عملية عفرين.. مؤشرات الحسم وتوقعات اليوم التالي/ سعيد الحاج
محطة ضمن مراحل
ما بعد عفرين
بسيطرة الجيش التركي ومجموعات الجيش السوري الحر على بلدة جنديرس، تكون عملية “غصن الزيتون” قد دخلت مرحلتها الثالثة والأخيرة. ففي 20 يناير/كانون الثاني الفائت؛ أعلنت تركيا إطلاق عملية عسكرية أسمتها “غصن الزيتون”، لإنهاء سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية “وحدات حماية الشعب” الكردية على عفرين.
كان إعلان التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) -بقيادة أميركا- عزمَه تشكيل قوة حرس حدود من قوات سوريا الديمقراطية -التي تشكل الوحدات عمودها الفقري- الشرارةَ التي أطلقت العملية، لكن أسباب العملية الحقيقية تكمن في تقييم أنقرة لحقيقة المشروع الذي يقوده حزب الاتحاد في شمال سوريا.
فحزب الاتحاد الديمقراطي -وهو في نظر أنقرة الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني- يرى في تطورات الأزمة السورية فرصة ذهبية، لتحقيق حلمه بتأسيس دولة أو دويلة أو إدارة ذاتية في مناطق سيطرته، متسلحاً بالدعم الأميركي باعتباره حليف واشنطن المحلي في موجهة “داعش”.
وقد منحه ذلك مشروعية دولية نسبية تبدت في الدعم الأميركي المستدام، وموافقة روسيا الضمنية على نظام فدرالي لسوريا، ورغبتها مشاركةَ الحزب في محادثات أستانا رغم التحفظات التركية.
ترى تركيا في مشروع حزب الاتحاد خطراً يهدد أمنها القومي؛ فالحزب وذراعه العسكرية (وحدات الحماية) مصنفان على قوائمها للمنظمات الإرهابية لعلاقتهما العضوية بحزب العمال، ووقوفهما خلف بعض التفجيرات في تركيا وفق السلطات هناك. وتخشى أنقرة أن تكون مناطق سيطرة الحزب منصة تدريب وإطلاق لعمليات الحزب ضدها، إضافة إلى الانعكاسات السلبية لكل ذلك على الملف الكردي داخل تركيا.
تريد أنقرة من العملية إنهاء سيطرة وحدات الحماية على منطقة عفرين، وتأسيس “منطقة آمنة” تسيطر عليها مجموعات الجيش السوري الحر بدعم تركي، وبالتالي تقويض مقومات الدويلة التي يسعى حزب الاتحاد لإنشائها، وإعادة قسم من اللاجئين السوريين إلى هناك كما حصل سابقاً في عملية درع الفرات.
محطة ضمن مراحل
تقدم تركيا العملية بوصفها حلقة في سلسلة مواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي، حيث سبقتها عملية “درع الفرات” (نُفّذت بين أغسطس/آب 2016 ومارس/آذار 2017)، وهي تخطط لأن تتبعها خطوات أخرى في كل من منبج وشرق الفرات وحتى داخل العراق.
سبقت العمليةَ مرحلةٌ تمهيدية تمثلت في انتشار القوات التركية بإدلب، وفق اتفاق مناطق خفض التصعيد الذي أُقِرّ في محادثات أستانا 6. وهو ما ساهم في حصار مجمل منطقة عفرين من الجنوب، وقلل تهريب المقاتلين والسلاح منها وإليها، وأعطى القوات التركية إطلالة قريبة عليها.
المرحلة الأولى شملت السيطرة على الجبال والتلال الإستراتيجية في أطراف منطقة عفرين والقريبة من الحدود، عبر قصف جوي مركّز تبعه تقدم بري حذر ومتدرج. وقد تمت تلك المرحلة في 26 فبراير/شباط بإكمال “الهلال” بمنطقة عفرين؛ أي السيطرة على محيطها من ثلاث جهات، وإبعاد وحدات الحماية عن الحدود التركية تماماً.
