سيادة القبعات الزرق!
سليمان تقي الدين
لم يعد تدويل الأزمة السورية مقتصراً على المداخلات الخارجية والدفع باتجاه ترجيح كفة طرف على آخر. دخلت سوريا في عداد الدول الخاضعة لشكل من أشكال رقابة الأمم المتحدة وانتشرت على أراضيها عناصر المراقبين الدوليين في خطوة أولى لاعتبارها دولة غير مستقرة وربما دولة منقسمة. يكرّس القرار الدولي واقعة هذا الانقسام حتى بين قوى غير متكافئة. المضمون الفعلي للقرار مهما جرت محاولات تفسيره خلاف ذلك يهدف إلى حماية المدنيين. لعله القرار الذي يشبه بقعة الزيت إذا لم يتوقف العنف ولم تنجح محاولات تسوية الأزمة بحل سياسي بات يفترض تنازلات حقيقية من النظام هذه المرة لصالح الداخل وليس الخارج.
لنفرض على سبيل الجدل أن النظام لم يقدّم تعهدات للغرب ولكتلة الدول العربية الخليجية التي تصدرت المواجهة، فهو قد وصل إلى حال من الضعف الذي يجعله لا يملك الفاعلية للقيام بدور يزعج خصومه. تكاد تكون قوة النظام العسكرية والأمنية التي يعترف بها الغرب ضمانة لعدم قيام فوضى تستفيد منها بعض القوى المتطرفة غير المسيطر على حركتها تماماً. لكن الإجراءات التي اتخذها مجلس الأمن لا تذهب في اتجاه واحد وهي ليست ضامنة لمزيد من التداعيات التي يمكن البناء عليها المزيد من التدخل الدولي. لقد صار مكروراً أن غياب التسوية السياسية يعمّق حالة التجويف المتمادي للدولة ويراكم معطيات باتجاه الحرب الأهلية التي يحذر منها أصدقاء النظام وخصومه. بل إن هناك من يعتقد بحق أو بغير حق أن العمليات الأمنية والعسكرية من النظام أو القوى المسلحة المناهضة تهدف إلى رسم خريطة جغرافية وديمغرافية بعضها وقائي وبعضها يهدف إلى بناء مواقع نفوذ وسيطرة تقود إلى قيام خطوط تماس بعيدة المدى. قد لا يكون في تفكير أي من القوى الفاعلة في الداخل والخارج أي مشروع لتفكيك الكيان السوري وتقسيمه لكن استمرار الأزمة يستولد بالتداعي أشباهاً ونظائر للنموذجين العراقي واللبناني. وكأن هذه المنطقة المشرقية تخضع الآن من حيث مكوّناتها إلى صياغة جديدة لأنظمتها على حدود انتشار «القبعات الزرق» من غير أن ندرك مخاطر ذلك وأبعاده على كل ادعاءاتنا لمقاومة مشاريع الغرب.
هكذا يضعنا الغرب أمام خيارات أحلاها مر: الرضوخ الكامل لهيمنته أو خوض مواجهات باتت محكومة سلفاً بمزيد من الضعف. ليست المواجهة ما ننكرها وننكر ضرورتها بل هذه الأشكال والأدوات والسياسات التي تجعل السلطة، المحافظة عليها أو الطامعة في الحصول عليها والانفراد فيها أو مصادرة قرارها، هي الوسائل المعتمدة، وهذه بتفاوت تجربة فلسطين ولبنان والعراق وسوريا.
مكابر إلى حد الغرور من يدّعي أننا قادرون في المدى المنظور حتى على تحسين شروط المواجهة مع الغرب وإسرائيل. نحتاج إلى إعادة تأهيل كاملة من أجل استعادة حد أدنى من المناعة والاستقلال ومن التماسك.
من المحيط إلى الخليج بتنا دولاً وشعوباً في دائرة النفوذ الدولي بل في دائرة الوصاية. فلا مصر الثورة قادرة على تغيير موازين القوى السياسية الإقليمية وهي غارقة في مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والتنافس على سلطة بتركة ثقيلة. ولا الخليج العربي الغارق في وهم القيادة قادر أن يقود عالماً عربياً بثقافته السياسية المتخلفة وبتبعيته المطلقة للغرب. ولا سوريا أو العراق أو الجزائر دول تملك مصائرها الآن بعد أن صارت منشغلة بمشكلاتها الداخلية. ولا فلسطين عادت القضية التي تجمع ولا الشرعية التي يخجل أمامها العرب ويتنافسون في استثمارها، ويزكّون عن خطاياهم وتقصيرهم من أجلها. نحن الآن في حمّى صراع يهمّش معظم الطاقات العربية حيث التنافس على السلطة يبلغ أقصى مداه في لبوس ديني أو مذهبي وعنف سياسي يقوم على تزييف المشكلات وتحويرها. فلا الإسلام السياسي السني أو الشيعي ولا المحاور الدولية التي تستخدم هذا النزاع يمكن أن تشد أواصر العالم العربي في مواجهة حاجات الإنسان العربي. وراء كل هذا الغليان السياسي نجد جدول أعمال يختلف تماماً عن طموحات الشباب العربي وسعيه إلى حل مشكلات البطالة والفقر والحرية والكرامة.
قد يؤدي هذا إلى إحباط جديد وقد يؤدي إلى مزيد من محاولات التغيير التي تتمرد على احتواء «الثورات العربية» مجدداً في قوالب الحريات السياسية الممسوكة من طرفي المؤسسات الأمنية وحركات الانتفاخ الإيديولوجي للإسلام السياسي كما يحصل في مصر. وفي كل حال هناك فراغ سياسي لا بد أن تملأه يقظة الشعوب العربية بفعل الضرورة وإلحاح حاجة هذه الشعوب لتنظيم جديد لاجتماعها السياسي ولحقها في العيش بكرامة.
السفير