عصر الانحطاط العربي الجديد: لمن تقرع الأجراس؟/ خليل النعيمي
الهامش هو الذي صار يحدد مصير المركز. الرجعيّ الحقيقيّ بثوب التقدميّ المزيف. الظلاميّ العميق بوجه الثوري .الوحدوي العريق، هو الذي يمزّق وحدة العالم العربي، اليوم. الغني يحطّم بجشعة وخبثه أمن الفقير وراحته. ‘ثقافة التَقْميش’ التي يُسَيِّرها الهامش، بعد أن أُنتِجَتْ لصالحه، هي التي تسيطر الآن على ما يسمّى تعسُّفاً: بالإبداع. أكذوبة ‘عصر الرواية’ تحوّل إلى ‘عصر الغواية’.
لا أحد يجرؤ، اليوم، على إزعاج ‘فكر الجوائز الأدبية’، ولا على انتهاك نهج هذا ‘الفكر’ البليد، أو خرق محظوراته. والشعب السوري يُذبح كل يوم. وتُقَطَّع أوصاله، بيد الجزّار الدموي. وكل ما يفعله المثقفون العرب الذين من المفترض فيهم أن يكونوا ‘ضمير الخلق’ هو التسابق نحو حفنة من الدولارات. عجباً! ولا أحد يصرخ!
الهامش بطبيعته متعنّت، وأحمق، وقصير النظر. حركيته، دائماً، تتجه إلى التفتيت والخراب. إنه، بشكل من الأشكال، ثأريّ. وكأن المركز هو عدوّه الأساسي. وهو لا يجهل، بالتأكيد، أن أهميته تنبع، أصلاً، من مكانة المركز الذي هو هامش له. وأنه، وحده، بلا قيمة، مهما ملك من إمكانيات. فهو ليس هامشاً في المطلق. وإنما هو مرتبط بحضارة المركز، ولغته، وسياسته، وثقافته، وتاريخه، ومستقبله حتى. وهو بلجوئه إلى المساهمة في تَفْتيت بنية المركز، معتقداً أنه هكذا سيصير أكبر مما هو في الواقع، وهو خطأ تاريخيّ فادح، إنما يقوم بتفجير بنيته، هو، نفسه، ولو بعد حين.’
العالم العربي، دون جناحَيْه : المركز والهامش، لا شيء. وتحكمه، اليوم، الحماقة والدسائس والمؤامرات والمهاترات والأكاذيب. فكره سخيف. وثقافتة مبتذلة. ثقافة ‘الأُعطيات’، والاعتبارات، والمناسبات. أكاديميوه كذابون. شعراؤه متسلقون. صحافيّوه ذيليّون. روائيوه، وأنا على رأسهم، هَذّارون، وفشّارون. لا منطق لديهم. لا حقيقة لما يدعون. يخطئون في القواعد والإملاء. لا حكاية حقيقية عندهم. ولا تاريخ. كذب في كذب، كل ما يكتبونه. ورواياتهم البائسة تَلْفيق على تَلْفيق.
والأبأس منهم’ ناشروهم الأميون الذي صاروا يتحكَّمون بالإبداع الذي لم يعد يحمل أية سمة إبداعية. والأشنع من ذلك، أن أغلبهم لم يعودوا يكتبون إلا من أجل دولارات الجوائز. وهم ليسوا مضطرين ليتعبوا أنفسهم من أجل الحصول عليها. يكفي ‘أن ينضووا’ تحت رايتها ‘الثقافية’ ليحصلوا على واحدة منها. وهو التعبير المرعب عن بيعهم ضمائرهم التي أرخصوها، لمن لا يريد حتى اقتناءها. وكان الأجدر بهم أن يقفوا موقفاً مناهضاً للفكر المحافط الذي يسود، اليوم، البقاع العربية دون تمييز. وأن يعملوا على تفنيده، والتمرّد عليه، ‘حتى ولو ماتوا جوعاً’. وهم لن يموتوا منه. وإنما سيموتون ابتذالاً، إذا ما تابعوا هذا الطريق.’
الشعب السوري العظيم هو الذي يموت، اليوم، من الجوع، بعد ثلاث سنوات حُمْر من الثورة، ولم يفعل أحد شيئاً. وأول المعنيين أنا. ونحن كلنا. لكنني، على الأقل، لا أدّعي أنني كنت في الرقة، ولا أنني زرت جرابلس. ولا أنني عائد من حمص أو حلب أو الحسكة. لماذا لا نتعلّم الصمت؟ والتواضع أمام المآسي التاريخية، والمجازر اليومية التي يتعرّض لها الشعب السوري الذي أهملَته البشرية المنافقة؟’
الدولة المركزية في العالم العربي، وكان مثالها الأوضح: العراق، سوريا، مصر، وبشكل أقل وضوحاً: اليمن، السودان، ليبيا، إذا ما تكلمنا فقط عن دول المشرق، دون الانتقاص من مقام بقية دول العالم العربي الأخرى، بالطبع، كان لها أخطاء شنيعة. ولا ندافع عن أي نظام من أنظمتها الاستبدادية، المبنية على القمع والتخضيع. تلك الدول التي كانت أساسية هي، اليوم، قد تفَتََّتَتْ، أو في طريقها إلى التفَتُّت. وبرغم شناعة الأنظمة التي كانت سائدة فيها، فإن التفتيت أكبر من جميع الأخطاء، لأنه يلغي كيان هذه الدول. وهو لا يطول الأنظمة القمعية، فحسب، وإنما يدمّر بنية الدولة. ويعاقب كل المواطنين، حتى أولئك الذين اضطهدتهم تلك الأنظمة الفاشية الحمقاء، من قبل. هدف التفتيت ليس الاصلاح، وإنما التدمير، والعودة بالعالم العربي إلى مرحلة ما قبل الدولة الحديثة. ولن ينجو من هذه العودة اللامظفَّرة أحد. لا المركز الذي تلاشى، ولا الهامش الذي سيتلاشى، بدوره، هو الاخر.
هامشان لهم مصلحة في هذا التفتيت الذي ستكون نتائجه مرعبة : الهامش العربي، والهامش الاسرائيليّ. لكن الضرر سيطال الجميع. بعد تفتيت المركز، ستنمحي الهوامش. ومعه سيختفي ‘المريدون’ الكذّابون. تجّار الحروب. الثوريون المزيَّفون. مُمْتهِنو الإدّعاءات، الذين ليس لهم تاريخ شخصيّ يقيهم من وَهْم التاريخ الذي يريدونه ‘مَقْلوباً’. لا مشاعر لديهم. ولا يهمّهم سوى مصلحتهم الشخصية. ومصلحتهم تزدهر في المتاجرة ‘بكفاح الآخرين’. ويصيرون بُلَغاء عندما يتحدثون عن ‘حرب’ لا يخوضونها. ومع ذلك يقبضون أثمانها. وممِّنْ؟ مِنْ مَنْ بَنوا أسطورتهم على سعيرها، وهم بعيدون عنها. كلهم، لا شيء. أولئك، وهؤلاء. أبداً لا شيء. انتهازيّون، فقط. حتى التاريخ المأساويّ انتهزوه : تاريخ الشعب السوريّ العظيم الذي أطبق فخّ الطاغية الحاقد عليه بفكَّيْه، منذ ثلاث سنوات.’
إحذروا المنعطفات التاريخية، لأنها قد تكون مميتة.
‘ كاتب سوري
القدس العربي