أما المرحلة الثانية فهدفت لإحكام الحصار على مدينة عفرين نفسها، من خلال السيطرة على بلدتيْ راجو وجنديرس الإستراتيجيتين، ثم محاولة السيطرة الكاملة على القرى في الشرق لقطع التواصل بين عفرين ومناطق سيطرة النظام، بحيث تضمن تركيا عدم وصول دعم وإمدادات لوحدات الحماية، وهو ما يبدو أن القوات التركية ستتمه قريبا.
المرحلة الثالثة والأخيرة هي معركة السيطرة على قلب مدينة عفرين، وهي الأهم والأصعب لسببين رئيسين: تمترس وحدات الحماية فيها وما أعدته من أسلحة وعتاد وأنفاق وخنادق، وكونها منطقة مأهولة بالسكان. ذلك أن حرص القوات التركية على التقدم ببطء وحذر -لتجنب سقوط ضحايا من المدنيين- سيواجه تحدياً كبيراً في مركز المدينة، بسبب الكثافة السكانية العالية وأسلوب المعركة المتوقع.
أما إستراتيجية وحدات الحماية في عفرين فتقوم على أسلوب حرب العصابات أو حرب الشوارع لتحقيق أمرين: مدّ أمد المعركة وإسقاط أكبر عدد ممكن من أفراد الجيشين التركي والسوري الحر، وزيادة عدد الضحايا المدنيين في عفرين، والهدف من الأمرين هو زيادة الضغط على أنقرة داخلياً وخارجياً.
تدرك تركيا أن المعركة في عفرين تختلف عن المرحلتين السابقتين، ولذلك فقد أعدت خطة مختلفة، وهي تلك التي أشار إليها الرئيس رجب طيب أردوغان قبل أيام.
فقد استدعت أنقرة إلى قلب عفرين القواتِ الخاصة في كل من جهازيْ الشرطة والدرك (الجندرما) اللذين اكتسبا خبرة واسعة من مواجهتهما الإدارات الذاتية، التي أعلنها حزب العمال في بعض المدن التركية ذات الأغلبية الكردية في عاميْ 2015 و2016.
ويبدو أن المعركة في عفرين ستشبه إلى حد كبير المعارك التي خاضتها القوات التركية داخل تركيا خلال السنتين الماضيتين، شارعاً إثر شارع وبيتاً بعد بيت.
وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو توقع أن تنتهي عملية عفرين في مايو/أيار المقبل، وهو توقع يتناغم مع رغبة أنقرة في إنهاء العملية بأقرب وقت لتقليل الضغوط الخارجية، ولكن التقديرات الميدانية تشير إلى احتمالية استمرارها أكثر من ذلك، نظراً لخصوصية العملية وصعوبتها في مرحلتها الثالثة والأخيرة.
وفق الموازين العسكرية وفي ظل ما تحقق حتى الآن؛ تبدو عملية “غصن الزيتون” مؤكدة النتيجة، وإنهاء سيطرة وحدات الحماية على عفرين مجرد مسألة وقت. لكن يبقى السؤال هو: هل ستواصل القوات التركية التقدم حتى النهاية كما هو مرجح، أم ستتقدم روسيا أو غيرها بمبادرة لانسحاب الوحدات لتجنب المواجهة الشاملة كما هو محتمل؟
الحقيقة أن فرص السيناريو الثاني تتضاءل بشكل واضح ومتسارع مع كل قرية أو بلدة تسيطر عليها قوات “غصن الزيتون”، وفي ظل إصرار وحدات الحماية على المواجهة حتى النهاية وفق ما تعلنه حتى الآن.
ما بعد عفرين
في مرحلة ما بعد عفرين، وضمن إستراتيجية المواجهة الشاملة مع حزب الاتحاد وتمظهراته العسكرية؛ تتحدث الأوساط التركية عن عدة مناطق، هي: منبج وشرق الفرات (سوريا) وسنجار (العراق)، فضلاً عن مقر حزب العمال وقاعدته الرئيسة في جبال قنديل شمال العراق، التي تتعامل معها أنقرة منذ سنين بالقصف الجوي المستمر.
وتتفاوت أهمية هذه المناطق وخطورتها وكذلك صعوبة السيطرة على كل منها سياسياً وعسكرياً بشكل كبير وملحوظ؛ فمنبج هي الأقرب جغرافياً وربما تكون الأسهل عسكرياً وميدانياً، لكنها أصعب سياسياً مقارنة بعملية عفرين بسبب وجود قوات أميركية فيها.
