عـــــام
عباس بيضون
عام وانتفاضة السوريين لم تهدأ، انها حرب بينهم وبين النظام. كل يوم يمر هو أيضاً انتفاضة. آلاف في كل يوم تنزل في كل مكان لتهتف بسقوط النظام. في كل يوم ويوما بعد يوم يكبر جبل القتلى ويقدم عشرات، هنا أو هناك. أنفسهم قرابين جديدة. لم يكسروا فقط حاجز الخوف، بل طردوا الخوف، وبعد عام نكاد لا نصدق انهم ما زالوا في الشارع، بعد عام لا نكاد نصدق انهم ما زالوا يشرعون صدورهم للرصاص. بعد عام لا يزال النظام يقتل بلا جدوى، لا يزال يقتل ولا تزال دباباته وصواريخه تقصف لكنه هو الذي يخرج من الأحياء، هو الذي يغادر حيا بعد حي، هو الذي يخاف. بعد عام الشارع يصنع البطولة اليومية، الشارع هو الطاقة التي لا تنفذ، هو القوة التي تتجدد، هو الفينيق الذي ينبعث كل يوم من الرماد. بعد عام نعرف انه مهما اشتد العسف. مهما اتسعت حقول القتل، مهما زادت الخرائب ومهما تهدم وتدمر، عنف النظام الذي لا يحسم. سيتحول شيئاً فشيئاً إلى تراجع. ستكون المعادلة معكوسة هذه المرة. كل قوة للنظام ترتد عليه، كل عنف ينقلب على صاحبه، كل عسف يتحول إلى قوة للخصم، كل استبداد ينقلب إلى ضعف، كل مجزرة تقع تفت في عضد النظام، كل تدمير يدور عليه. ما دام استفرغ عنفه، ما دام عسفه بلغ الأوج. ما دامت شراسته لم تجد. ما دام كل هذا لم يفعل شيئاً في حركة الشارع. ما دام لم يؤثر في يوميات النضال وفي زخمه وفي مداه. فإن عنف النظام سيغدو ميتاً. قوة النظام ستغدو صفراً، ضغطه سيرتخي من حاله. هنا سيفقد أسلحته. هنا ستغدو جبال القتلى بلا أثر. هنا سيفقد الرصاص والصواريخ والقذائف فاعليتها، ستغدو جميعها هراء. ستغدو أي شيء إلا ان تخيف، أي شيء إلا ان تفعل. ستكون جدواها أقل من الهتاف، ستغدو قدرتها أقل من الصدور العزلاء. لقد أحبطوا أسلحته، لقد أحالوها هواء، لقد جعلوا الموت نفسه بلا قوة، لقد أحالوه إلى صفر. النار، الحرائق، الدمار، الجوع، كلها لا تخيف. انهم يلتهمون النار ويلتهمون الدمار والرصاص. هنا يبدو الشارع مارداً. هنا يبدو جباراً وعملاقاً. هنا يظهر كل يوم جبروته وقوته. لقد تعطل كل سلاح في وجهه ويوما بعد يوم سيصمد، يوماً بعد يوم سيقف مارداً. يوما بعد يوم سيخاف النظام من نفسه، سيخاف من سلاحه. يوما بعد يوم سيتحرك الشارع من الخرائب ومن الحرائق ومن الدمار. سيتقدم كل يوم وفي النهاية سيترك الآخرون أسلحتهم ويتراجعون عنها.
انها معركة إرادات، النظام لن يكون الإرادة الوحيدة، ثمة إرادة في وجهه، إرادة تكبر كل يوم وعناد مضاد. معركة إرادات والإرادة الأقوى ستلوى الإرادة الاخرى. مهما يكن فإن النظام الذي عمر أربعين عاماً وأكثر لن يكون ارشق ولا أقوى إرادة. هناك لائحة من الإدانات في عنقه، هناك عمر من الأخطاء: الفساد والتسلط والانتهاك، عمر من الأخطاء يثقل عليه ولا يستطيع معه ان يكون سريع الحركة، عمر يثقله بعدد سنينه وعدد آفاته، عمر ينخر إرادته ويهدها. الشارع بعد ان تجاوز الخطوة الأولى، بعد ان قفز فوق الرصاص وفوق الحرائق وفوق الدمار، العنف والقتل صارا وراءه. انه الآن يصنع إرادته، يجبلها ويصنعها من آلام كل يوم ومن عناد كل يوم ومن تضحيات كل يوم. انه دين هائل يحمله في عنقه. انها إرادة لن تكسر ما دام ثمنها كل هذا الدم وكل هذه الخسائر. انها حرب إرادات، ما دام السلاح لم يعد العمدة، ما دام القتل لم يعد الرهان. الإرادة الافتى، الإرادة الأجد، الإرادة الأكثر عناداً، الإرادة التي تصقلها الخسائر وتشحنها الآلام وتقويها العذابات، هذه الإرادة ستنتصر.
من اليوم الأول ربحت الانتفاضة التحدي. لقد زلزلت الأرض تحت النظام. ليس مهما العدد، ليست مهمة النسبة. من اليوم الأول، وبالهتاف وحده، بالحشد في الشارع، وبالمصابرة على القتل وعلى الجراح وعلى الحرائق وعلى الدمار، بالمصابرة على السجون وعلى التعذيب حتى الموت وعلى الانتهاكات الفظيعة، بذلك كله سقطت هيمنة النظام، ظهرت برانيته، صارت شرعيته على الأرض. من الأيام الأولى للانتفاضات، لم تعد الأرياف في السلطة، لم تعد المدن في السلطة. صار النظام هو الدبابات التي تقصف والأسلحة والشبيحة. الشبيحة نعم، فرق الموت والإعدام على طريقة النظام السوري. من الأيام الأولى صارت الأحياء خارج السلطة، وخرجت السلطة من كل مكان. ماذا تجدي إذا المعركة، كيف تقدر السلطة على ربح معركة خسرتها مسبقاً. كيف يمكن لنظام ان يستعيد شرعية قامر هو نفسه بها. كيف يمكنه ان يسترد هيمنة انتهكها هو وتخلى عنها. من الأيام الأولى. صارت السلطة في خندق والشارع في خندق. إن تكن حرب حركة أو حرب مواقع وهي الاثنان معاً. إن يكن قسم من الشعب ما زال صامتا، مهما تكن نسبة هذا القسم فإن اعتراض الباقين ليس استفتاء. اعتراض الباقين لا يقدر بنسبة أو عدد. اعتراض الباقين حرب على النظام. النظام نفسه هو الذي حولها حرباً. كان يمكن لولا عسفه ان تبقى استفتاء. النظام هو الذي حولها إلى انتفاضة أو ثورة. النظام هو الذي وضع الجميع امام خيار أوحد إما الطاعة وإما الخروج، إما الطاعة وإما نزع الشرعية. النظام هو الذي دفع ومن الأيام الأولى، الأمور إلى هذا الحيز. نزع الهيمنة وعدم الاعتراف ليس الاستفتاء ومضحك ان يلجأ النظام بعد ان فعل ما فعل إلى الاستفتاء. مضحك وأجوف جمع الاستفتاء مع القتل والعنف. حين تنزع نسبة من الشعب الشرعية أو الهيمنة فإن النظام يغدو بدونهما، الاستفتاء أسلوب ديموقراطي وفي الديموقراطية لا تقتل المتظاهرين. في الديموقراطية لا يستمر حاكم إذا نزع قسم كبير من الشعب الشرعية عنه، لقد سقط النظام سياسياً. سقط إلى لا عودة. شجاعة وصمود الشارع جعلاه بلا أي مبرر. شجاعة وصمود الشارع أسقطاه من الأساس. ما يحدث من ذلك الحين اختبار هذا السقوط. ما يحدث هو التأكيد اليومي المتكرر عليه.
في بلد ديموقراطي يخير الشعب بين أمرين، لكن الخيار والرصاص والقذائف في الميدان ليس سوى خيار وحيد: العسف أولاً وثانياً، الاستبداد أولاً وثانياً وثالثاً وإلى الأخير. لا خيار مع الرصاص، مع ذلك حين يخير النظام العالم بين الاستبداد والإرهاب الأصولي فإن كل شيء بما في ذلك الإرهاب الأصولي يقع على عاتق النظام الذي لعب كل الألعاب الخطرة التي ترتد في النهاية عليه. الاستبداد يخلق كل شيء بما في ذلك الإرهاب الأصولي، فهذا أمر لا يقع على عاتق الشعب، والخيار الأوحد يبقى على الدوام: الاستبداد أو الحرية، الاستبداد أو الديموقراطية.
أيها الشعب السوري. لقد اعدت لنا اعتبارنا، ان شجاعتك مفخرتنا وعام من انتفاضتك هو أيضاً عام من كرامتنا وحريتنا، شكراً لك. سيكون المستقبل بعلو آلامنا وجبل شهدائنا.
السفير