صليب سليمان
فادي سعد
عند رأس طاولة الاجتماعات المستطيلة المصنوعة من خشب الزان الروماني الفاخر، جلس القائد الأوحد يتفحّص وجوه مساعديه. التوتّر كان الحاضر الأبرز في اجتماعات الأشهر الأخيرة. فمع استمرار المظاهرات اليومية، وعدم قدرة بعض الحاضرين على القيام بواجبهم العسكري كاملاً في سحق أيّ رغبة وطنيّة في التعبير عن مطالب إنسانيّة دفينة منذ ستة عقود، بات الخوف من اتهامات التقصير الهمّ الأوحد لتلك الطغمة المرابطة خلف الطاولة العتيقة.
في إحدى زوايا الغرفة، وقف رجلٌ كامد التعابير، في يده بندقية كلاشينكوف بنسختها البالية. وظيفته كما كانوا يقولون هي حماية الاجتماع. ولكن الجميع يعرف سبب وجوده الحقيقي. كان الوحيد الذي يُسمح له (إلى جانب الدكتاتور طبعاً) بحمل سلاح في اجتماعات سريّة كهذه. يفتّش الداخلين والخارجين للتأكد من عدم حملهم أيّة أسلحة شخصية، أو أدوات حادة أو حتى مثلومة. القدّاحات أيضاً كانت تُصادر حسب الأوامر.
جلس الجميع حول الطاولة الفارهة. كانت مرتفعة عن الأرض بشكل ملحوظ، حتى يكون حَرفها الحادّ بسويّة رقاب الـجالسين. غنيّ عن القول إن الديكتاتور كان يُستنثنى من هذه الوضعية المـُضحكة والخطرة. فالقائد الأوحد كان يجلس دائماً على كرسيّ عالٍ بعدة أمتار حتى يتسنّى له الإشراف من علْيِه على مجريات الاجتماع وعلى رؤوس الحاضرين. لذلك السبب على الأغلب بقيتْ رقبته بعيدة عن أيّ خطر داهم.
حصل مرّة واحدة أن تدحرج رأسٌ لأحد المستشارين في اجتماع سابق. ما حدث أنّ جدالاً احتدم حينئذ حول كيفية قتل أكبر عدد ممكن من المتظاهرين خلسةً، وبأقلّ الخسائر الإعلامية والفضائحيّة. لسوء الحظّ (أو حسنه ربّما)، اقترح المستشار ذو الرأس الذي تدحرج لاحقاً على الحاضرين محاولة تجنّب قتل الأطفال والنساء والامتناع عن اعتقالهم، على أساس أنّ هذه الفصيلة الأليفة من المواطنين تستحقّ استثناءً خاصاً من القتل حسب تعبيره. لم يكتفِ بهذا، بل تجرّأ، وبعدم مسؤولية مُكلفة، على التلميح إلى الديكتاتور بالسماح للمظاهرات السلميّة (وللأمانة الوطنيّة، كان الغرض من اقتراح صاحب الرأس الذي تدحرج لاحقاً هو الإيحاء إلى العالم الخارجي بوهمِ توجّهٍ إصلاحي ما) التي تخرج يومياً في مناطق عديدة من البلاد بالسير من دون مهاجمتها بالرصاص، أو قمْعها بواسطة كلاب ‘الحبّيشة’ التي اُستقدمت مؤخراً ورُبّــيت خصّيصاً في معسكرات تدريب فريدة لهذه الأغراض الوطنيّة.
بعد هذا الاقتراح الغير وطنيّ، وبكبسة زرّ مخفيّ في ناصية الطاولة الفاخرة، كان رأس المستشار يتدحرج ودُفن الجثمان، أو ما تبقى منه في اليوم التالي، بعد جنازة مهيبة.
