صفحات العالم

عن الموقف الأميركي “الكارثي” من الأزمة السورية –مجموعة مقالات-

 

لماذا ينبغي على واشنطن أن تكف عن العبث بالشرق الأوسط؟

ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد

هل تعرف ما الذي يجب أن تفعله الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟ الجواب على هذا السؤال كان دوما ما يكون واضحا، ولكن ليس بعد الآن. على مدار أكثر من نصف قرن، كان القادة الأمريكيون قادرين على تحديد أصدقائهم وأعدائهم وقد كانوا يملكون رؤى واضحة بخصوص ما يسعون إلى تحقيقه. اليوم، لم يعد الأمر كذلك. هناك مزيد من عدم اليقين حول مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ما يدفع إلى التساؤل حول مدى جدوى الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لشركائها التقليديين، في ظل غياب أي إجماع حول كيفية التعامل مع مجموعة مذهلة من الجهات والقوى التي تعصف الآن بالمنطقة.

هناك شيء واحد واضح الآن، قواعد اللعبة التي اعتاد الأمريكيون على ممارستها منذ الأربعينيات لم تعد تصلح الآن. لا تزال الولايات المتحدة تظن أن الشرق الأوسط لا يزال بالإمكان إدارته عبر تملق الحكام المستبدين وتقديم الدعم غير المحدود لـ(إسرائيل) والحديث المستمر حول الحاجة إلى قيادة أمريكية. وعندما يفشل كل شيء الآخر، يتم توجيه بعض الضربات. ولكن هذا النهج من الواضح أنه لم يعد يعمل الآن، وأن المبادئ التي شكلت سياسة الولايات المتحدة في الماضي لم تعد بذات الجدوى.

كانت الأمور أكثر بساطة، ونحن لا نقول ذلك على سبيل النوستالجيا. خلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، كانت العناصر الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط معقولة إلى حد كبير. أولا وقبل كل شيء، سعت الولايات المتحدة لاحتواء والحد من النفوذ السوفييتي في المنطقة. كانت الولايات المتحدة تهدف أيضا إلى ضمان استمرار تدفق النفط والغاز من الشرق الأوسط إلى الأسواق العالمية وأن (إسرائيل) سوف تبقى على قيد الحياة. على الرغم أن تلك العلاقات الخاصة الموجودة الآن لم تبدأ في الظهور حتى أواخر الستينيات.

لتحقيق هذه الأهداف، فإن الولايات المتحدة قد تصرفت خلال الفترة بين عامي (1945 – 1990) باعتبارها موازن قوى خارجي. وفي تناقض حاد مع الانتشار العسكري في أوروبا أو آسيا، فإن واشنطن لم ترسل قوات كبيرة إلى منطقة الشرق الأوسط وآثرت إبقاء بصمتها العسكرية منخفضة إلى حد ما مفضلة الاعتماد على مجموعة متنوعة من الحلفاء المحليين والعملاء. على وجه الخصوص، قدمت الولايات المتحدة الدعم إلى الممالك العربية المحافظة مثل المملكة العربية السعودية والأردن وسائر دول الخليج، وقد احتفظت بعلاقة وثيقة مع إيران حتى قيام الثورة الإسلامية عام 1979. وقد تم النظر إلى (إسرائيل) باعتبارها حليف استراتيجي وربما يرجع ذلك إلى قدرتها على هزيمة حلفاء السوفييت من العرب. في الواقع، فإن سلسلة من الهزائم إضافة إلى ارتفاع المشاكل الاقتصادية قد أقنعت في نهاية المطاف الرئيس المصري «أنور السادات» بالتخلي عن عائله السوفييتي وإعادة ترتيب أوراقه مع واشنطن. كما لعبت الولايات المتحدة لعبة ميزان القوى في الخليج: مال كل من «رونالد ريجان» و«بوش» إلى صف العراق خلال حرب السنوات الثمانية مع إيران ثم تحول «بوش» ضد العراق حين قام بغزو الكويت خلال عام 1990.

عندما انتهت الحرب الباردة، فإنه كان بإمكان المرء أن يتوقع أن تدخل الولايات المتحدة في المنطقة سوف ينخفض، لأنه لم يكن هناك تهديدا خارجيا يلزم احتواؤه بعد الآن. ولكن بدلا من ذلك، تعمق دور الولايات المتحدة، بدءا من حرب الخليج عام 1991. بدلا من النهج السابق بالعمل كموازن خارجي للقوى، فقد انتهجت إدارة «كلينتون» استراتجية الاحتواء المزدوج، بحيث تلعب واشنطن دور الشرطي الإقليمي. للأسف، فقد تطلبت هذه الاستراتيجية الحفاظ على قوات برية وجوية أمريكية كبيرة على الأراضي السعودية، مما أثار غضب «أسامة بن لادن»، ودفعه لمهاجمة الولايات المتحدة بشكل مباشر في هجمات 11 سبتمبر/أيلول.

زاد الدور العسكري الأمريكي بشكل واضح بعد هجمات سبتمبر/أيلول، بعد أن شرب «جورج دبليو بوش» و«ديك تشيني» والمحافظون الجدد كأس النشوة وشرعوا في جهودهم الوهمية في التحول الإقليمي. وقد كانت النتائج كارثية. وتم انتخاب «باراك أوباما» بعد وعوده بإنهاء الحرب في العراق وإعادة بناء علاقات أمريكا مع العالم الإسلامي، وتحقيق حل الدولتين، ووضع علاقات الولايات المتحدة مع إيران على أساس جديد. و على الرغم من أن وصل في نهاية المطاف الى اتفاق نووي مع إيران، فلم تكن بقية سياساته في الشرق الأوسط أكثر نجاحا من سلفه. سوريا الآن في حالة خراب تام، بينما لا يزال تنظيم القاعدة يشكل قوة فاعلة، في حين تزرع «الدولة الإسلامية» العنف في جميع أنحاء العالم. وقد تمزقت ليبيا واليمن في حروب فاشلة وصارت عملية السلام في حالة يرثى لها.

تغييرات هائلة

لماذا تواجه الولايات المتحدة مثل هذه المشاكل؟ يرجع ذلك بشكل رئيسي إلى كونها فشلت في أن تأخذ في الاعتبار التغييرات الهائلة التي حولت المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط.

في البداية، يمكن بسهولة أن نلمس أنه لا توجد قوة عالمية منافسة لتنظيم استراتيجية الولايات المتحدة. احتواء النفوذ السوفيتي كان الهدف الرئيسي خلال الحرب الباردة، وقد سهل هذه الهدف الواضح عملية تحديد الأولويات وصناعة مجموعة من السياسات المتسقة. اليوم، على النقيض من ذلك، فإنه لا يوجد خطر شامل، وبالتالي لا يوجد مبدأ تنظيمي واضح لتوجيه صناع القرار في الولايات المتحدة. يرغب البعض في تحميل إيران مسؤولية لعب هذا الدور، ولكن كعنصر فاعل، فإنها لا تزال ضعيفة للغاية وعاجزة داخليا كي تكون بمثابة محور تنظيم استراتيجية الولايات المتحدة.

إضافة إلى أنه، وفيما يتعلق ببعض القضايا مثل محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، فإن كل من الولايات المتحدة وإيران تقفان على نفس الجانب. باختصار، ما نقوم بمواجهته اليوم هي مجموعة معقدة من الجهات الفاعلة لتي تحمل مجموعة متنوعة من الأهداف، إلى درجة أن بعض هؤلاء الفاعلين قد يعمل في صالحك في قضية بينما يعمل ضدك في قضية أخرى.

ثانيا، فإن علاقات الولايات المتحدة مع كل من الحلفاء التقليديين في الشرق الأوسط هي في أدنى مستوياتها منذ سنوات. جنحت تركيا بشكل ما نحو السلطوية خلال حكم الرئيس «رجب طيب أردوغان» وحزب العدالة والتنمية، في الوقت الذي تبدو فيه سياستها تجاه الأزمة السورية وتنظيم «الدولة الإسلامية» تتعارض في أحيان كثيرة مع تفضيلات الولايات المتحدة. (إسرائيل) بدورها تواصل التحرك نحو اليمين في حين لا تزال ترفض حل الدولتين الذي تفضله واشنطن، وتسعى بنشاط إلى تخريب الاتفاق النووي مع إيران.

وقد سقطت مصر مرة أخرى في أيدي ديكتاتورية عسكرية بينما توترت علاقات الولايات المتحدة مع المملكة العربة السعودية بفعل انفراج نسبي في علاقاتها مع طهران، والخلافات حول النهج السليم في الحرب الأهلية السورية وتزايد المخاوف من قيام المملكة العربية السعودية بتعزيز النسخة الإسلامية التي ألهمت جيلا من المتطرفين المعادين للغرب. لا تزال وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تحافظ على علاقاتها مع المخابرات السعودية، رغم ني لست متأكدا إن كان ذلك يمثل أمرا جيدا أم لا.

لكن، في الوقت نفسه، تحسنت العلاقات بين واشنطن وإيران. ليس كثيرا بطبيعة الحال، ولكن على الأقل فإن حكومتي البلدين يتحدثان الآن إلى بعضهما البعض. الاتفاق النووي هو الدليل الأكثر أهمية على التغيير، ولكن الحل السريع لأزمة البحارة الأمريكيين الذين دخلوا بطريق الخطأ إلى المياه الإقليمية الإيرانية والحديث حول تبادر الأسرى اللاحق تبدو أمورا واعدة أيضا. هذه الخطوات الأولية قد لا تؤدي إلى ما هو أكثر منها، ولكنها، رغم ذلك، لا تزال تمثل تحولا ملحوظا يثير تساؤلات جديدة حول ما ينبغي أن تكون سياسة الولايات المتحدة.

ثالثا، فإن هناك الانهيار المذهل في أسعار الطاقة واحتمال وجود تخمة النفط لفترة طويلة وهو ما يلقي بظلال من الشك على الأساس المنطقي الاستراتيجي الذي استند إليه تورط الولايات المتحدة في المنطقة منذ عام 1945.

الولايات المتحدة لم تعد تستورد كميات كبيرة من النفط أو الغاز من دول الشرق الأوسط. لذا فإن خطر قطع الإمدادات هو أقل كثيرا من أي لحظة كان عليها خلال الذاكرة الحديثة. إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على نحو متزايد على الاستقلال في مجال الطاقة (في الوقت الذي تبحث خلاله عن سبل للحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري على المدى الطويل)، فإنه ليس من الواضح لم تستمر في إنفاق المليارات في للدفاع عن إمدادات الطاقة في الشرق الأوسط نيابة عن بلدان أخرى.

رابعا: فإن سجل الولايات المتحدة في المنطقة، وعلى مدار أكثر من 20 عاما الماضية، يثير تساؤلات خطيرة حول قدرتها على تحديد أهداف واقعية ومن ثم تحقيقها. يعتمد التأثير العالمي في جزء منه على صورة الكفاءة، في حين أن الإدارات الثلاث الماضية لم تفعل شيئا من أجل تحسين تلك الصورة. في الواقع، عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، فإن إدارات «كلينتون» و«بوش» و«أوباما» جميعها كانت تلعب دور الملك «ميداس»، ولكن بدلا من أن يتحول كل شيء تلمسه إلى ذهب فإنه يتحول إلى رصاص، أو أسوأ من ذلك إلى حرائق عنيفة.

سجل من الفشل

لفهم الأمور بشكل أوضح، يمكننا إلقاء نظرة على هذا السجل. أولا: أسهمت سياسة الاحتواء المزدوج في الخليج في إقناع «بن لادن» بتنفيذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول. ثانيا: خلال عقدين من الإشراف الأمريكي على عملية السلام بين فلسطين و(إسرائيل)، فقد تم قتل حل الدولتين الذي طالما كانت واشنطن تفضله. ثالثا: كان الغزو الأمريكي للعراق خطئا سياسيا له تدعيات واسعة لا تزال تستمر في التضاعف. رابعا: ساعد التدخل الأمريكي في كل من ليبيا والصومال واليمن في خلق دول فاشلة في هذه الأماكن. خامسا: فإن الولايات المتحدة لم تحقق شيئا يذكر في سوريا أيضا. وبالنظر إلى هذا السجل القياسي، فإنه لا يبدو من المستغرب أن الأميركيين والشرق أوسطيين ينظرون بتشكك إلى الدور الأمريكي، ويرون تفكير الولايات المتحدة بعد ذلك في قدرتها على إدارة الشرق الأوسط هو درب من السذاجة.

وأخيرا، فمن الصعب معرفة ما ينبغي أن يكون عليه شكل دور الولايات المتحدة، نظرا لكون أدوات السياسية التي اعتادت واشنطن إجادتها قد صارت غير مجدية فيما يتعلق بالمشاكل التي تهز المنطقة الآن. الأداة الأكثر قابلية للاستعمال في الولايات المتحدة هي جيشها القوي، بما في ذلك المساعدات اللوجستية والتدريب والغارات الجوية، وفرق العمل البحرية والطائرات بدون طيار وقوات العمليات الخاصة، أو في الحالات القصوى، فرق الانتشار السريع الكاملة. لسوء الحظ، فإن المشكلة الأساسية التي تواجه معظم دول الشرق الأوسط ليست جيشا تقليديا قويا (وهو نوع العدو الذي نبرع في هزيمته) ولكن عدم وجود مؤسسات شرعية وفعالة للحكم المحلي. ما رأينا في العراق وأفغانستان، فإن الجيش الأمريكي لا يؤدي بشكل جيد في إنشاء مؤسسات سياسية محلية. وكلما زاد استخدامنا لهذه الأداة، كلما أصبحت السياسة المحلية أكثر هشاشة، وأكثر عندا وعنفا أيضا.

يبدو الأمر واعدا، أليس كذلك؟ يشهد الشرق الأوسط تحولا أمام أعيننا، في حين لم تعد تنطبق عليه الحقائق القديمة للسياسة الأمريكية. أقوى أدوات النفوذ لدينا لم تعد ذات قيمة تذكر، في حين أن مصالحنا الاستراتيجية في المنطقة آخذة في الانخفاض. كما أن أيا من حلفائنا الحاليين هناك لا يستحق دعما غير مشروط لأسباب أخلاقية أيضا.

ربما تعتقد أن هذا الوضع يثير نقاشا حيويا حول استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، وأن الانتخابات القادمة هذا العام توفر فرصة مثالية لذلك. ولكن إذا كان للتاريخ أن يخبرنا بشيء، فإننا نعلم أن آخر شيء يمكن أن نراه في هذه الانتخابات هو مناقشة جادة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. بدلا من ذلك، فإن المرشحين سوف يظلون يؤكدون على أهمية وجود قيادة أمريكية قوية (أيا كان ما يعنيه ذلك) كما سيتنافسون في التفوق على بعضهم البعض في إعلان حبهم العميق لـ(إسرائيل9 وإحداث المزيد من الصخب حول التهديد من قبل «الدولة الإسلامية.» وللأسف، فإن أيا منهم حين يعتلي منصبه في يناير/كانون الثاني عام 2017، لن يكون لديه أي فكرة حول ما ينبغي عمله في هذا الجزء من العالم.

حسنا، إليك هذا التفكير الراديكالي: إذا كانت الأهمية الاستراتيجية للمنطقة آخذة في الانخفاض، وإذا كان أي من الجهات الفاعلة المحلية لا تستحق الدعم الأمريكي الصريح، وإذا كانت جهودنا كفيلة بإغضاب أصدقائنا وأعدائنا على حد سواء، فربما يجب على الولايات المتحدة أن تتوقف عن محاولة إصلاح المشاكل التي ليس لديها حكمة ولا إرادة لمعالجتها. في نهاية المطاف، فإن مصير الشرق الأوسط سوف يتم تحديده من قبل أولئك الذين يعيشون هناك وليس من قبلنا، على الرغم من أننا قد نكون قادرين على لعب دور بناء في بعض الأحيان. كلما اعترف الأمريكيون بشكل مبكر أنه من الأفضل لهم لعب دور المدرب من على مقاعد البدلاء، بدلا من نزيف الدماء على أرض المعلب، كلما كان ذلك أفضل حالا.

فورين بوليسي

 

 

متى تتغير سياسة أميركا؟/ حسين عبد الحسين

في الشق المخصص للسياسة الخارجية في الندوة بين مرشحي الحزب الديموقراطي للرئاسة هيلاري كلينتون وبيرني ساندرز، حاولت كلينتون التباهي بخبرتها كوزيرة خارجية سابقة بالقول انها هي التي صممت السياسة الاميركية تجاه ايران، وانها هي التي أقامت تحالفاً دولياً لفرض عقوبات اممية على طهران، ثم فتحت حواراً اميركياً معها.

مفهوم، في ليلة انتخابية، ان يتسابق المرشحون الى نسبة اعمال سابقة الى انفسهم، لكن المشكلة تكمن في ان الاميركيين يصدقون رواية أوباما وكلينتون حول الانقلاب، الذي يفترض انهما قاداه في السياسة الخارجية، وهو زعم غير صحيح.

ومن يراجع ارشيف العقد الماضي، سيرى ان خمسة من اصل تسعة قرارات عقوبات اقتصادية في مجلس الأمن صدرت في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، اي قبل وصول أوباما الى البيت الابيض مطلع العام 2009. كذلك، من يراجع الارشيف نفسه، سيرى ان أول من أرسل موفدا اميركيا للمشاركة في مفاوضات مجموعة خمسة زائد واحد هو بوش، الذي اوفد وكيل وزير الخارجية السابق وليام بيرنز للمشاركة في المحادثات في جنيف. وكان ذلك في 20 تموز يوليو 2009.

وكما في السياسة تجاه ايران، كذلك في معظم السياسات الخارجية الاخرى، لم يبتكر أوباما الكثير، فسياسة “الانخراط” مع الرئيس السوري بشار الأسد، التي بدا وكأنه من باشر بها، كانت بدأت فعليا مع قيام وزيرة خارجية بوش كوندوليزا رايس بدعوة نظام الأسد للمشاركة في مؤتمر سلام انابوليس صيف 2007.

وفي ندوة في مركز أبحاث هدسون في 2009، اتهم مساعد وزيرة الخارجية السابق ومستشار امين عام الامم المتحدة حاليا جيفري فيلتمان اسرائيل بفتحها الباب للأسد للخروج من العزلة الدولية، التي كانت مفروضة عليه منذ حادثة اغتيال رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري في العام 2005، بدخولها بمفاوضات سلام مع الأسد.

وكما في ايران وسوريا، كذلك في العراق، لم يلتزم أوباما ما وعد به، لناحية سحب القوات في الاشهر الستة التي تلت توليه الحكم مطلع العام 2009، بل انه طرد مستشارة حملته الرئاسية للشؤون الخارجية سامنتا باور لقولها صراحة ان مهلة ستة اشهر كانت وعداً انتخابياً، وان أوباما في حال انتخابه رئيساً سيستمع الى ضباطه ويأخذ بنصيحتهم حول موعد الانسحاب، وهو ما حصل، اذ لم ينسحب الاميركيون من العراق حتى نهاية العام 2011، اي بعد ثلاث سنوات على بدء رئاسة أوباما.

كل هذه الامثلة تشير الى ان السياسية الخارجية للولايات المتحدة لا يصنعها الرئيس وحده. صحيح ان للرئيس الاميركي التأثير الاكبر والكلمة الفصل، الا ان السياسة الخارجية الاميركية يصنعها مزيج معقد من الطبقة الحاكمة والرأي العام والبيت الابيض، والدليل ان جزءاً لا بأس به من سياسات أوباما الخارجية كانت في الواقع إستمراراً لسياسات سلفه جورج بوش.

وعلى الرغم من ان الكثيرين يعتقدون ان انقلاباً جذرياً مقبلاً مع انتخاب هذا المرشح الرئاسي الاميركي او ذاك، الا ان التجربة تشير الى انه بغض النظر عن هوية الرئيس المقبل، من المرجح ان تبقى سياسة أميركا تجاه الشرق الاوسط — وخصوصا سوريا — على ما هي عليه، على الأقل في السنة الاولى لتولي الرئيس الجديد منصبه.

حتى جورج بوش الابن، الذي يتحمل اكبر مسؤولية في الذهاب الى الحرب في العراق، لم يشن الحرب وحده، بل ساندته في قرار شنها غالبية من الاميركيين تراوحت من صحيفة “نيويورك تايمز” الليبرالية وافتتاحياتها، الى الليبرتاريين الجمهوريين المعارضين للحروب عادة. طبعا في وقت لاحق، وقعت المصيبة وتحول الجميع الى جلادين، لكن الواقع يبقى ان حرب العراق مسؤولية اميركية جماعية تنصل غالبية المسؤولين عنها من مسؤوليتهم وألقوها على بوش وحده.

على  ان الرئيس الاميركي هو الذي يحدد شكل النقاش حول السياسة الخارجية، ويتمتع بمقدرة الانحراف باتجاه او آخر، وان يأخذ في إنحرافه اميركا بشكل عام خلفه، على غرار إنجرار اميركا خلف بوش في دخول الحرب في العراق.

ان سوء سياسة أوباما الخارجية تدفع الجميع الى الاعتقاد ان اي رئيس مقبل سيقدم سياسة خارجية أفضل، وهذا صحيح، لكن الاعتقاد ان انقلاباً جذرياً سيطال السياسة الاميركية بعد رحيل أوباما هو اعتقاد مبالغ فيه الى حد كبير.

المدن

 

 

 

تشاك هيغل إذ يُعَرِّي أوباما في سورية/ أسامة أبو ارشيد

لم يكشف وزير الدفاع الأميركي السابق، تشاك هيغل، سراً في تصريحاته للإذاعة الوطنية العامة، والتي انتقد فيها مقاربة الرئيس باراك أوباما للموضوع السوري، غير أن تصريحاته، مع ذلك، تحمل أهمية كبيرة، ذلك أنها صادرة عن مسؤول رفيع خدم سابقاً في إدارة أوباما، وكان عضواً في مجلس الأمن القومي الأميركي، بمعنى أنه مطلع على حيثيات وتفاصيل كثيرة. وقد شغل هيغل منصب وزير الدفاع في إدارة أوباما الثانية، ما بين فبراير/شباط 2013 وفبراير/شباط 2015، أي ضمن بعض سنوات الذروة في الحدث السوري الذي لا زال مشتعلا.

وفي تصريحاته الإثنين الماضي (الأول من يناير/كانون الثاني الجاري)، قال هيغل إن أوباما فوّت فرصة مهمة في سورية في أغسطس/آب 2013، عندما استخدم نظام بشار الأسد أسلحة كيماوية ضد مدنيين من شعبه، وهو ما كان أوباما حذّر النظام من مغبة فعله، واعتبره “خطاً أحمر” يستوجب رداً عسكرياً أميركيا. وفعلا، خرج أوباما مخاطباً الشعب الأميركي، مساء 31 من أغسطس/آب 2013، مؤكداً أن نظام الأسد تجاوز ذلك الخط الأحمر، وأن على الولايات المتحدة أن تقوم برد عسكري، غير أنه ربط استخدام القوة العسكرية بموافقة الكونغرس الأميركي، الذي لم يصوت على الأمر، بسبب امتعاض الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، على السواء، من ركل الكرة إلى ملعبهم، على الرغم من أن الغالبية كانت مؤيدة لرد عسكري محدود. هنا، يقدم هيغل تقويما قاسيا لتكتيك أوباما حينئذ، قائلا: “آذى ذلك سمعة الرئيس كقائد. أثار شكوكا عند حلفائنا ودول أخرى حول ما إذا كان يمكن تصديق كلامه. هل يمكن أن يثقوا بكلمته؟ هل يمكنهم الاعتماد على كلمته؟ هل يعني فعلاً ما يقول؟ جوهرياً، من وجهة نظري، فإنه (أوباما) خفّض من قيمة عُمْلَتِهِ لناحيتي الثقة والاطمئنان، عندما قرّر التراجع عما قاله من قبل”. ويلمح هيغل إلى أن أوباما ومستشاريه شعروا بأنهم ألزموا أنفسهم، عن دون قصد ولا نية، بتصريح أوباما السابق عن “الخط الأحمر”. ولذلك، عندما تجاوز نظام الأسد ذلك الخط، وجدوا أنفسهم في حرجٍ حول كيفية التملص من تبعاته، فكان الحل بتمرير الكرة إلى الكونغرس. وبالمناسبة، لم يكن أوباما يحتاج إلى مثل ذلك التخويل من الكونغرس، إذ إنه يقع ضمن صلاحياته التنفيذية، ما دام أنه كان سيقتصر على ضرباتٍ جوية، ولم يطلب رئيس قبله تفويضاً كهذا، بل إن أوباما، نفسه، لم يطلب تفويضا مماثلاً من قبل في ليبيا عام 2011، ولا بعد ذلك في العراق وسورية عام 2014. وكان واضحاً حينها أن أوباما ألقى بالكرة إلى الكونغرس، وهو يعلم أن الأخير لن يقبل أن يتلقاها، فكثيرون من أعضائه كانوا قد دخلوا في مزاج انتخابات التجديد النصفي لعام 2014.

صحيح أن الإدارة وجدت في العرض الروسي لتدمير السلاح الكيماوي السوري مخرجاً لحفظ ماء وجهها، غير أن هيغل يؤكد أن “الخط الأحمر” الذي أعلنه أوباما كان ينص على استخدام القوة العسكرية، حتى وإن كانت محدودة، في حال ما تم خرقه، وليس التخلص من مخزون السلاح الكيماوي السوري.

مناسبة هذا الحديث وأهميته مرتبطتان بتطورات الأحداث على الساحة السورية اليوم، وفشل

“من يرهن كل خياراته للولايات المتحدة كمن يضع بيضه في سلة مثقوبة” مفاوضات جنيف بين النظام، مدعوماً بالموقفين الروسي والإيراني، والمعارضة، مدعومة بالموقفين السعودي والتركي. فمنذ البداية، كان واضحاً أن مفاوضات جنيف آيلة إلى فشل ذريع، إذ لم تقم على أسس صحيحة، وأهمها الالتزام بقرار مجلس الأمن 2254 الذي ينص على وقف القصف العشوائي الذي يقوم به النظام وداعموه، ورفع الحصار وإتاحة الوصول الكامل للمساعدات الإنسانية إلى السكان السوريين. بل إن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، سافر إلى الرياض، أواخر الشهر الماضي، حاملاً الشروط الروسية-الإيرانية للمعارضة السورية، سواء لناحية طبيعة تشكيل وفدها للمفاوضات، أم لناحية أرضية التفاوض في جنيف، بما في ذلك الضغط على المعارضة، لتجاوز مطالبها الأولية بوقف الهجمات الجوية على مناطقها، ورفع الحصار عن المدن والبلدات المحاصرة، ومطالباً إياها القبول بوجود الأسد، عملياً، على رأس السلطة، وحقه في الترشح في أي انتخابات مقبلة. وحسب تصريحاتٍ لرموزٍ كبار في المعارضة، فإن كيري هدّدهم بقطع الدعم عنهم، إن لم يقبلوا بتلك الشروط، على الرغم من أن مطالبهم منصوص عليها في القرارات الأممية (باستثناء مسألة رحيل الأسد)، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة، وعلى لسان أوباما نفسه، أعلنت أنها لا ترى في الأسد رئيساً شرعياً، وطالبت برحيله عن السلطة منذ أغسطس/آب 2011.

الآن، ومع إعلان موفد الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أول من أمس الأربعاء، تعليق المفاوضات بين وفدي النظام والمعارضة في جنيف حتى 25 فبراير/شباط الجاري، أطل علينا كيري مرة أخرى، ليتابع مسار التخبط الأميركي في سورية نفسه، متهماً النظام السوري، وحليفه الروسي، بالسعي إلى فرض حل عسكري، وتقويض جهود السلام، خصوصا في مدينة حلب وريفها اللذين يتعرّضان، الآن، إلى قصف وحشي من النظام وروسيا. ولكن، ما هو بديل كيري، إن لم تنجح مناشداته لروسيا وإيران ونظام الأسد؟ لا شيء فعليا، فهو يراهن على إطلاق المفاوضات الجديدة أواخر الشهر الجاري، ولا يُسْتَبْعَدُ أبداً، بل وهذا هو المرجح، أنه سينخرط في جولة ضغط جديدة على المعارضة السورية للقبول باشتراطات النظام، وحليفيه الروسي والإيراني، خصوصاً في ظل إنجازاتهم العسكرية على الأرض.

تأكيدات هيغل عن افتقاد إدارة أوباما إلى استراتيجية في سورية حقيقة ثابتة، فهذه إدارة افتقدت منذ البدء، بغض النظر عن الأسباب، الحسم في السياق السوري، ما فتح الباب واسعا أمام إيران، ولاحقا روسيا، لملء الفراغ الناجم عن الغياب القيادي الأميركي. بل إن إدارة أوباما لم تقدم دعماً معتبراً للمعارضة السورية، ولا هي سمحت لحلفاء آخرين بتقديم دعم عسكري نوعي لها، مثل صواريخ أرض-جو، للتصدي لبطش طيران الأسد، قبل دخول روسيا على الخط أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، لتقلب موازين القوى. وحين دخلت روسيا المعركة رسمياً في سورية لإنقاذ نظام وكيلها الأسد، خرج علينا أوباما بفلسفةٍ من دون معنى، قائلا: إن “الرئيس بوتين اضطر إلى الذهاب إلى سورية ليس من موقع قوة، وإنما من موقع ضعف، لأن وكيله، الرئيس الأسد، كان ينهار. ولم تعد الأموال والأسلحة التي يرسلها إليه كافية، فاضطر (بوتين) أن يرسل طائراته وطياريه” لإنقاذ نظام الأسد من الانهيار. وحذر أوباما موسكو، حينها، بأنها وإيران ينجرّان إلى “مستنقع ولن ينجحا”، ذلك أنهما همّشا غالبية السوريين، وأغضبا المسلمين السنة في المنطقة. وشدد، على قناعته التي كررها، غير مرة، بأنه لم يكن في وسع الولايات المتحدة فرض حل عسكري في سورية. ولذلك، اختارت العمل مع “معارضةٍ معتدلة داخل سورية”، لبناء سورية “متماسكة ومتينة”، بعد “انهيار نظام الأسد”، ذلك أن “نظام الأسد سينهار”، حسب أوباما.

ما سبق تصريحات أطلقها أوباما في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2015، غير أن ما يبدو اليوم أن لا روسيا، ولا إيران، انزلقت نحو “مستنقع” لن تخرجا منه، ولا نظام الأسد في وارد الانهيار قريبا، بل إن الولايات المتحدة تلمح، ضمناً، إلى أن الأسد سيبقى، وبأنه قد يترشح في أي انتخابات مقبلة، فالأولوية، أميركيا، هي لمحاربة “داعش”. الأدهى من ذلك أن رئيس أقوى دولة على وجه البسيطة الذي حذر روسيا وإيران من هزيمةٍ في سورية، جعل من وزير خارجيته ساعي بريد إيراني-روسي يحمل شروطهما، بل ويتبناها!

وعودة إلى تصريحات هيغل، قد يقول بعضهم إن الرجل أطلق تصريحاته هذه، بعد أن أصبح خارج السلطة، غير أن الواقع غير ذلك أبداً. فهيغل كان قد أرسل مذكرة إلى مستشارة الأمن القومي، سوزان رايس، أواخر سبتمبر/أيلول 2014، أي حينما كان وزيراً للدفاع، طالب فيها بضرورة وجود “رؤية أكثر وضوحاً حول ما يمكن القيام به حيال نظام الأسد”. وأوضحت المذكرة أن نظام الأسد يستفيد عملياً من الهجمات الجوية الأميركية على “داعش” وجبهة النصرة، ذلك أنه أصبح يوجه قوته الضاربة نحو إضعاف من تصفهم واشنطن “المعارضة السورية المعتدلة” التي تعلن دعمها لها.

ذلك ما قاله هيغل حينها. ولكن، ماذا كان مصير مذكرته التي تنبأت بفشل ذريع في سورية، جرّاء غياب استراتيجية ورؤية أميركية للوضع فيها، وتبدد ثقة الحلفاء في الولايات المتحدة؟ وحسب تلميحه في جوابه على هذا السؤال في مقابلته مع الإذاعة الوطنية العامة، كان الإهمال مصير المذكرة.

باختصار، من يرهن كل خياراته للولايات المتحدة كمن يضع بيضه في سلة مثقوبة. اسألوا الفلسطينيين عن ذلك، وهم الخبراء به عقوداً، واسألوا اليوم، السوريين والعرب، عن المساومة عليهم وعلى منطقتهم ومستقبلهم مع إيران وروسيا.

العربي الجديد

 

 

خيانة «أوباما» الكارثية: البيت الأبيض يهدي الانتصارات لـ«الأسد» وروسيا وإيران

ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد

ما الذي يمكن أن يكون قد صنع الفارق خلال العام الأخير في سوريا، لا شك إنه التدخل العسكري الروسي في البلاد.

في فبراير/شباط من العام الماضي، شن نظام «بشار الأسد» ومساعديه من الشيعة محاولة واسعة النطاق بهدف محاصرة حلب، المدينة الشمالية المقسمة بين النظام والمعارضين منذ عام 2012، بعد أن تم قصفها بالبراميل المتفجرة، وقد نجح المعارضون من الإسلاميين وغير الإسلاميين في صد الهجوم في ذلك التوقيت ما مثل مفاجأة لأولئك الذين سبق وأن سخروا من أدائهم، ما تبع ذلك سلسلة من الانتصارات لصالح المعارضين في جميع أنحاء البلاد، والتي أضعفت «الأسد» كثيرا إلى درجة أثارت تدخل موسكو المباشر في سبتمبر/أيلول بالتنسيق مع تدفق للقوات الإيرانية من أجل ضمان بقاء «الأسد».

وبعد بداية بطيئة، وعلى الرغم من التقييمات الغربية التي كانت تتمنى أن موسكو لن تستطيع القيام بجهد عسكري ذو معنى في الخارج، فإن الحملة الروسية قد أظهرت أنها تحقق نتائج لصالح نظام «الأسد».

هذا الأسبوع، سمحت القوات الجوية الروسية لـ«الأسد» والقوات شبه العسكرية المتحالفة معه بقطع ممر عزاز الضيق الواقع تحت سيطرة المعارضي، والذي يربط الحدود التركية مع مدينة حلب، وقد صار تطويق كامل المدينة من قبل النظام الآن أمرا محتملا مع تحرك قوات النظام والمقاتلين الشيعة من الجنوب والغرب، والشمال.

سوف تسقط الأجزاء التي يسيطر عليها المعارضون من المدينة في نهاية المطاف، سيكون ذلك بمثابة انتصار مثير لـ«الأسد»، وأكبر انتكاسة للتمرد منذ بدء الانتفاضة في عام 2011.

بالتوازي مع ذلك، فإن روسيا يبدو أنها تقوم بإشعار جيران سوريا بالقواعد الجديدة للعبة، قامت الأردن بخفض مستوى مساعداتها إلى الجبهة الجنوبية، التحالف الرئيسي للمجموعات غير الإسلامية في جنوب البلاد، والتي منعت حتى الآن وجود المتطرفين على حدودها، أدت عملية قيام تركيا بإسقاط مقاتلة عسكرية روسية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى نتائج عكسية، حيث صبت موسكو غضبها على أصدقاء تركيا من المتمردين في محافظات إدلب وحلب.

قامت موسكو أيضا بالتودد إلى أكراد سوريا، الذين وجدوا بدورهم حليفا يمكنهم المناورة معه في علاقاتهم المعقدة مع واشنطن، وقد وافقت روسيا على الرعاية المؤقتة للمصالح الإسرائيلية في جنوب سوريا.

داخل سوريا، وعلى الرغم من الرغبات المهذبة لوزير الخارجية الأمريكي «جون كيري»، فإن الغالبية الساحقة من الغارات الروسية قد ضربت المقاتلين من غير «الدولة الإسلامية».

في الواقع، فإن موسكو والنظام السوري يشعران بالرضا لكون الولايات المتحدة تتحمل نصيب الأسد من المواجهة مع الوحش «الجهادي» في الشرق، بدلا من التركيز على جهودهما في سحق التمرد الرئيسي في الغرب ويبدو أن هدفهم بوضوح هو إجبار العالم على اتخاذ خيار غير معقول بين «الأسد» أو تنظيم «الدولة الإسلامية».

سقوط منتظر لحلب

في وقت مبكر، أبدى المعارضون مقاومة قوية، ولكن الزيادة التي يروج لها كثيرا في الأسلحة المضادة للدبابات قد تؤخر فقط خسائرهم في الوقت الذي يجري خلاله قصف مخازن أسلحتهم إضافة إلى مراكز القيادة، حول دمشق، فقد أدمى القصف الروسي المتواصل الأجوار التي يسيطر عليها المتمردون.

في ديسمبر/كانون الأول، قتلت الغارات الروسية «زهران علوش»، قائد أحد الميليشيات الإسلامية الرئيسية هناك، في الجنوب، دعمت روسيا بالكامل هجوم النظام في منطقة درعا، الذي قد يسهم في إضعاف الجبهة الجنوبية، وقد واجهت الجماعات المعارضة في محافظات حماة وحمص موجات متتالية من القصف أسهمت في إضعافهم بشكل كبير.

