صفحات الحوار

طه خليل: سيظل الشعر ضعيفاً أمام هول ما ارتُكب


أدهشه الحضور الرائع للمرأة المبدعة

راشد عيسى

«ليس للكردي إلا الريح» قالها محمود درويش ذات مرة. ليس هناك أكثر من هذه العبارة تعبيراً عن الخيبة الهائلة للأكراد. غير أن طه خليل، الشاعر السوري الكردي يضيف، كما لو أن كلامه على سبيل التوضيح «قتل منا ما يكفي لخمس ثورات بلشفية مثلاً»، من دون أن يجدوا تعاطفاً من زعيم، وإدانة من سياسي. ورغم ذلك فقد صدحت أصواتهم منذ اليوم الأول للثورة بأسماء المدن السورية، هتفوا لدرعا ودوما وحمص وما زالوا يهتفون. ما الذي يقوله شاعر كردي عن ثورة بلده، وعن ثورات سابقة لم يحس بها أحد، وعن الشعر والشعراء إزاء كل ذلك، هنا حوار مع الشاعر السوري طه خليل.

لعلك من أوائل الذين كتبوا قصائد في الثورة السورية.. في أي ظرف كتبت؟ ما دور القصيدة في ظل الثورة؟ خصوصاً أن القصيدة يصعب أن تصل إلى الثوار في ظرف كهذا. كم مكتوب لها ان تعيش؟

^ ما يحدث الآن من حراك ثوري هو بداية نهضة جديدة، نهضة تجدد التاريخ، التاريخ الذي وصل إلينا على حراب المنتصرين وأسنة أيديولوجيات ابتدعها أشباه بشر لم ينتموا لهذه الأرض يوماً. الآن هناك من يصحح التاريخ، ويعيد سرد الحكاية من الأول، الحكاية المغيبة، حكاية شعوب بنت الحضارات وسنت السنن والقوانين المدنية منذ آلاف السنين، فسرق مهندسو الخطابة منهم جهدهم، أرضهم، وكرامتهم.

وأنا أكتب اليوم قصيدتي أفكر بكل هذا. أفكر بجلجامش وعشتار، ومحمد، وكاوي، وزردشت.. والكواكبي، وأضع جانباً مولانا لينين وتلامذته.

أعرف ان القصيدة التي نكتبها اليوم لا تصل إلى الثوار والشهداء، فأحاول تمرير قصيدتي لأم عصى عليها البكاء والدمع، وحبيبة تنتظر عاشقها وهي لا تعرف إن كان سيعود. أحاول أن ألحق بما ظل منسياً كيلا يضيع.

خيبة القصيدة كبيرة من شاعرها أمام الحدث، وعلينا أن نحقن القصيدة بشجاعة الثوار وروحهم. أما الشعر الذي كتب خلال خمسين سنة فهو الآن يحتضر، في غرفة الإنعاش. وعلينا ان نترحم عليه وعلى من كتبه.

تتحدث عن خيبة الشعر. تقصد عدم قدرة القصيدة على المواكبة؟ أم ترمي إلى مواقف الشعراء؟ كيف تفسر عموماً مواقف المثقفين إزاء الثورة السورية؟

^ بداية أود القول إن الشعر هو أضعف «مخلوقات» الأرض قاطبة، ولا يمكن لكل الشعر العربي أن يسد رمق مواطن يعيش ذليلا، وحتى على صعيد «الشعر الثوري» لم يستطع هذا الشعر أن يخلق حالة ثورية. وحين ذهب المفاوضون الى أوسلو مثلاً، لم يحمل أحد من الوفد الفلسطيني قصيدة لمحمود درويش في جيبه. وعموماً الشعر غير معني بهذه القضايا الكبيرة.

أما مواقف بعض الشعراء وبعض المثقفين السوريين فهي تسير في حيزها الطبيعي، والثورة كشفت جناياتهم التي أخفوها طويلاً تحت اسم اليسار والحداثة، والكتابة عن الفقراء والمضطهدين. كانت ثمة أسماء تكتب يومياً بحجة الدفاع عن الإنسان وكرامته، وقبل ذلك كانوا دعاة شرسين للحداثة والحرية، ولكنهم سرعان ما أظهروا وجوها طائفية مقيتة، وبانت ضحالتهم الفكرية والإنسانية لمجرد أنهم شعروا أن هناك من يدعو للمساواة معهم، وللشراكة في الوطن معهم.

لكن ما يعزي النفس والروح معا أننا اكتشفنا أناساً آخرين، كتاباً ومثقفين كانوا في الظل، فبان بريقهم الانساني، وشموخ قاماتهم وقاماتهن. وشخصياً أدهشني هذا الحضور الرائع للمرأة المبدعة التي كانت مغيبة. نعم إن المرأة السورية «المثقفة» هي أكثر تصالحاً مع نفسها من «المثقف الرجل».!.

مشاهد لا تنسى

إذاً كيف تفسر هذا الحضور النسائي الذي أشرت اليه؟

^ كأني بهن اليوم، أمام كل هذا الدم، قرّرن الخروج للاحتجاج على الوضع اللاإنساني الذي مررن به ودمر المجتمع، وهن مستندات إلى حناجر ترتفع في طول البلد وعرضه منددة بالقمع والاضطهاد. لكننا رأينا أن هؤلاء الأباطرة وفي مواجهتهم لهذه «الهبة» الأنثوية يرمون المرأة الحرة ويطعنونها في أخلاقها، وجسدها، حيث النقطة الأضعف في مجتمع ذكوري قمعي وإقصائي ممنهج. فكان أن حرّكوا ماكنة شائعاتهم ليرموا الحرائر بالتهم التي تحطّ من قدرهن.

لقد اطلعت على أسماء جديدة خلال هذه الشهور لها من الفكر والإبداع ما يقف المرء أمامه بخشوع. وللمرة الأولى مثلاً أكتشف أن في السلمية كاتبات وشاعرات لسن أقل شأنا من «رجال» تلك البلدة من الشعراء والمبدعين. هذا كمثال.

وستظهر أسماء شامخة في كل المجالات مما سيطيح بأغلب المكرس على مدى عقود من العفونة والدجل والتشبيح الفكري الذكوري والأنثوي.

وماذاعن الرسم؟ هل ترسم الآن ضمن هذه الأجواء؟ وماذا عن مواكبة الفن التشكيلي للثورة؟

^ الواقع كنت وما زلت أجد نفسي في الكتابة أكثر، وزخم الحدث والدم الذي أراه قريباً مني كل يوم جعلني أقول أكثر مما أشير. وإن كنت لا أقارن ها هنا بين اللوحة وبين القصيدة أو المقال الصحافي.

وقد اطلعت على بعض الأعمال لفنانين أصدقاء واكبوا الحدث مذ بداياته، ورسموا لوحات مؤثرة ستؤرخ للثورة ومفرداتها المأسوية. وهنا أود القول إن الإبداعات التي تنتجها أقلام وألوان المبدعين السوريين ستكون يوماً بمثابة متحف شامخ أمام شراسة بشر يوغلون في الدم.

في اثنتين من قصائدك عن الثورة يحضر المكان بقوة. هل تجد ذلك أمراً طارئاً على قصيدتك؟ وعموماً ما الذي أملته الثورة على القصيدة؟

^ لقد كان المكان دائم الحضور في قصائدي، لكن في ما كتبته مؤخراً حضر المكان كمعنى، موجز لحدث التاريخ. والأحرى أن أقول إن صوت التاريخ بدا عالياً أكثر في كتاباتي الأخيرة، تاريخ القتل والغدر. كلما أردت الكتابة الآن حضر أمامي عثمان بن عفان وهو يقتل في حضن زوجته، وعلي بسيفه، ومعاوية بعناده وحداثته. وحضر كذلك الحسين ودمه الذي لم يجف بعد. وما زال هناك من قتلته من يردد كل يوم «هيهات منا الذلة».

هناك دجل طائفي أخفاه الحزبيون ومنظرو الانقلابات بمعسول الكلام وركيك الشعر. واليوم ينكشف المستور، وعلى الجميع أن يقرر إما العيش المشترك، أو الموت البطيء. سيظل الشعر كأداة ضعيفاً أمام هول ما يرتكب. لكنني كإنسان عليّ أن أثق بأن الغد سيكون أجمل.

ما المشاهد التي بقيت في ذهنك ولا تستطيع الفكاك منها، وربما كانت دافعا للكتابة؟

^ هناك مشاهد لا تنسى، جارحة، فجائعية، وأخرى وقفت أمامها خاشعاً، ومشاهد كوميدية تحمل فرح الحياة على الرغم من كل الدم والقمع الذي يمارس بحق الانسان. أتذكر على الدوام صعود الفنانة فدوى سليمان على مصطبة، وهي تصرخ بكل قوتها وبصوت مبحوح «سوريا لنا». كان الصوت يخرج من صدرها، وليس من حنجرتها. وثمة مشاهد مؤلمة، تؤلمني لدرجة أتهرب من ذكرها. كيف يمكن للبشر أن يتصفوا بكل هذه القسوة، وهذه الدموية؟ كثيراً ما يتبادر إلى ذهني سؤال؛ هل تستحق الأوطان كل هذا الدم؟

دعني أذكرك بهذا اللقاء البعيد؛ التقينا ذات يوم في العام 2004، وكنت عائداً لتوّك من الشمال حيث انتفاضة الأكراد، كنت ممتلئاً بالدمع ومشاهد الرعب، كيف تتذكراليوم تلك الأحداث؟

^ غالباً يقوم الكرد بالشيء ولم يحن موعده. اشعلنا أكثر من عشرين ثورة وانطفأت. قتل منا ما يكفي لخمس ثورات بلشفية مثلاً. ورغم ذلك ترى الكرد تعساء، قتلى، حزانى. ثمة لعنة هبطت على رؤوس الكرد، ولا أعرفها. في 2004 هب الكرد فجأة. دفعوا قتلاهم.. ثم عادوا إلى بيوتهم. كما لو أن ذلك نصيبهم من هذه الدنيا. يومها عاداهم الكل، السلطة والمعارضة والجيران. ولم يرث قتلانا شاعر صديق، أو يقف رئيس دولة ليقول إن قتل الكرد مناف لحقوق الانسان. كانت الخيبة الكردية كبيرة وعميقة من الجميع.

هل يمكن أن نجد في خيبة الأكراد من شركاء الوطن، بعيد تلك الانتفاضة سبباً مقنعاً لحضور أقل في الثورة الراهنة؟ هل توافق على أن الحضور أقل.. كيف تفسر؟

^ لا شك في أن هناك خيبة في الأعماق، وخوفاً من القادم. لكن في النهاية سيقول الكردي: ماذا سأخسر أكثر مما خسرت على مدى عقود.

يحق للكردي أن يشك ويرتبك حين يرى الحماسة التركية واحتضانها لبعض رموز الثورة.

عشق التراث العربي

كيف عاشت الثقافة الكردية في ظلّ البعث السوري؟ ما الذي اختفى؟ وما الذي عاش حياة سرية؟

^ الثقافة عامة لم تكن بخير على مدى عقود، وبالطبع لم يكن هناك أي اعتراف بوجود الانسان الكردي فما بالك بثقافته في سوريا. ذات مرة تقدمت بديوان شعري لوزارة الاعلام لأخذ الموافقة على طباعته، وبعد فترة حين حصلت على الجواب بعدم الموافقة على الطباعة، استطعت بطريقة ما أن أطلع على رأي الكتاب الذين قرأوا الديوان وقرروا قرارهم. صعقت وأنا أقرأ رأي أحد هؤلاء «القراء» وهو شاعر معروف يقول بالحرف «خطابات شعرية مكتوبة بالشيفرة، موجهة لأناس (وهم الأكراد تحديداً) لا نأنس بصحبتهم».

هل تكتب بالكردية؟ متي تكتب بالكردية ومتى بالعربية؟

^ نعم أكتب باللغتين، الكردية والعربية. وحتى حين أكتب باللغة العربية فإني أفكر بطريقة كردية بحتة، مستنداً لإرث أدبي ولغوي عربي.

(دمشق)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى