سوريا بدّا… حرية
عبدالله أمين الحلاق
لا يمكن فصل مسار الانتفاضة السورية وشعاراتها ورمزيتها المبتكرة يومياً على أيدي خلاّقيها وشهدائها عن مآل يرنو السوريون المنتفضون إلى إحرازه، هو باختصار: سوريا طبيعية، عادية، أي: سوريا حرة.
الحال، أن هذه السوريا حققت هذا الوضع العادي في خمسينات القرن الماضي، قبل أن تجهز الوحدة السورية – المصرية، وبعدها الحكم الاستبدادي الفئوي منذ 1963 حتى اليوم، على احتمالات رسوخها نموذجاً لدولة مدنية تعددية، كانت شوارع مدنها أيام الانتداب وبعد الاستقلال تهتز تحت وقع هتافات المتظاهرين والأحزاب السياسية السورية، يمينية أكانت أم يسارية.
اليوم، تحاول انتفاضة الحرية التي عمّت أرجاء البلاد أن تستعيد ألق الشارع السوري وألوانه المختلفة. يتم ذلك عبر مواجهة نظام يفوق بسطوته وقسوته أي نظام آخر حكم أو سيحكم سوريا مستقبلاً. هكذا، ومع فعل الاستعادة الذي تحاوله الانتفاضة السورية اليوم، والذي حققته بنسبة جيدة حتى الآن، تبرز حالات ومظاهر فردية وجماعية أنيقة تصنع المشهد السوري وتعطيه صبغة وطنية عابرة لما دون تلك الوطنية من روابط يحاول النظام إعادة السوريين إلى حظيرتها. أمام الاستحقاق الذي يضعه النظام في مواجهته، يبدو الشعب السوري في حاجة إلى مزيد من التشبث بالوطنية السورية في مواجهة فئوية وعنف يعمل النظام على جر السوريين إليهما، وإلى مواكبة ذلك بالمزيد من الخلق في صياغة لوحة الانتفاضة ورسمها.
في المعاني الوطنية للشعارات
قبل 15 آذار 2011، كان في وسع من يزور سوريا أن يلحظ ظاهرياً حالاً من الرتابة والبلادة تلقي بظلالها على الشارع السوري المشغول بتأمين مطالب آنية، غير سياسية، لا علاقة لها بمطالبه اليوم بالحرية والكرامة والدولة المدنية وإسقاط النظام، وبالعودة إلى السياسة التي طُوّع عنفياً ليبقى في منأى منها.
كانت سوريا تحتاج إلى قشة تقصم ظهر البعير وتعلن انطلاق المارد السوري من قمقم ضيّق. تلك القشة هي شعار كل بلدان الربيع العربي: “الشعب يريد إسقاط النظام”. شعار خطّه أطفال دون الخامسة عشرة على حائط في مدينة درعا، اعتقلهم النظام وعذّبهم واقتلع أظفارهم. بعدها بدأت الاحتجاجات من درعا لتمتد ببطء ثم بسرعة الريح إلى مدن وقرى سورية صارت عنواناً من عناوين الحرية المأمولة. دخلت سوريا تجربة الربيع العربي عبر مدينة لم يخطر في بال أحد أنها ستكون الشرارة الأولى في شعلة الحرية وهي تحرق عروش الاستبداد الهشة والمصنوعة من قصب وقش. باتت الانتفاضة السورية تسير جنباً إلى جنب وبخطى واثقة تتنقل بها بين شاشات الفضائيات العربية والأجنبية إلى جانب أخبار تونس ومصر بعد الثورة، واليمن وليبيا أثناء ترنح القذافي ثم سقوطه ومقتله. لاحقاً، صار المشهد السوري هو الذي يحرز الخبر الأول في نشرات الأخبار لأسباب يتضافر فيها عنف النظام ودمويته وعدد ضحاياه يومياً، مع صناعة الاحتجاجات، بكل ما يلزمها من خلق في الشعارات واللافتات وأغان وقصائد يساهم الـ”فايسبوك” بقوة في سرعة تناقلها.
مع بدء الاحتجاجات في درعا، غنّى سميح شقير للسوريين والعالم أغنية “يا حيف”. دخلت الأغنية أرشيف الانتفاضة من أوسع أبوابه وصارت طقساً يومياً تهدر به مكبّرات الصوت المرافقة للتظاهرات، ثم أمست لسان حال المتظاهرين في الشارع، يغنّون مقاطع منها ويرفعون لافتات مكتوباً عليها “يا حيف/ زخّ رصاص على الناس العزّل يا حيف/ وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف؟”، خصوصاً بعدما تحولت مأساة أطفال درعا سمة يومية تجاوزت الاعتقال وقلع الأظفار لتشمل قتل الأطفال والكبار في شكل ممنهج لا تكاد تسلم منه مدينة أو قرية سورية. تلك هي، وببساطة، بداهة توحيد الهدف والشعارات والانفتاح الجغرافي والسياسي والإعلامي بين مناطق سوريا بدافع التوق إلى الحرية.
عاد العلم السوري إلى الواجهة بعدما بات بعيداً عن قلوب السوريين بسبب اختزاله في مهرجانات التأييد “العفوية، والعفوية حتى النهاية”. عاد رمزاً جامعاً، مانعاً لشعارات ضيقة وانتماءات ما قبل وطنية. لن يلحظ المرء شعارات ورايات حزبية في يوميات الانتفاضة ما خلا العلم السوري الذي يتسع برمزيته للجميع، بينما يستطيع أن يرى مثلاً علم الحزب الشيوعي السوري والحزب السوري القومي الاجتماعي و”حزب الله” في مهرجانات التأييد للممانعة وللنظام السوري، وهي تتسابق في تقديم فروض الطاعة والولاء بدواعي “المقاومة والإصلاحات ورفض التدخل الخارجي”. صار العلم السوري التقليدي يحمل الأبعاد الوطنية التي يحملها علم الاستقلال ذو النجوم الثلاث باللون الأحمر. العلمان يظللان من يسيرون تحتهما في تظاهرة تطالب بإسقاط النظام، يعرف المتظاهرون فيها جيداً أن العلم الوطني وسلمية التظاهر لن يحولا بينهم وبين رد فعل حزمة الإصلاحات الموعودة التي يتغنى بها رافعو أعلام الشيوعي والقومي والإلهي.
إذاً، هو احتفالٌ باقتراب الحرية وفجرها الذي يتسامى. احتفال لا يوقفه الموت اليومي للسوريين ولا تصريحات رعناء من أبواق ممانعين في سوريا ولبنان على شاشات القنوات الفضائية، خصوصاً فضائيتي “الدنيا” السورية و”المنار” الإلهية. إنه كرنفال يومي للحرية المعمّدة بدماء شبابها وصانعيها واختراع للأفق يصنعهما السوريون، مع أغاني سميح شقير ومارسيل خليفة ولافتات وشعارات ترسم الفضاء السوري المقبل.
الخبر وصناعة اللوحة في ميادين الحرية
في كل جمعة من جمعات الحرية في سوريا، يلحظ المرء لافتات مخصصة لأحداث أو تصريحات لأزلام النظام يدلون بها بين جمعتين، يكتبها محتجّون بصيغة ساخرة، قد ترافقها رسوم كاريكاتورية. المحتجّون على غير استعداد للضحك والكوميديا طبعاً، فهذان من اختصاص إعلام النظام والفنّانين الذين تسابقوا في الإطراء وتمسيح الجوخ للسلطة الحاكمة، إذا ما استثنينا البعض من كتّاب الدراما وفنّانيها ممن خلقوا دفعاً معنوياً للمتظاهرين والشارع السوري، بمواقفهم الداعمة للانتفاضة، مثل ريما فليحان ومي سكاف ومحمد آل رشي وفارس الحلو وآخرين.
هكذا، كان على المتظاهرين أن يوثّقوا مهزلة مديح السلطة، فترى مثلاً لافتة تقول: “أحرار سوريا يمدّون أيديهم لساطور سمير القنطار”، كناية عن تهديد هذا الأخير بأنه سيقطع اليد التي ستمتد إلى النظام السوري، تُجاورها لافتة تحيّي وئام عماشة، ابن الجولان والأسير المحرر من سجون الاحتلال الإسرائيلي، الذي أعلن إضراباً عن الطعام في سجنه الإسرائيلي احتجاجاً على قمع النظام للانتفاضة السورية. تستمر اللافتات التي تصور “محللين سياسيين وباحثين” ارتبطوا بتماهيهم مع النظام ودفاعهم عنه بذاكرة سوداء لن ينساها السوريون.
من التبسيط والشعبوية القول إن كل أحرار سوريا المنتفضين هم على سوية ثقافية واحدة، أو إنهم حاملو شهادات عالية ومطّلعون على الثقافات المتنوعة، لكن هذا لن يكون مناسبة للتهجم عليهم والتجريح فيهم، على طريقة غدي فرنسيس والتحقيق البائس عن مدينة حماة في صحيفة “السفير”، بقدر ما سيكون دلالة على حالة طبيعية وتفاوت بديهي، يترافق مع اعتماد النظام على شبّيحة لا يرقون إلى مصاف الاحتجاج على الاحتجاج والدفاع عن فكرة. هؤلاء الشبّيحة هم حاضنة لغرائز القتل والتنكيل بمن يصوّرهم النظام على أنهم عملاء ومندسّون وخونة، وهي الديباجة “الممانِعة” المعروفة والممتدة من دمشق إلى ضاحية بيروت الجنوبية.
المحتجون الأحرار الذين وصفناهم قبل سطور بما سميناه “تفاوتاً بديهياً”، قدِم معظمهم من الريف المحيط بالمدن السورية، الذي يشكل اليوم مركز الثقل الأساسي في مسيرة الانتفاضة، غير أن حالات فردية قد تثير أسئلة تمتد أفقياً بين الجموع المنتفضة، على نحو تلك اللافتة التي رفعت قبل حوالى أسبوعين في منطقة دير بعلبة في حمص، لافتة ضوئية كتب عليها بالمانشيت العريضة: “إن ربيع العرب حين يزهر في بيروت إنما يعلن أوان الورد في دمشق… تحية إلى شهيد الربيع العربي سمير قصير”.
أغلب الظن أن أهالي دير بعلبة لم يقرأوا سمير قصير وكتبه، وتلك مسألة يُسأل عنها قبل توجيه الاتهام العبثي لهم بـ”الجهل والتخلف”، تهميش الريف وأطراف المدن، وسياسة النظام التي لا تزال تمنع كتب شهيد ربيع دمشق وغيره من المفكرين والكتاب من أن تكون في متناول القارئ ومتلقّي الأفكار، وحالة الموات السياسي والثقافي والاستنزاف الاقتصادي وغيره من صنائع الاستبداد في سوريا، ما جعل الثقافة والاطلاع على تجارب الآخرين كماليات لا حاجة لها أمام مطلب تحقيق الضروريات حفاظاً على البقاء. للمزيد، لنقارن بين من قرأ سمير قصير من أزلام النظام ومن لم يقرأه من المحتجّين المطالبين بربيع سوري، لنعرف أن تلك اللافتة والجندي المجهول الذي صنعها وكتب عليها كلمات الشهيد لترفع في دير بعلبة، لن تُسعد مدمني النظر بفوقية إلى الشعوب المنتفضة، من الجالسين على مقاعدهم الأثيرة في طقوس أريستوقراطية، يحتسون شاي المساء مع صحيفة سورية رسمية أو قناة فضائية “ممانعة” لا تمل من التقيؤ على مشاهديها صبح مساء.
لافتة ثانية، لكن بحجم اصغر تتساءل: “هل وصلت فلاشة طالب ابرهيم إلى ستوديو الجزيرة؟”، في إشارة إلى تهديد طالب ابرهيم في حلقة من برنامج “الاتجاه المعاكس” بحيازته وثائق في جيبه عن وجود عصابات إرهابية تقتل الأمن والجيش والمدنيين، على ذاكرة إلكترونية “فلاشة”، وقد أبرز تلك الفلاشة في الحلقة وأبرز معها جيبه الأنيق.
يعود السوريون اليوم بعد طول انقطاع إلى الشارع، إلى الوضوح. هذه حالة تتطلب جهداً استثنائياً لتغليب الوطني وإبرازه هويةً لسوريا المستقبل، وقد نجح أحرار سوريا في ذلك وفي صناعة الوطني إعلامياً وسياسياً حتى الآن، وهم يعملون بدأب على امتداده وترسيخه ثقافةً بديلة لثقافة صنعها الاستبداد هي ثقافة الفئة، ثقافة المصلحة الشخصية والمحسوبيات. صارت المناطق السورية جسداً واحداً إذا اشتكى فيه عضو تداعت سائر الأعضاء. أصبح حمزة الخطيب وعلي فرزات وأطفال درعا رمزاً لتوحد المأساة السورية في مواجهة الموت والعنف اليومي.