في اجتماعاتٍ كهذه، كان وزير الصمود والتصدّي يجلس دائماً على يمين القائد الأوحد. فقد اكتسبَ هو ووزارته خلال الأزمة الأخيرة مكانة رفيعة، وباتتْ كلمة هذا الوزير مسموعة، ونفوذه متنامياً. منذ يفاعته، والمنيف أوّل إيليّا سليمان يحلم باللباس العسكري. ففي أحلام طفولته، كان يرى ضابط الجيش رجلاً يحمل شرفَه فوق كتفَيْه. المواطن الذي ينذر حياته لحماية تراب الوطن وهوائه، والذود عن مواطنيه. في مدرسة المدفعيّة، تعلّم قصف العدو بقذائف الموت، وتغليف سبطانات المدافع بكرامة الجنديّ المقاتل. أظهر إيليّا خلال مسيرته العسكرية ذكاء وحرفيّة أوصلته إلى منصب المسؤول الأول في وزارة الصمود والتصدّي. لكن، بعدما كثرت الأوسمة التي ألصقوها على بدلته الواسعة، وتراكمت الامتيازات التي تُمنح لأصحاب النفود أمثاله، بدأت علامات النخر تجتاح خيالاته الأولى، وتصل إلى تلك الزوايا البعيدة التي ربّما (وهذا محض افتراض روائيّ) كانت لتبقى نظيفة لولا بهاء السلطة. لم يكن ممكناً معرفة مقدار النتن الذي استشرى في قلب إيليّا، والعطب الذي أصاب روحه حتى طُلب منه ذبْح شعبه.
نظر إلى وجهه في المرآة. لماذا عليه الآن وبعد كلّ هذه السنين، وهذا الصعود، أن يقتل شعبه؟ كان كلّ شيء على ما يرام. لكنّه يأتمر بأوامر القائد الأوحد، الديكتاتور الذي محَضَه الارتقاء والوزراة والجاه. وأحد الهواجس الذي صار يشغل إيليّا منذ أن بدأ بقتل شعبه، إيجاد عذر أخلاقي لزوجته وأولاده وبعض أصدقائه. ولضميره.
– العصابات المسلّحة يا إيليّا يعيثون في البلد خراباً وموتاً.
– نعم سيدي. صحيح. يجب أن نضربهم بيد من حديد.
– أنت تعْلم أن هذه العصابات تتنكّر بهيئة مواطنين سلميّين محترمين، ويدّعون أنهم يريدون التظاهر فقط!
– طبعاً سيدي. لن ننخدع. أعلم.
– أنت يا إيليّا من أخلص الجنود لهذا الوطن وأكثرهم فهماً لمقاصدنا الاستراتيجية البعيدة المدى.
– طبعاً سيدي، طبعاً. أنتم الذين تحمون هذه الأرض من المؤامرة العالمية التي تحفّ بها من كل صوب.
ابتسم الديكتاتور برِضى. وأخرجَ من درج مكتبه صندوقاً مزخرفاً.
– هذه هديّة بسيطة. عربون بسيط على وفائكَ السابق وافتدائك القادم.
فتح إيليّا العلبة المنمنمة. أخرج منها صليباً خشبيّاً مُعرّماً بخيوط ذهبية، حُفرتْ على أطرافه الأربعة شعارات الحزب الخالدة. أخذ الديكتاتور الصليب بيدَيْه وثبّته بمسامير شفّافة من الصعب رؤيتها بالعين المجرّدة فوق صدر إيليّا، في المنتصف تماماً، بحيث غطّى معظم الأوسمة العسكرية التي كانت ظاهرة سابقاً. ثمّ قال:
– أرجو أن تبقيه هنا فوق صدركَ حتى يستطيع الجميع رؤية جماله، والتوجّس من قدسيّته.
أصابت إيليّا بعض الحيرة، التي لم يُظهرها طبعاً.
– أشكرك يا سيدي على هذه التحفة الرائعة. لكن سيّدي، قد يتلطّخ هذا الصليب الجميل بغبار المعارك ودماء المتآمرين الخونة.
افترّ الديكتاتور عن ابتسامة معهودة قائلاً:
– هذا المطلوب أيها الجندي المخلص. هكذا قد يرتدع البعض. اتركه هكذا إيليّا، حتى يستطيع الجميع رؤية هيبة هذا الصليب. منظركَ أبهى به. صدّقني. المصلحة الوطنية العليا أيضاً تتطلّب ذلك. والمستقبل المشرق الكريم الذي نريده لهذه الأرض يتوخّى ذلك.
بعد ذلك اليوم، باتَ إيليا صليباً عسكرياً متنقّلاً يجلس دائماً على يمين القائد الأوحد. وصار كلّما أراد أن يتحسّس صدره، تلمّس صليباً متّسخاً، وضميراً مشوّهاً.
جلسَ على يمين الديكتاتور. أمامهما، كان مصوّر القصر يلتقط المشاهد التاريخية. فكّرَ: لماذا يركّز العدسة على صدري؟
سأل الديكتاتورُ من عَلْيه:
– كم قتيلاً اليوم؟
أجاب رئيس أحد فروع الاستفهامات:
– سبعة وسبعون طفلاً وعشر نساء. أمّا الرجال فقد توقّفنا منذ فترة عن الحساب يا سيّدي.
– جيد جداً. بل ممتاز. الحصيلة محرزة اليوم. أريدكم هكذا، حماةً للوطن وشوكة في عين الأعداء الذين يتربصّون بنا خارج حدود هذه الغرفة. استمروا في عملكم البطولي. كلما رأى عدوّنا الجديد مقدار بطشنا بشعبنا واستهتارنا بحياة من يتجرّأ على بخّ الجدران والتظاهر سلميّاً وجرح هواء الوطن بصراخٍ مزعج عن مطالبَ محقّة غريبة علينا وعلى عاداتنا وتقاليدنا الوطنيّة، سيزداد خوفه، ويحسب لنا ألف حساب.
طفق الجميع يهلّل للديكتاتور على حكمته المشهودة. إيليّا أيضاً شرع في التصفيق. صار جوّ الاجتماع احتفاليّاً. تناقل المجتمعون صوراً حديثة، تظهر فيها أعضاء بشرية مبتورة، وأجساد غضّة لأطفال مزقّهم رصاص الحاضرين. فمنذ فترة ليست بالقصيرة، ورؤساء الفروع الاستفهاميّة والحربيّة يتنافسون على عدد القتلى. كان معروفاً في هذه الغرفة أنّ القاتلَ عدداً أكبر من الأرواح، وبخاصة من جنس الأطفال الذين يكبرون بسرعة هذه الأيام، تصبح له حظوة أكبر عند الديكتاتور. كلٌّ صار ينتقي صور الشهداء التي يظنّ أنها تخصّه، يثبّتها فوق صدره ويطلب من مصوّر القصر أخْذ صورٍ تذكارية للتاريخ، مع ابتسامات ناصعة.
ايليّا لم يجد مكاناً فوق صدره. فالصليب كان يأخذ مساحة لا بأس بها. كما أن أذرعه الأربع صارت تشدّد الخناق عليه. فكّر بالأطفال. قد تبدو على بعضهم ملامح البراءة. ولكنْ آباؤهم… لن يتخلّى عن عادة تقبيل أطفاله قبل النوم. هو يفعل هذا كلّ مساء… ينظر في عيونهم ويضعهم في أفرشتهم. ‘بابا، لماذا تأخرتَ علينا اليوم؟’. والإجابة نفسها: ‘مشاغل كثيرة يا حبيبي…’. يتلمّس جبينه. يسعل قليلاً… مهما كان، يبقى هؤلاء أطفالاً… الكبار يستحقّون القتل… ولكن هؤلاء الأطفال سيكبرون أيضاً… إذاً يستحقون… المهمّ الآن أن يرفع كأسه… لا يريد أن يتجلّى على وجهه الشرود… وأمهاتهم… تذكّرَ زوجته…. في الماضي لم تكن لديه شكوك… لو يستطيع تهشيمها هذه الشكوك… لو يستطيع تهشيمها هذه الكاميرا. كلّ شيء بدأ منها… كيف يقصفها هذه الكاميرا؟… الكاميرا الكابوس… لولاها لما رأى كلّ هذه الصور… عينا العالم الذي يتفرّج عليه الآن… ‘بابا، لماذا يبدو عليكَ التعب؟… بابا، هل صحيح أنّكَ تحارب اسرائيل كما أخبرَتـْني ماما؟’… يشعر بألم حاد يعصر أذنيْه… يسمع قرع الكؤوس المليئة… ‘سننتصر…’، سمع أحدّهم يصرخ. رفاقه في وليمة القتل… هم رفاقه وهو منهم… رآها يدُ الديكتاتور تربّتُ على كتفه. سمعه يقول:
– سننتصر يا إيليّا.
استدار ليكمل الحديث:
– على مَنْ يا سيدي؟
كان الديكتاتور قد خلع قناعه.
– لا أدري يا إيليّا. فقط تأكّدْ دائماً من ثبات الصليب فوق صدرك.
– حاضر سيدي…
– أحبّه هكذا، مخضّباً. يليق بكَ.
بقي إيليا يفكر في الأمر، وهو يسمع ضحكة الديكتاتور المجلجلة، تؤزّ في أذنيه.
ديترويت