عن الصحافة اللبنانية واحتضانها مثقفي “إقليم بلاد الشام”
بقلم ماجد كيالي
ثمة ما يبرر الاعتقاد بأن الصحافة اللبنانية، ولميزات تتعلق بلبنان، لعبت دورا مركزيا في التعريف بعدد من المثقفين النقديين أو المعارضين في سوريا والأردن وفلسطين. لقد أمنت المنبر الحر والحد الأدنى من لقمة العيش لهؤلاء الخارجين على أنظمتهم السياسية.
في مقاله مثقفو سميراميس…(..) كتب جهاد الزين “الشعوب – في مقدمها النخب – تصنع التغيير لكن المثقفين يصنعون معناه”، قاصدا بذلك تلك المجموعة من المثقفين السوريين الذين تعرّف عليهم منذ أكثر من عقدين من الزمن، وباتوا اليوم من أعلام الحراك الشعبي الجاري في سوريا من اجل التغيير الديموقراطي السلمي.
وقد جاءت محاولة الزميل جهاد تقويم ما يجري في سوريا، من مدخل الاجتماع غير المسبوق لشخصيات من المعارضة في فندق سميراميس (في دمشق)، بمثابة تحية تقدير لهؤلاء المثقفين (الكتاب) العصاميين العنيدين، الذين عرفهم، من موقعه في الصحـــافة اللبنانية (بين صحيفتي “السفير” و”النهار”).
ما يلفت الانتباه، أيضا، في تلك المادة روح التعاطف والشفافية في التعاطي مع هؤلاء كبشر، وليس فقط كمثقفين، أو كأصحاب قضايا، يقول جهاد في شهادته: “اعرف عديدين منهم وتعاملت معهم طويلا ككُتّاب في فترات صعبة واعرف يقينا أنهم فقراء، فخورون، ويحمل بعضهم، فيما كان يأتي من دمشق إلى بيروت لتسليم مقال… على متن سيارة أجرة، كل ذكاء الشخصية السورية المعاصرة ولماحها وقوتها، حتى لو أن احدهم – وبصمت لم يكسره مرة – كان يعوِّل على “مكافأة” مالية متواضعة عن مقال واحد فعلا ليوازن بها مصروفه لشهر كامل… هؤلاء الكتاب الفقراء، الذين لا يملك اغلبهم سيارة خاصة تقي صاحبها الركض وراء باصات المازوت في شوارع دمشق وحمص وغيرهما، يصنعون معنى أكثر منطقية للداخل السوري”.
معلوم ان هؤلاء المثقفين (الكتّاب) وجدوا أنفسهم في الصحافة اللبنانية، التي فتحت صفحاتها لهم، بكل رحابة، فبثّوا فيها أفكارهم وأثبتوا ذاتهم وأطلقوا إبداعاتهم من خلالها؛ بعد أن سدت عليهم سبل الكتابة في صحافة بلدهم.
لكنني وأنا أؤكد على شهادة جهاد هذه، بالنظر الى صداقاتي القديمة، لهؤلاء المثقفين النبلاء، المعطائين والصبورين، وذوي العقول الحرة، والإرادة العنيدة، فإنني أريد أن أضيف عليه، بما لم يصرّح به، وهو أن صحافة لبنان (كما الصحافة الإماراتية بدرجة أقل) لعبت دورا كبيرا في التعريف بهؤلاء المثقفين، وبالقضايا السياسية والفكرية التي يشتغلون عليها.
على ذلك ثمة ما يبرّر الاعتقاد بأن الصحافة اللبنانية، ولميّزات تتعلق بواقع لبنان، ووجود كوكبة من المثقفين اللبنانيين الليبراليين اللامعين في صحفها، من المتميّزين بنوع من القلق الفكري الرحب والعابر للطوائف والمنفتح على الثقافة العالمية، لعبت دورا مركزيا في التعريف بعديد من المثقفين من “إقليم” بلاد الشام (بحسب مصطلح أثير على الزميل جهاد)، إلى درجة يمكن معها اعتبار لبنان بمثابة عاصمة أو مركز أو منبر للمثقفين، النقديين، أو المعارضين، من سوريا والأردن وفلسطين (وبدرجة اقل العراق ومصر وتونس والمغرب).
فعلى مرّ العقود القليلة الماضية احتضنت الصحف اللبنانية (“الحياة” و”النهار” و”السفير” و”المستقبل”… وغيرها من الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة) عشرات من هؤلاء المثقفين، فأمّنت لهم المنبر الحر، الذي يعبرون من خلاله عن أفكارهم ورؤاهم وإبداعاتهم، كما أمنت لهم الحد الأدنى من لقمة العيش التي تمكنهم من الاستمرار في الحياة، وبالتالي الاستمرار في الكتابة. وينبغي التنويه هنا بأن معظم هؤلاء المثقفين، والكتّاب، ليس فقط كانوا ممنوعين، أو محرومين، من الكتابة، في صحف بلدانهم، وإنما هم كانوا، أيضا، بمثابة خارجين على أنظمتها السياسية، أو معارضين لها، بحيث أدى ذلك إلى سدّ فرص تدبّر الرزق أمامهم؛ تماما مثلما سُدّت عليهم فرص الكتابة.
هكذا، وبصراحة، فقد كانت المادة المذكورة بمثابة فرصة لي لكتابة بعض من شهادتي حول تجربتي في الكتابة في الصحافة اللبنانية (في “السفير” بداية إلى “النهار” وصولا إلى “الحياة” و”المستقبل”)، منذ أواخر الثمانينات، وهي شهادة تقارب تماما تجربة الكتاب السوريين، بحكم أننا نعيش الظروف نفسها، مع فارق إننا نقف موقفهم لكن إزاء النظام السياسي خاصتنا، أي النظام السياسي الفلسطيني.
فعلى مرّ ربع قرن مضى أمّنت لنا الكتابة في الصحافة اللبنانية الحد الأدنى من إمكانات العيش، وهذا يشمل زملائي من المثقفين الفلسطينيين في سوريا، الذين وجدوا أنفسهم خارج النظام الفصائلي الفلسطيني، وخارج حسابات المحاصصة فيه، لاسيما بعد اختزال المشروع الوطني الفلسطيني إلى مجرد مشروع سلطة في الضفة وغزة المحتلتين، واختزال الشعب الفلسطيني إلى مجرد الفلسطينيين في تلك الأراضي.
الطريف في هذا الأمر بالنسبة لنا ككتّاب فلسطينيين (سوريين) أن صحف الداخل تنشر لنا، بين حين واخر، ولكن بصورة انتقائية، ومن دون أي استئذان لا منا ولا من الصحف التي ننشر فيها، بمعنى انها تقوم بمجرد نقل بعض مقالاتنا المنشورة!
على ذلك فإن الكتابة في الصحافة اللبنانية أمنت لنا أكثر بكثير من القدرة على العيش (وفقا لنظام المكافأة على المادة)، فهي، على احتضانها لنا، والتعريف بنا، وطرحها قضايانا، وإيمانها بهمّنا وقلقنا، أمّنت لنا، أيضا، القدرة على تعلّم التعبير الحر، غير المقيد، لا بحسابات ولا بانحيازات شخصية أو سلطوية أو أيديولوجية، كما مكّنتنا من تنمية ملكة التفكير النقدي عندنا، وإضافة إلى كل ما تقدم فقد ساهمت في تطوير أشكال كتاباتنا، وفي ترشيد لغتنا السياسية؛ بما في ذلك تعلم الاختزال وتكثيف الأفكار.
في الواقع ثمة عشرات مثلي، لاسيما من السوريين، والفلسطينيين السوريين لا نستطيع التخيل كيف كان سيكون الأمر لولا الصحافة اللبنانية، ولولا فسحة الحرية التي أتاحتها لنا (ولم تتحها لنا صحفنا “الوطنية”).
طبعا، ثمة من يرى أن الكاتب، أو المثقف أو المبدع سيبقى كذلك، بغض النظر عن هذه الوسيلة أو تلك، وانه سيعمل على تطوير أدواته، وأفكاره، كما لن يعدم الوسيلة التي يعبّر فيها عن تصوراته وآرائه، هذا صحيح، ربما، ولكن إلى حد ما، لان الأمر سيكون، على الأرجح، صعبا جداً ومرهقا، كما سيكون ضيقا.
للصحافة اللبنانية، ولهذه الكوكبة من المثقفين الصحافيين الأحرار فيها يدين كثير من مثقفي بلاد الشام، وضمنهم أقراني من المثقفين في سوريا والفلسطينيين في سوريا. ولا شك في أن لبنان، على كل ما فيه، قدم في صحافته نفحة من الحرية إلى العالم العربي، وقدم خدمة جليلة للثقافة والمثقفين فيه، لذا نتمنى للبنان أن يتعافى وان يبقى حرا… كي تتعزز حريتنا به.
■ جهاد الزين – مثقفو سميراميس: إعادة صناعة معنى الداخل السوري – “قضايا النهار” – 2/7/2011.
(كاتب فلسطيني)
النهار