صفحات الرأي

سيكون قاتلاً بالضرورة مَن لم تسحره فكرة الشهادة/ فاروق يوسف

 

 

ما معنى أن تُرفَع الرايات السوداء مزيَّنةً بجملة “لبّيك يا حسين”، في أماكن متفرقة من الشرق العربي؟ في العالم الحر، يمكن المواطن، كلّ مواطن، أن يرفع علماً شخصياً في حديقة بيته، على سطح منزله، في مزرعته، بشرط أن لا يكون ذلك العلم تعبيراً عن نزعة قومية أو دينية. شيء أشبه بلعبة تزينيية، يمتزج فيها العبث البصري بالفكاهة الموقتة. ربما كان علم المثليين جنسيا قد استُثني من تلك القاعدة. فهو يعبّر عن نزعة جماعة تشعر أن في اختلافها ما يزيد من تضامن أفرادها. ذلك العلَم على العموم لا يزعج أحداً في الغرب، لأنه لا ينطوي على رغبة في التحدي أو الانتقام من المجتمع. هو الآخر ينطوي على الكثير من العبث الصبياني، وهذا ما يكشف عنه جماله الذي يذكّر بمشهد قوس قزح.

لا تحضر راية “لبّيك يا حسين”، إلاّ مصحوبة بصيحة “يا لثارات الحسين”، وهذا ما يجعل رفعها مقدمة لعمل انتقامي، يمكن تصنيفه اليوم، وفق المعجم السياسي المعاصر، فعلاً إرهابياً. فهل صار تاريخنا هو الآخر مطية للإرهاب؟ يمكننا تصديق ذلك. فـ”طالبان” لا تطلب من الأفغان شيئاً سوى أن يلتزموا مظاهر الحياة في زمن النبي محمد.

أصنامنا الوهمية

في زيارتي الأخيرة لبيروت، رأيت لافتات كثيرة كُتبت عليها جملة “محمد قدوتنا”، بما يؤكد أن النهج “الطالباني” كان قد أقنع شريحة من مواطني “سويسرا الشرق” بقبوله وتبنّيه أسلوب حياة، بل وفرضه بصرياً على الآخرين. في سالف عصرها كانت حركة “طالبان” قد دمرت آثار متحف كابول، وهذا ما فعله تنظيم “داعش” بالآثار في متحف الموصل.

لو كانت تلك الآثار ظاهرة للعيان أيام الفتوحات الاسلامية، هل كانت لتنجو من التدمير؟ هل مرّ عمرو بن العاص قريباً من تمثال أبي الهول فعلاً؟ أعتقد أن الرؤية الدينية للأصنام كانت ولا تزال صريحة في عنفها. لدى المتشددين دينياً أصنام، لكنها من نوع مختلف، لا علاقة له بالفن أو الحضارة الإنسانية. تلك الأصنام لا تشهد للإنسان بعبقرية حريته، كما تفعل التماثيل السومرية والآشورية والفرعونية والرومانية والإغريقية والفينيقية والصينية، بل هي أصنام وهمية، تمزج حلم المستضعفين بكابوس الرغبة في الانتقام.

الحسين بن علي الذي قتل في العام 61 للهجرة (680 للميلاد)، هو أحد تلك التماثيل المعبودة. في المقابل، هناك تمثال لعائشة زوجة النبي، يقف أمام تمثال لعلي، الذي هو والد سيد الشهداء، أبي عبد الله الحسين.

من طريق تلك التماثيل الوهمية، كانت جماعات دينية متطرفة قد أسرت الواقع لتضعه في خدمة مرويات، طوت صحائف المقدّس من الكلام لتفتح دفاتر السلف الصالح التي مرت على سطورها أنواع الأحبار، وبلغات مختلفة. ليس مستغرباً وفق ما جرى من كتابة حرّة للتاريخ، أن يكون الحسين الذي ولد في المدينة المنورة (السعودية الآن) ومات في كربلاء (العراق الآن) صينياً، مثلاً. في هذه الحال، لن يكون التمثال المتخيّل نفسه.

لن يكون مفاجئاً أن نرى جيشاً من الهزار الأفغانيين وهو يحاصر الكوفة رغبةً في الانتقام من أحفاد، خان أجدادهم الحسين حين تخلّوا عن رسوله مسلم بن عقيل، وسلّموه شخصياً في ما بعد إلى القتل. ولكن هل يتحمل التاريخ هذا النوع من الكوميديا؟

قيل إن يابانياً كان قد أقام حسينية في ناغازاكي بتمويل عراقي. حسب موقع “يوتيوب”، كان المشهد يدعو إلى الضحك. فالرجل الحزين كان يتعثر بمقاطع ثقيلة من المقتل الحسيني الذي كان يقرأه عبد الزهرة الكعبي بسلاسة مَن يروي حكايته الشخصية. هل كنا في حاجة إلى ممثل ياباني لكي يكتمل المشهد؟ كان هناك مَن تحذلق في الحديث عن المسرح الحسيني، وكان هناك مَن يفكر في إحيائه على المسرح، باعتباره إرثاً بديلاً من المسرح الإغريقي والروماني. كذبة شفافة كان علينا أن نصدّقها، لأنها ستمر خفيفة من غير أن تترك أثراً. لكن الرايات الحسينية التي صارت تُرفَع في غير مكان من العالم العربي، لا تنطوي على مزحة. انا على يقين أن القارئ الحسيني الياباني كان يمزج بين ضحايا القنبلة النووية وشهداء موقعة الطفّ، فيبكي.

جنائز إلى الأبد

“هل رأيتَ عدوي؟”، يقول لكَ، ثم يقتلكَ بعد لحظات. هذا ما حدث في قرى تكريت، وهي المدينة التي ولد فيها الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين، عدوّ الإيرانيين، حياً وميتاً. وهو عدوّ الحسين بالضرورة. فالإيرانيون نجحوا في إقناع أتباعهم بإن كل مَن لا يخنع لمشاريعهم هو عدوّ للحسين. أما كيف استولت ايران على الحسين، فتلك حكاية معقدة. هناك الكثير من الإيرانيين ينتسبون إلى الحسين، وهم السادة على الرغم من أنهم من أصول فارسية. خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية، بعمامته السوداء، هو سيدٌ حسيني، وقد ورث الحكم عن سيّد حسيني آخر، هو خميني، الذي قال “إن لم تستمر المسيرات الحسينية (الجنائزية) ستسقط الجمهورية الإسلامية”، وهذا قول كان أتباع خطّ الإمام خميني أوفياء له. كان “حزب الله” في لبنان هو الأكثر إخلاصاً لخطّ الإمام في ذلك المجال الحيوي، حيث كان ذلك الحزب خصماً للبنانيين بجنائز شهدائه، الذين يرى في كل واحد منهم حسيناً صغيراً، وهو التمثال الذي تضعه العائلة في واحدة من زوايا البيت لتستحضر من خلاله ما لم تتذكره في صلاتها. كانت الرمزية التي أُحضِر من خلالها الحسين، مجرد فخّ أسلوبي. في حقيقته، كان الحسين كما استحضره الإيرانيون وأتباعهم، عنواناً لحرب لن تنتهي ضد العرب. فأحفاد الحسين، وجلّهم حسب الرواية الإيرانية من الفرس، يشنّون حرباً على أحفاد يزيد، وهم العرب، من دون تمييز بين سنّي وشيعي. غير أن الفرس كانوا وهبوا حربهم على العرب في البدء غطاء طائفياً، من أجل أن يقتل العرب، بعضهم البعض الآخر، فتكون فتنة، عنوانها الحسين العربي الذي صار الفرس ينظّمون غزوات الثأر له.

أليس مهيناً للعقل أن يرى العراقي في هارون الرشيد عدوّاً، وهو الراعي الأكبر للحضارة العربية – الاسلامية في العراق في زمنها العباسي؟ في الأيام الأولى للإحتلال الاميركي في العام 2003 حطمت عصابة من العراقيين تمثالاً لأبي جعفر المنصور، باني بغداد. لقد تحول شارع الرشيد وهو العمود الفقري لجغرافيا بغداد، إلى مكبّ للنفايات، لا لشيء إلا لأن إيران تكره الرشيد، قاهر البرامكة الفرس. لا يصلح شارع الرشيد ممراً للجنائز التي تذهب مباشرة إلى الجنة، من غير أن تجرؤ الملائكة على فتح دفاترها. شهداء الثأر الحسيني مُعفَون من الحساب. سيقف الحسين دائماً في انتظارهم هناك. كان من الممكن أن يتدخل رضوان في الأمر فيسألهم عن تأشيرة الدخول لولا أن الحسين يقف بنفسه في انتظارهم، وهذا يعني أنهم لم يكونوا في حاجة إلى إبراز تأشيرة دخولهم.

ما بعد الحداثة الدينية

هناك اليوم رايات سوداء تتقاتل على الأرض العربية، وهي تصلح كما أتخيّل مادةً محلية لتجارب فناني ما بعد الحداثة. كُتبت على راية “داعش” الشهادتان “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”. في المقابل، كُتبت على راية الميليشيات الشيعية جملة “لبّيك يا حسين”. هي حرب دينية. لا يمكننا إنكار ذلك. ولكن بين مَن ومَن؟ يُقال إن الامام الحسين كان قد اتخذ منذ مقتله طابعاً رمزياً، نحزن من أجله بطريقة تدعو إلى الإشفاق وأحيانا تدعو إلى السخرية. ولكن لِمَ يقاتل الناس من أجله وقد كان الرجل مهموماً بسلطة فقدها وجاء إلى العراق ممنياً النفس في استعادتها وفشل في مسعاه. لم تكن المسألة الحسينية لتتخذ طابعاً دينياً لولا التدخل الفارسي الذي وجد في الجناية العربية مناسبة لتقديس سلالةٍ، ما كان لها أن تقع موقع التقديس في الشرع الإسلامي. فهل وجد الفرس في مقتل الحسين مناسبة للإنتقام من جدّه الذي دمّر دينه أمبراطوريتهم؟

للميليشيات مشاريعها الخفية، ولكن ماذا عن المجتمع؟ من وجهة نظر “حزب الله” اللبناني، كان المجتمع حسينياً، قبل أن يُخترع الحسين باعتباره واجهة لمشكلة عصية على الحل. “إذا كان الإسلام لا يستقيم إلا بموتي فيا سيوف خذيني”: كانت تلك هي مقولته. أما “داعش” فإنه لا يفكر في الحسين ولا في جدّه، بل في المجتمع الذي يرغب في أن يبدد أمله في الحياة. فالحياة بالنسبة إلى “داعش” هي مناسبة للحرب. بهذا تستقيم المعادلة. هناك “طالبان” في مقابل “داعش”. وهما خصمان يلتقيان عند نقطة واحدة. مجتمع يُراد إعادة تركيبه باعتباره نوعاً من لعبة بازل. قتلة هنا، شهداء هناك، فيما الأناشيد الدينية تنعش المكان بذكرى الغزوات. ستكون الحرب في حد ذاتها فكرة مسلية. فمَن لم تسحره فكرة الشهادة، سيكون قاتلاً بالضرورة. وإن كنت لم تلتق حسينياً في طريقكَ، فذلك يعني أنكَ كنتَ حسينياً من غير أن تدري.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى