صفحات العالم

سوريا: الحياة في زمن الحرب


نشرت صحيفة “هيرالد تريبيون” (24 تموز 2012) تحقيقاً صحافياً عن الحياة اليومية في ظل الحرب التي تخيّم على سوريا، كتبته جانين دي جيوفاني إثر رحلتها إلى دمشق. منه نقتطف:

كيف تشعر حين تبدأ الحرب؟ كيف نعلم أن الوقت قد حان كي نوضّب حقائبنا ونترك بيتنا وأهلنا وبلدنا؟ كيف نقرر القيام بذلك او عدم القيام به؟ ولماذا؟

بالنسبة للناس العاديين تبدأ الحرب بصدمة: نكون منشغلين بأخذ موعد مع طبيب الأسنان أو بمتابعة درس رقص الباليه لابنتنا، وفجأة تُسدل الستارة. في لحظة، يتعطل الروتين اليومي: تتعطل خطوط الهاتف الخلوية، وآلات سحب النقود، كل شيء يتوقف.

ترتفع الحواجز، يبدأ التمييز، الاغتيالات.

تعمّ الفوضى، يختفي الآباء، تغلق المعارض، وتختفي النقود والأنشطة الثقافية والحياة التي اعتادها الناس.

في دمشق، حلت هذه اللحظة.

أمضيت نحو الأسبوعين في سوريا منذ بداية الشهر الحالي. كان الخوف الذي يصاحب الحرب الأهلية. محسوساً. بعد أسبوع من وصولي إلى دمشق، اعلن الصليب الأحمر ثورة الـ 17 شهراً، بانت حرباً اهلية الأمر الذي يعني ان القوانين الدولية لحقوق الانسان يجب أن تُطبق في البلد.

أما الأهم فهو أن السوريين ما عادوا قادرين على إنكار حقيقة الحرب (مثلما حاول البعض) والاعتراف بأن الحياة التي اعتادوها، وصلت إلى النهاية.

خلال الوقت الذي أمضيته في سوريا، بدت الحياة شبيهة بالحياة في أي مكان آخر. لقد شاهدت عرض اوبرا. وذهبت إلى عرس وتابعت تحضير جلسة تصوير احدى الفنانات لغلاف مجلة فنية. كل ذلك كان جزءاً من الحياة التي استمرت على نحو ما إلى جانب الحرب ولكنها على وشك الاضمحلال والتحول إلى ذكريات.

بدأ الناس يتركون المدينة حين وصلت إليها. الناس يرحلون، والسفارات تغلق أبوابها. أحياء البرزة والميدان أصبحت خطرة. الأمور ستصبح أكثر دموية، وبت أتساءل كم من السوريين الذين التقيتهم سيهربون من البلد.

لقد عرفت سرعة الحروب في كل البلدان التي غطيت اخبار حروبها، من البوسنة إلى العراق وأفغانستان وسيريلانكا والشيشان وكوسوفو كان المشترك هو تلك اللحظات التي يتغير فيها كل شيء من العادي إلى غير العادي… بتطرف.

أخبرني الجنرال مود، القائد السابق لقوات مراقبي الأمم المتحدة في دمشق انه لا يوجد صيغة محددة للحروب. ولكن قراءة الأخبار العاجلة الواردة عن مجزرة تريمسة ورؤية النازحبين عن حمص، جعل من الصعب عدم تذكر أخطاء العشرين سنة الماضية.

مع استمرار الفيتو الروسي واستمرار القتل الوحشي من الصعب جداً ان لا نرى بوسنة أخرى. السوريون الذين اعتبروا انفسهم سوريين منذ أشهر خلت باتوا يعرفون عن أنفسهم الآن كعلويين ومسيحيين وسنة وشيعة ودروز.

خلال الوقت الذي أمضيته في سوريا قابلت أشخاصاً من مختلف الانتماءات والخلفيات، أردت أن اسمع رواية المناصرين لبشار الأسد عما يحدث في بلدهم، كما أردت أن احصل على شهادات الذين عانوا من نظامه.

على الطريق الممتد من دمشق إلى حمص، مررت على ثمانية حواجز أمنية تابعة للنظام. في مركز مكتظ باللاجئين قابلت امرأة كانت قد رأت ابنها البالغ 23 عاماً، للمرة الأخيرة في كانون الأول الماضي في مستشفى حمص. ذهبت في اليوم التالي لتراه، فكان سريره فارغاً، أخبرها الأطباء انه نقل إلى المستشفى العسكري، حين وجدت إبنها بعد عشرة أيام على تلك الحادثة كان جثة تبدو عليها آثار التعذيب بالكهرباء وحروق السجائر… وطلقتين في الرأس.

بالنسبة لهذه المرأة، الحرب بدأت لحظة رؤيتها جثة إبنها. أخبرتني انه كان شاباً عادياً، عامل بناء، ولا علاقة له بالثورة، لكن مجرد سكنهم في حي بابا عمرو، في حمص جعل منه هدفاً للنظام كغيره من الناس الساكنين هذا الحي.

في حمص أيضاً قابلت طفلاً جالساً على أرض منزله يلعب. بالنسبة اليه الحرب بدأت في آذار 2011 حين لم يعد أهله يسمحون له باللعب خارجاً، الآن يربض القناص في أول الشارع. أسرة ذلك الطفل لم تكن من مناصري الأسد بل على العكس اذ عبّرت جدته مثلاً عن كرهها الشديد له. العائلة لا تريد الرحيل، لماذا؟ قالت الأم إنهم باقون لأن هذا هو منزلهم. أصبحت حياتهم وكأنهم يعيشون في سجن وهذا الأمر سيزداد سوءاً.

بالعودة إلى دمشق، جلستُ على شرفة عابقة برائحة الياسمين مع مهندسة معمارية انيقة نشرب الشاي فيما يلعب طفلاها في الداخل. كنت أتساءل إلى متى ستبقى في البلد.

ذهبت إلى تمارين أوركسترا الأطفال في سوريا. كنت أشاهد وجوههم الفتية وهم يلعبون على آلاتهم الموسيقية واتساءل من منهم سيموت؟ من منهم سيرحل؟ من منهم سيبقى؟ من منهم سيقاتل؟

ذهبت إلى المستشفى العسكري في برزة ورأيت التحضيرات لجنازة جماعية لخمسين من جنود النظام. اخبرني مدير المستشفى ان 15 جندياً يموت يومياً، ولكن بالطبع لا مجال للتأكد في هذه الأرقام. تفيد أرقام الأمم المتحدة ان عدد القتلى المدنيين وصل إلى 10 آلاف بينما يفيد الناشطون في المؤسسات الانسانية أن الرقم فاق الـ 17 ألفاً.

في الحروب، يقال إن الحقيقة هي أول الأموات. في حمص تبحث الأمم عن إجابة لسؤالها عن سبب تعذيب ابنها الجريح وقتله. في دمشق تخبرني الناشطة الشابة ونحن نشرب القهوة أنها ليست خائفة من الدخول إلى السجن مجدداً بسبب مشاركتها بالتظاهرات السلمية. انها تستعمل أسماء مستعارة وتغير مكان سكنها باستمرار. هي تريد العيش في بلد حر لا تحكمه انظمة دكتاتورية، وتقول “لست خائفة” انا أؤمن بالذي أقوم به”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى