صفحات سورية

سورية… من هنا تُستأنف الثورة!/ مرزوق الحلبي

 

 

 

كلّما استعصت الأمور على النظام في دمشق والجيوش الحليفة له على الأرض الشامية لجأ إلى ضربة كيماوية كما في خان شيخون. لا في المسألة خطأ في التصويب ولا هي تلك الأكاذيب التي يبثّها النظام وماكنة روسيا الإعلامية. كلّما أرادوا الاقتلاع والتهجير زادوا من حدّة العنف ووحشيته. وخان شيخون حلقة أخرى في السلسلة ليس إلا ستتبعها حلقات أخرى متى استعصت الأمور وتعثّرت ومتى اصطدم مشروع الاقتلاع والتطهير العرقي بمقاومة شديدة. وهذا يعني ضمناً أن الشعب السوري معرّض منذ بدء الحرب حتى إشعار آخر للمزيد من الفتك والهلاك بأيدي ماكنة عُظمى تشغلها دول عُظمى تحرّرت تماماً من قيود القانون الدولي بشقيّه ذاك الذي يخوّل مجلس الأمن التدخل لوقف المجزرة وذاك الذي يحظر جرائم الإبادة واستعمال الأسلحة المحرّمة والجرائم ضد الإنسانية.

ما يحدث على الأرض السورية ليس سورياً فقط، بل هو ترجمة حرفية لتخبطات المنظومة الدولية مع انفراط عقدها الذي تشكّل بُعيد الحرب العالمية الثانية. إلا أن هذه الترجمة وحشية إلى أبعد الحدود ثمنها حيوات السوريات والسوريين ومصائرهم المختومة بغاز السارين مرة وبالاقتلاع والتهجير وتخريب الحاضرة مرّات! كل الأعراف والمحاذير والقوانين والمواثيق التي نشأت من أتون أوشفيتس وتجربة النازية تبدو لي في خان شيخون رماداً في رماد. ليس لأنني أقلّل من جدواها أو لزومها بل لاعتقادي أن الزمن تجاوزها وأن الوقائع على الأرض شطبتها كإرث فاعل وأبقتها في الأرشيفات. وأكثر لأن الدول نفسها خضعت لضغط العولمة، فباتت أكثر سيولة وكذلك علاقاتها. فإذا كانت الأزمة في الفكر السياسي وفلسفة الاجتماع التي أحدثتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، خاصة الثانية، قد رسمت الحدود والقوانين واضحة لتسوية العلاقات بين الدول وداخلها من خلال مركزية الإنسان وحقوقه وتأكيد واجبات الدولة نحوه، فإن العقود الأخيرة تشهد تراجعاً في هذا الوضوح لمصلحة القوى الخفية، قوى السوق المتعددة الجنسيات وحركة العولمة غير القابلة للضبط واللمس. وهي القوى ذاتها التي غيرت مراكز القوى وبدّلتها أو جعلتها أكثر فأكثر خارج الدول وخلف الحكومات وفوقها.

لا أقول هذا لأبتعد عن لغة سوسيولوجيا الدولة القطرية وقوانين العالم التي تشكّلت على أساس مفاهيمها ولغتها، بل لأشير إلى ضرورة الإقدام على فهم الأزمة السورية من خارجها، أيضاً وليس فقط من خلال ما شهدته الشام محصورة في الحدود التي رسمتها معاهدة سايكس بيكو (1916) منذ استقلالها، وبخاصة منذ استحواذ آل الأسد على مقاليد السلطة والمقدرات والمصائر فيها. ينبغي أن نرى إلى ما يحدث على الأرض السورية مثلاً من خلال مآلات المشروع الإيراني في المنطقة ومفاعيله، أو من خلال نزعات الدُب الروسي ومشاريعه، أو من خلال موقع سورية في خريطة المصالح الغربية والأميركية. هكذا فقط أمكننا أن نفكّ لغز امتناع كل القوى التي ادعت تأييد ثورة الشعب السوري عن تزويد هذا الشعب وفصائله المسلّحة بصواريخ مضادة للدروع و/الطيران. وهي خطوة كانت ستحسم الحرب لمصلحة الثورة في عامها الثاني أو الثالث على الأكثر. وهكذا، من خلال حضور الخارج في الداخل السوري، يُمكننا أن نفهم كيف امتنعت الدول العُظمى عن القيام بعمليات إغاثة إنسانية حقيقية كإنشاء مناطق آمنة للمدنيين السوريين أو التدخّل العيني لمنع تطهير عرقي أو استعمال المتكرر للغازات السامة وهي أسلحة محرّمة دولياً!

المصالح العولمية، إذا صحّ التعبير، المتصارعة على الأرض السورية المحررة من تفاهمات الحرب الباردة ومواثيق وأعراف ما بعد الحرب العالمية الثانية والمحرقة، هي التي تحدد قوانين اللعبة. ولا أشكّ في أن الغارة الأميركية بالصواريخ الموجّهة من بعيد تأتي في إطار حسابات هذه المصالح. وهي المصالح التي استقدمت إلى سورية جيوشاً وطائرات وقوات أكثر من ثلاثين دولة بحجة محاربة «داعش». فهذه الدول فاعلة على الأرض السورية من زمان، وللأميركيين كما لغيرهم قواعد جوية وأخرى في سورية نفسها وهي تسرح وتمرح هناك على وقع مصالحها أو حساباتها هي. ومن هنا يبدو لي بائساً ومسكيناً مَن يُندّد بالغارة الأميركية على سورية باعتبارها «دولة سيادية»! وهي الدولة التي تحكمها بقوة وبعنف قوى خارجية وتعبث بمصائر شعبها ومقدراته كلها!

أرجّح أنه ليس في الغارة الأميركية أي دلالة تتعدى إيصال رسالة من إدارة جديدة بقيادة ترامب إلى إيران وروسيا ومحاولة ردع النظام وحلفائه من تحويل استعمال السلاح الكيماوي إلى مألوف وعادة. هذا علماً أن الولايات المتحدة الأميركية ذاتها حاضرة على الأرض السورية وفي الأزمة السورية على مقاسات مصالحها منذ البداية. وأمكننا القول إن هذه المصالح تتطابق تماماً مع سياسات الروس وإيران الرامية إلى الإبقاء على نظام آل الأسد في سورية، ربما ضعيفاً أو مُنهكاً أو مقصوص الجناح، كجزء من خريطة المصالح المتشكّلة في الشرق الأوسط. وكان النظام بكل ما يعنيه من سؤدد واحتكار للقوة والعنف هراوة في أيدي النظام الدولي ضد الشعوب، السوري واللبناني والفلسطيني والكُردي، على مدى عقود واستعمالها ضد بعضها أو لتنفيذ أجندات تكتيكية محدودة. أما الهدوء التام الذي التزم به نظام آل الأسد في جبهة الجولان المحتل على خطوط وقف إطلاق النار طيلة 44 عاماً فقد يكون الحقيقة الناجزة التي تدلّ على ما ذهبنا إليه. نظام ذو ألفاظ عالية عالية وممارسة واطئة واطئة في الوحل.

وماذا يُمكن أن يستدلّ الشعب السوري نفسه من هذه القراءة وفي ضوء تجربة خمس سنوات ونيف من الثورة ضد نظام دموي؟ الاستنتاج الأبرز هو أنه ليس لهذا الشعب سوى نفسه وطاقاته وقواه. كل مراهنة أخرى على غارة أميركية معروفة للروس بعنوانها ومواقيتها هي مضيعة للوقت. وكل تعويل على قوى خارجية مصيرها الخيبة. من هنا تُستأنف الثورة!

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى