقي الناس العاديون يستخدمونها حتى سقوط السلطنة العثمانية. ولعل اسطنبول تحولت إلى ملكة العواصم في ذلك أكثر من مرحلة، كونها امتلكت ميزات وقدرات، جعلتها عاصمة الثقافة والفنون والتجارة، وعاصمة كوسموبوليتية بامتياز، وشهدت اختلاطاً كبيراً بين أفراد وجماعات، جاؤوا إليها من مختلف أنحاء الإمبراطورية العثمانية، ومن سائر أصقاع العالم.
ويبدو أّن عبارة “الباب العالي” كانت معروفة لدى الأتراك – ذات يوم على أنها اسم المنطقة التي تضم مكاتب الصحف في اسطنبول، حسبما يذكر المؤرخ التركي ألبير أوطايلي. لكن لم يعد أحد يستخدمها أبداً كمرادف للمؤسسات الصحفية. فيما كان اسم الباب العالي في عالم القرن التاسع عشر، يفهم منه على الفور، على أنه يعني الدولة والحكومة العثمانية.
والمدينة المعروفة بتاريخها، وبضفتيها المتراميتين على القارة الآسيوية والقارة الأوروبية، فتاريخها يعود إلى الأزمنة الغابرة، حين كانت عاصمة الإمبراطوريات الثلاث، الرومانية والبيزنطية والعثمانية، والتي يروي تاريخها حكايات وقصصاً كثيرة، ويمكن لعاشق لها أن يروي حكايات تاريخها وحاضرها ومستقبلها، إلى جانب كونها، كمدينة، تشكل جسراً للثقافات والحضارات.
وحين تجلس في بعض الحواري الضيقة، تلمس تعبيرات من الحزن على وجوه الناس، وكأنهم مازالوا يعيشون في حضرة أمجاد امبراطورية زائلة، وتشدهم محاولات دولة، تسعى كي تكون حديثة، عند مفترق طرق بين الشرق والغرب، وما يرافق يصيب بالدوار ويشوش الفكر.
أما اسطنبول اليوم، فهي تعاني كثيراً في زمن العولمة، حيث تقطع وسائط النقل الحديثة سهول وجبال الأناضول لتربط المدن الحديثة بالقرى البعيدة النائية، التي ما تزال تعيش في القرون الوسطى.
ويمثل “البوسفور” محوراً رئيسياً لحكايات المدينة وناسها، ويصلح استعارة لانقسام الهوية التركية بين عالمين وضفتين، بعد أن أصبحت هوية البلاد – وفي مقدمتها اسطنبول – حائرة بين انتمائها إلى آسيا والعالم الإسلامي، وتطلعها إلى حداثة القارة الأوروبية، وتمزقها بين عالمين وثقافتين مختلفتين.
والواقع هو أن خارطة إسطنبول مربكة، فالقسمان الموزعين بين قارتين، يرتبطان عبر جسرين على البوسفور. وكثير من زوار المدينة ليس لديهم ما يدفعهم لزيارة القسم الآسيوي، فيما عدا جولة البوسفور بالقارب من جهة لأخرى، للاطلاع على أفضل ما في الجزءين. كما أن الجزء الأوروبي مقسم أيضًا إلى جزءين، يفصل بينهما “القرن الذهبي” أو “هاليتش”، الذي يقسم الجزء التاريخي لاسطنبول، الذي يضم مناطق السلطان أحمد ولاليلي، عن الجزء الحديث من المدينة. ويقطعها عدد من الجسور، أشهرها جسر غلاطة العائم. وفيها تسمع أصوات الآذان من المساجد التاريجية، وفي نفس الوقت تسمع أصوات تسجيلات الأغاني الأوروبية الحديثة المتصاعدة من محلات بيع الاسطوانات والسيديات. وتزدحم فيها الأبراج السكنية الشاهقة مع المساجد والبيوت الأثرية، والقصور التاريخية الباذخة.
ومازالت المدينة تتأرجح في توازن دقيق بين الإحكام والفوضى، بين التخطيط وانعدام التناسق، بين سحر الماضي وغزو الحاضر، بين انتمائها الشرقي ووجهتها الغربية، حيث تحضر التأثيرات الغربية في الحياة التركية التقليدية، كما تحضر تركيا بوجهها الشرقي، انتماء وأصالة وتاريخاً، واحتفاء تركيا بالوجه الأوروبي، وتنازع البلاد بين هويتين يلقى حضوراً بارزاً وأساسياً لدى الباحثين والروائيين وسواهم.
وكتب كثير من المؤلفات عن اسطنبول، كتبها مؤلفون ومؤرخون ورحالة، ونظم العديد من الشعراء قصائد تتغنى بها وتصفها، وصنعت أفلام كثيرة، روجت لها وانتجتها كبريات شركات الإنتاج السينمائي، وتناولت مدينة اسطنبول التي ظلت تحمل بين حواريها وبيوتها عبق تاريخ عظيم للحضارات، بالرغم من كل ما بذله مصطفى كمال أتاتورك من محاولات لمحو كل آثار المدينة العثمانية، في سعيه إلى تحديث تركيا ونقل عاصمتها إلى أنقرة، وسوى ذلك كثير.
ونقل الرحالة الأوروبيون، عبر مراحل مختلفة من التاريخ، صوراً وحكايا للمدينة، وكان كتاب كبار من بينهم، من أمثال “فلوبير” و”نيرفال” و”جوتيه” و”جايد” و”برودسكي”. كما كتب عنها أدباء أتراك كبار، مثل الروائي “تانبينار” والشاعر “يحيي كمال”، والروائي “أورهان باموق”. لكن ما يكتب أهل اسطنبول عن مدينتهم، مختلف عما يكتبه سواهم، ذلك ان غالبية كتاباتهم ممزوجة بالحنين والذكريات، وأحياناً بالحزن.
أما زوار أسطنبول، فإن أهدافهم تتنوع وتتوزع، ما بين التمتع برؤية المناظر الساحرة، والأشياء الطريفة، وبين التعرف إلى أنماط مختلفة للحياة والثقافة بها، وسوى ذلك.