شمالا، فإن تحالفا من قوات «الأسد» والميليشيات الشيعية الإيرانية، مصحوبا بقوة النيران الروسية، قد نجح في طرد تحالف المعارضين الإسلاميين القوي، جيش الفتح، من محافظة اللاذقية.

ولكن مكاسب النظام حول حلب تمثل تهديدا حقيقيا للتمرد، إحدى النتائج الضارة لقطع ممر عزاز هو أنه يصب في النهاية في مصلحة جبهة النصرة التبعة لتنظيم «القاعدة»، حيث سينبغي على إمدادات الأسلحة القادمة من تركيا أن تسلك طريق إدلب حيث تتمتع الحركة «الجهادية» بنفوذ قوي.

إدلب قد تصبح كذلك الهدف القادم للنظام، يمكن لانهيار فصائل المعارضين في منطق حلب الآن أن يدفع بآلاف المقاتلين في أحضان جبهة النصرة أو «الدولة الإسلامية».

كما أن تطويق حلب سوف يمثل كارثة إنسانية سوف تكون من الضخامة بحيث تطغى على الحصار المروع في مضايا والمناطق المنكوبة الأخرى التي تلقت انتباها قصير الأمد من العالم.

عشرات الآلاف من سكان حلب يفرون بالفعل نحو كيليس، المدينة التركية التي تقع عبر الحدود من عزاز.. الأزمة الإنسانية هي استراتيجية متعمدة من قبل النظام والقوات الروسية تهدف إلى إخلاء المناطق المهمة من السكان في الوقت الذي يتم خلاله شل حركة المتمردين والبلدان المجاورة والدول الغربية والأمم المتحدة.

ظل «الأسد» يتابع استراتيجية التصعيد التدريجي والتي يبدو أنها قد عملت بشكل جيد، .. السوريون يقومون بالفعل بمقارنة الانتقادات الدولية لحصار كوباني في عام 2014 لحالة اللامبالاة التي يبديها العالم تجاه المأساة الحالية.

تقدم الأكراد

ومن أجل تعقيد الوضع أكثر من ذلك، فإن تقدم النظام يمكن أن يسمح بسيطرة القوات الديمقراطية السورية التي يهيمن عليها الأكراد على المناطق التي يسيطر عليها حاليا الجيش السوري الحر والميليشيات الإسلامية بين الحدود التركية والجبهة الأمامية الجديدة للنظام شمال المدن الشيعية نوبل والزهراء، وهذا من شأنه وضع تلك القوات في مواجهة «الدولة الإسلامية» على جبهتين: من الغرب، في حال تمكن الأكراد في عفرين كانتون من الاستيلاء على تل رفعت، وعزاز والمناطق المحيطة بها ومن الشرق، حيث تداعب وحدات حماية الشعب الكردي فكرة عبور نهر الفرات.. هزيمة «الدولة الإسلامية» هناك سوف تتسبب في إغلاق الحدود مع تركيا.

احتمال حدوث مزيد من التوسع الكردي أثار قلقا بالفعل في تركيا، خلال فصل الصيف، كانت تركيا تأمل في إقامة منطقة عازلة في هذا المجال على وجه التحديد، وقد ضغطت على جبهة النصرة لسحب حلفائها من هذه المنطقة، وفي مقدمتهم مجموعة أحرر الشام.

وقد عطل الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» الاقتراح التركي إلى وقت لم يكن هناك مجال لتطبيقه، وتواجه تركيا حاليا معضلة مؤلمة: أن تكتفي بدور المشاهد ولا تفعل شيئا في حين تقترب العاصفة من حدودها، أو أن تشرع في التدخل المباشر في سوريا وتخاطر بتأجيج المشكلة الكردية الداخلية واستفزاز القوى الحليفة لـ«الأسد»، بما في ذلك روسيا.

تركيا والمملكة العربية السعودية، المؤيدين الرئيسيين للتمرد، يعانون الآن نقصا شديدا في الخيارات.. لا يوجد أي قدر من الأسلحة من المرجح أن يكون قادرا على تغيير موازين القوى، كان إدخال صواريخ مضادة للطائرات في وقت ما أحد الاستجابات الحيوية في مواجهة طيران «الأسد»، ولكن أيا من الدولتين، وبالأخص مع اشتباههما في استسلام الولايات المتحدة لنهج موسكو، سوف تكون على استعداد للتصعيد ضد الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» دون غطاء.

انهيار المفاوضات

ومن المفارقات أن هذا التحول في ديناميات ساحة المعركة يحدث في الوقت الذي يقوم فيه مبعوث الأمم المتحدة «ستيفان دي مستورا» بالدفع نحو المسار الدبلوماسي، مرة أخرى، في جنيف، ولكن التطورات على الأرض تهدد بإفشال مخططات السلام الدبلوماسية الرشيقة.

وقد صار «دي مستورا» موصوما بحقيقة أن الأمم المتحدة قد فقدت مصداقيتها في أعين كثير من السوريين بسبب سوء تعاملها في مواجهة الأزمات الإنسانية التي تسبب فيها النظام، في القوت الذي لا تزال فيه قرارات الأمم المتحدة أو مساعداتها الإنسانية لا تصل إلى أيدي أولئك الذين هم في أشد الحاجة إليها.

في الواقع، أصبحت المساعدات أداة أخرى للحرب في يد «الأسد»، في الوقت الذي لا يبدو فيه أيا من «كيري» أو «دي مستورا» على استعداد للضغط على محمل الجد على روسيا أو «الأسد» خوفا من إجهاض محادثات جنيف.

ويبدو أن نهج «دي مستورا» يعتمد في هذا التوقيت على التقارب الواضح بين روسيا والولايات المتحدة… في قلب هذه العملية يقع أمل واشنطن الدائم في أن إحباط روسيا بسبب «الأسد» سوف يتم ترجمته بطريقة ما أو بأخرى استعداد لدفعه للخروج، ولكن الأمر في اللحظة الراهنة لا يكمن في كون «بوتين» يحب «الأسد» أم لا.

