عن اللاذقية اليوم
راتب شعبو
لا يعيش الناس في اللاذقية اليوم حياة عادية، حياتهم معلقة ومرتجلة بانتظار مجهول ما. العنصر الوحيد المعروف في هذا المجهول هو الخوف الذي يتسرب إلى النفوس من مرويات السوريين الذين نزحوا إلى اللاذقية من مناطق مختلفة من سورية. مرويات متواترة عن الأسر النازحة التي دُمرت بيوتها وسرقت مقتنياتها وفقدت أفرادها موتاً أو خطفاً أو اعتقالاً وتعرضت لذل الحاجة وذل تسلط السفهاء وللغربة والجوع والتشرد. السؤال الذي يتردد اليوم في ذهن، إن لم يكن على لسان، كل من يسكن اللاذقية، أكان من أهلها أم ممن لجأ إليها: هل تنجو اللاذقية من هذا المصير؟
واقع الحال أن اللاذقية تعيش مأساتها على نحو آخر، أقل صخباً ودماراً، ولكنها مأساة سوداء دائمة السعي، توزع البؤس اليومي على قلوب المزيد من الأسر. النعوات تملأ حيطان المدينة، نعوات تحمل كل واحدة على الزاوية اليسارية العلوية منها صورة شاب باللباس العسكري الكامل، وأحياناً بوضعيات قتالية، صورة غالباً ما يكون قد اختارها مسبقاً المجند الذي يتوقع مصيره، لتزين نعوته. وكثيراً ما تعرف من النعوة أن في عائلة هذا الشهيد شهيداً آخر لم يجف ترابه بعد، أخ أو أب أو صهر أو..الخ. في اللاذقية لم يعد اللون الأسود ذوقاً في اللباس، فدلالته الحزينة سيطرت ولم تترك مساحة لحرية في الاختيار. ليست اللاذقية إذن بمنأى عن المأساة السورية غير أنها تتخوف من الأعظم. ودائماً هناك ما هو أعظم على ساحة بلد يتجرع أهلها منذ أكثر من سنتين ظلماً لا محدوداً، ساحة تلخص لا عدالة العالم ولا معقوليته.
اختفت مظاهر الاحتفالات الشعائرية التي وسمت اللاذقية في الأشهر الأولى من الثورة كنوع من تعويذات الخلاص التي لم تثبت فائدتها. الزيجات صارت تتم دون مظاهر احتفالية، ومن يشذ عن هذه القاعدة، لسبب ما، فإنه يضع نفسه، عن علم، دريئةً لوابل من الاستهجان. وحتى الأعراس التي تعقد هنا فإنها غالباً ما تكون محدودة في الزمن وفي الحضور وفي المظاهر.
في اللاذقية لم ينقص عدد السيارات ذات البلور الأسود، ولم تتراجع سطوة رجال الأمن ومن في حكمهم، بل زادت بحكم الضرورات الأمنية. “الطاسة ضايعة” ويمكن أن تضيع معها ببساطة حقوق الفرد، على يد من يملك سلطة رسمية أو غير رسمية. هيبة الدولة الأمنية تهشمت في مناطق بعيدة لكن ليس في اللاذقية، هنا تهشمت هيبة الدولة القانونية فقط، المخالفات العمرانية وسواها جارية على قدم وساق.
لا يشبه مزاج الناس في اللاذقية ما يمكن أن يتوقعه المرء عن مزاج جمهور ثورة ملتهبة. إنه بالأحرى مزاج أناس يتخوفون حرباً وشيكة لا تني تفقد معناها. منذ زمن غير قليل تجمد تنافس النظام والمعارضة السورية، في غمرة صراعهما العسكري العدمي، على قلوب الجمهور وعقولهم. ومنذئذ انقسم الجمهور السوري وأحرق جسور التواصل، تاركاً الكلمة الفصل للسلاح الذي أحرق الأرض تحت أقدام السياسة وأعلن نفسه السيد الأوحد الذي يستخف بآراء الناس وبحياتهم وأمانهم أمام أولوياته القتالية، السيد الذي لا سيد عليه إلا القوى الخارجية التي تمول وتسلح جهتي الصراع.
في اللاذقية تجد اليوم من يتحدث، بيقين مخيف، عن حرب لا حل وسط فيها، حرب وجود ليس أمامه فيها إلا أن يقاتل إلى النهاية لأن “المسلحين” لا يريدون إلا قتله وتهميشه. أصحاب هذه القناعة يكرسون أنفسهم لحرب تبدو لهم واجباً مفروضاً عليهم، كدفاع عن النفس. وصورة الطرف الثاني من الحرب في ذهن هؤلاء صورة سوداء شيطانية تصدر عنها كل الشرور المتخيلة.
وسوف تجد هنا أيضاً من يضع الصراع في سياق سياسي داخلي يهدف إلى انتزاع حقوق سياسية مسلوبة. ويمكن أن تجد من يرى ببساطة ومباشرة شديدين أن من حق أهل السنة أن يطالبوا بالسلطة في سوريا بصفتهم يشكلون الأكثرية المذهبية.
غير أن الجميع هنا يُظهرون وبصرف النظر عن الآراء والتحليلات، تعاطفاً وتكافلاً مع الأهالي الذين يلجؤون إلى اللاذقية من مناطق منكوبة. سوف تجد شعوراً عاماً متعاطفاً يترجم نفسه بأشكال شتى. يُستثنى من ذلك بالطبع حفنة من ضيقي الأفق ومستغلي الأزمات ممن لا يخلو مجتمع منهم، كتذكير أبدي بالجانب السيء من الإنسان.
المدن