ويعني ذلك أن سيطرة تركيا على منبج ينبغي أن تمر عبر التوافق مع واشنطن أو بالضغط عليها، ومن المؤكد أن تركيا تفضل الخيار الأول الذي يبدو أنه بدأ فعلياً خطواته الأولى عبر آلية الحوار المشتركة، التي أقرها الطرفان خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون الأخيرة لأنقرة.
إن وقوع منبج خارج مناطق الاهتمام الأميركية (أي غرب الفرات)، وتعهد واشنطن السابق بخروج قوات سوريا الديمقراطية منها؛ سيسهلان التوصل لاتفاق على خروج الأخيرة من منبج، وسيبقى موضوع دخول القوات التركية من عدمه منوطاً بالتفاوض بين الطرفين.
رغم بعدها الجغرافي؛ قد تسبق عمليةُ سنجار في العراق الاتفاقَ المنتظر بخصوص منبج، لا سيما أن أنقرة على تواصل حثيث وتوافق مبدئي مع بغداد -وفق ما أكده رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم- بشأن ضرورة إخراج حزب العمال الكردستاني منها.
فالأخير كان استغل مواجهة “داعش” في العراق ليسيطر على سنجار ويفرض فيها أمراً واقعاً جديداً، وهو ما يتعارض مع مصالح كل من أنقرة وبغداد وأربيل في آنٍ معاً، الأمر الذي قد يعني تعاونهم في مواجهته.
وباستثناء جبال قنديل؛ تبقى المناطق السورية شرق الفرات هي الأهم والأخطر بالنسبة لتركيا حالياً، وكذلك هي الأصعب. فهناك تتوفر لقوات سوريا الديمقراطية الإمكانات والبنية التحتية لإنشاء دويلة أو إقليم، من مناطق جغرافية واسعة، وثروة مائية ومصادر طاقة، وجيش شبه نظامي بتدريب وتسليح أميركيين، وهو ما يجعلنا نتفق مع من يسميها هي -وليس الساحل الغربي- بـ”سوريا المفيدة”.
أعلنت الإدارة الأميركية مؤخراً إستراتيجيتها في سوريا، وتتمثل في البقاء طويلاً بمنطقة شرق الفرات، وبالتعاون والتحالف مع قوات سوريا الديمقراطية. وتوجد بالمنطقة 13 قاعدة عسكرية أميركية على الأقل، وفق المصادر التركية التي تراها تهديداً لأمنها ودعماً لمنظمة انفصالية.
بيد أنه ليس من المتوقع حدوث مواجهة عسكرية مباشرة بين أنقرة وواشنطن، فأنقرة لا تملك الرغبة فيها ولا القدرة عليها، وحلف الناتو لن يقبل بنشوب نزاع مسلح بين أقوى جيشين تابعين لدوله الأعضاء.
وعليه؛ فإن ملف شرق الفرات مرشح للامتداد زمنياً وعدم الحل عسكرياً، ولكن يمكن لتركيا أن تقاربه -بعد الفراغ من المناطق الأخرى الأسهل نسبياً- مقاربةً شاملة وسياسية في المقام الأول، وستتضمن بالتأكيد مزيداً من التعاون والتنسيق مع موسكو وطهران، وربما تفاهمات مباشرة أو غير مباشرة مع النظام.
وقد يساهم ذلك -حال استمراره- في تشكل إرهاصات أولية لتحالف طويل المدى بين تركيا وروسيا وإيران في سوريا والمنطقة، رغم أن معوقاته أكثر من محفزاته وفق معطيات اليوم.
وفي المحصلة؛ لا تزال مواجهة تركيا لحزب الاتحاد الديمقراطي -التي بدأتها بـ”درع الفرات”- في بدايتها، ولا تشكل “غصن الزيتون” سوى إحدى حلقاتها، بينما لا تزال الحلقات الأهم والأصعب ماثلة في انتظار مقاربات مختلفة ومتنوعة من أنقرة، في مقدمتها القدرة على الاستمرار رغم الضغوط الخارجية، واللعب -قدر الإمكان- في مساحات الاختلاف بين موسكو وواشنطن داخل سوريا.
جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة
2018