شادي أبو فخر ناشط شاب من مدينة السويداء اعتقل في غمرة الانتفاضة، تستطيع أن ترى لافتة مرفوعة في مدينة السلمية وسط البلاد تطالب بالحرية لشادي أبو فخر. وإذا ودّعتَ مدينة السلمية واتجهت شرقاً إلى مدينة حماة فسترى لافتة في ساحة العاصي، مركز المدينة، تطالب بالحرية لمعتقلي مدينة السلمية.
عن العاصي والشاعر والحنجرة
من لم يسمع بابرهيم قاشوش؟ الكل سمع به. السيد أحمد صوان فقط، الذي تحول حضوره الإعلامي طقساً يومياً للدفاع عن النظام، أنكر معرفته به في مقابلة مع قناة “العربية”، يوم مقتل القاشوش وانتزاع حنجرته وإلقائه على ضفة نهر العاصي في مدينة حماة. قال صوان: “من هو هذا الشاعر؟ أنا لم أسمع به طوال مسيرتي الأدبية والشعرية”.
ثمة مسيرة أدبية وشعرية لا يستهان بها لدى الصوّان إذاً، لكن شعراء الانتفاضة هم من خارج النسق السلطوي الذي يستظله الصوان وأحمد حاج علي وفلاشة طالب ابرهيم. القاشوش شاعر شعبي من خارج اتحاد الكتاب العرب، أطلق لحنجرته العنان وانتقل صدى صوته من ساحة العاصي إلى كل سوريا، فصار أحد رموز الحرية وانتفاضتها في سوريا وفي حماة خصوصاً. من لا يذكر عدّاويته: “سوريا بدا حرية…”؟ العدّاوية لمن لا يعرف معناها، نوع من الغناء الشعري الموزون والمغنّى باللهجة السورية المحكية.
انتقلت عداويات القاشوش إلى كل بقعة سورية تشهد تظاهرة يتاح للمتظاهرين فيها تأمين مكبّرات صوت، وفق إمكاناتهم. صار الشاعر البسيط الآتي من حي منسي في مدينة حماة، رمزاً من رموز الحرية المنشودة. يندر أن يمر يوم جمعة من أيام ملحمة الحرية في سوريا، أو حتى يوم عادي من أيام التظاهر والاحتجاج ورفع الصوت بالرفض، من دون أن يكون ثمة قاشوش آخر يعيد الأغنية الموزونة نفسها.
هل يختفي الحلم باقتلاع حنجرة؟ يجيب أحد الناشطين: “إن سياسة النظام اعتمدت في عامي 2001 و 2002 على خنق أصوات المثقفين والكتّاب طالما أن ما عُرف بربيع دمشق كان نخبوياً ولم يغادر المنتديات والصالونات. لكن، مع امتداد احتمال الربيع إلى أرجاء سوريا، بات النظام معنياً أكثر من أي وقت مضى بملاحقة كل من يتخذ الموقف الطبيعي للمثقف أو حتى للمواطن العادي برفض الاستبداد، والطبيعي أيضاً أن انتفاضة كالتي تشهدها سوريا اليوم قادرة على أن تجعل من حنجرة القاشوش وأصابع علي فرزات رمزاً يتكرر في كل مناسبة احتجاجية”.
سوريا خسرت كثيراً من الضحايا على طريق نيل الحرية، والآتي القريب من الأيام ينذر بالمزيد من العنف والموت. ثمة خطوات ثابتة يخطوها السوريون في اتجاه صناعة مستقبلهم، وتوثيق طريقهم نحو ذلك المستقبل عبر إبداع يومي يرسم معالم انتفاضتهم ويلوّنها بألوان شتى إلى جانب الأرجواني المخضبة به. هكذا، ومع كل وقفة أمام مشهد من مشاهد الانتفاضة، لا بد للمرء من أن يطلّق اليأس مع صوت القاشوش وهو يخرج من كل بيت منكوب بشهيد أو مفقود أو معتقل: “وحياة الشهدا الأبطال/ وحياة الدم اللي سال/ كرمال عيون الأجيال/ بدنا ننال الحرية”.
النهار