الرئيس الروسي لديه بالتأكيد تحفظات على «الأسد»، ولكن إذا حكمنا على الأمور من خلال سلوك قواته في الشيشان والآن في سوريا، فإن الأمر يتعلق بالإنجاز وليس بالمبادئ الإنسانية أو حتى بشرعية «الأسد»، في الوقت الحاضر، موسكو تدرك أنه من دون «الأسد»، فإنه لا يوجد نظام في دمشق بإمكانه أن يضفي الشرعية على تدخلها.

الخيانة الأمريكية

بشكل أوضح من أي وقت مضى منذ عام 2011، فقد سارعت الولايات المتحدة وراء الأمل في التحول الروسي وأغلقت عينيها عن الأذى الذي يسببه «بوتين»، رغبة في تجنب الخيارات الصعبة في سوريا.

عندما بدأ الهجوم الروسي، فإن مسؤولين أمريكيين مثل نائب وزيرة الخارجية «توني بلينكن» قد توقعوا أن تتورط روسيا في  مستنقع بهدف تبرير سلبية واشنطن. إذا كان التدخل الروسي محكوم عليه بالفشل من البداية، فإنه لا ينبغي على الولايات المتحدة أن تفعل شيئا.

روسيا، ومع ذلك، لم تكن قادرة فقط على زيادة وتيرة عملياتها العسكرية، وإنما استطاعت أيضا تبرير تكلفتها المتزايدة، وخلافا لبعض النقاد، الذين أشادوا بالتدخل الروسي باعتباره أفضل فرصة لتحجيم نفوذ «الدولة الإسلامية»، فقد كانت واشنطن تعي جيدا أن نتيجة الحملة الروسية سوف تكون هي تعزيز نفوذ المجموعة الجهادية في وسط سوريا خلال وقت قريب. هذا هو الثمن الذي يبدو أن واشنطن قد اختارت دفعه من أجل الحفاظ على عملية جنيف على قيد الحياة.

كان إفلاس السياسة الأمريكية أكثر عمقا من ذلك. قامت الولايات المتحدة بالفعل بتقديم تنازلات حول نقاط محورية بخصوص مستقبل «الأسد»، وهي التنازلات التي سارعت روسيا والنظام إلى اغتنامها بينما لم يقدم أي منهما شيئا في المقابل. خلال الفترة التي سبقت الأيام الأولى من محادثات جنيف، أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة تمارس الكثير من الضغط على المعارضة أكثر مما تفعله مع روسيا ناهيك عن «الأسد».

وفي الوقت الذي كانت فيه روسيا تصعد من وتيرة عملها سياسيا وعسكريا فقد كانت الولايات المتحدة تتجنب التصعيد بشكل مثير للسخرية وتدفع حلفاءها للقيام بذلك أيضا. تسبب ذلك في إضعاف الجماعات المتمردة التي تعتمد على شبكات الإمداد التي تشرف عليها الولايات المتحدة: في الجنوب، طلبت الولايات المتحدة خفض  شحنات الأسلحة إلى الجبهة الجنوبية، بينما في الشمال، فقد صارت غرفة العمليات في تركيا أكثر خمولا بشكل كبير.

والنتيجة هي شعور واسع النطاق، ومفهوم، بالخيانة من قبل المتمردين، في الوقت الذي تفقد فيه الأوجه الصديقة للولايات المتحدة نفوذها ضمن صفوفهم..هذا يمكن أن يكون له تأثير كبير في تفتيت التمرد، في الوقت الذي كانت فيه الحكومات الغربية تتحسر على الانقسامات في صفوف هذه المجموعات.

من المفهوم أن تسعى الولايات المتحدة إلى الاستثمار في العملية السياسية وحث المعارضة، بحسن نية، على الانضمام إلى الحوار، ولكن القيام بذلك في الوقت الذي تقوم فيه بكشف المعارضة أمام انقضاض من «الأسد» وروسيا وإيران ودون التخطيط للطوارئ هو ببساطة أمر شائن.

يبدو أن واشنطن غافلة عن الحقيقة البسيطة بأن الدبلوماسية لها تكلفة، وكذلك فشلها، وربما يرجع ذلك إلى كون المعارضين هم من سيدفعون كامل التكلفة، ويبدو أن الولايات المتحدة لم تكن تعبأ بهم على أي حال.

يبدو أن الظروف مهيأة لكارثة انهيار محادثات جنيف، التي تم تأجيلها حتى يوم 25 فبراير/شباط إلى الآن، ما يعني أننا مقبلون على عام أكثر دموية وألما في سوريا.

يفهم جميع الفاعلين أن «أوباما»، الذي قاوم أي مشاركة جادة في البلاد، من غير المرجح أن يغير مساره الآن، وكلهم يحمل، ربما عن حق، تصورا بأنه أكثر اهتماما بمظهر العملية أكثر من إنفاق رأسمال سياسي حقيقي، ونتيجة لذلك، فإن جميع الأطراف التي لها مصلحة في مستقبل سوريا تتطلع إلى العام 2017، في انتظار شاغل البيت الأبيض الجديد. وهذا يضمن حافة الهاوية، التصعيد، والمزيد من البؤس. يتشكل العام 2016 بوصفه عاما يمكن من خلاله أن ينجح «الأسد» في تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية كبيرة.

فورين بوليسي

 

 

منع حصول مشكلة مستعصية في الشرق الأوسط

جيمس جيفري و سونر چاغاپتاي- وور أو ذي روكس: معهد واشنطن

إنّ تفاقم الأحداث في الشرق الأوسط الحافل أكثر من أي وقت مضى بتصعيدات صادمة ومزعزعة للاستقرار، وخاصة إذا ما تم أُخذ كل من هذه الأحداث بشكل منفرد، قد يُخبّئ النزعات الضمنيّة التي تدفع بالمنطقة إلى كارثة محتملة. وكلّما طال تجاهل الولايات المتحدة للشرق الأوسط، تسارعت وتيرة تولي اللاعبين الإقليميين لزمام الأمور بأنفسهم، ومواجهة بعضهم البعض في ظروف نزاعية، وتحولهم إلى أعداء لدودين. وهذا يجعل من شبه المستحيل على الولايات المتحدة بناء تحالفات عاملة مجدية وإيجاد شركاء من دون أن تُضطرّ إلى الانقضاض على بعضها البعض عندما يحين الوقت لانخراط واشنطن في الشرق الأوسط.

وفي الآونة الأخيرة، أصبحت هذه الاتجاهات الضمنية أكثر وضوحاً مع قيام السلطات السعودية بإعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر، ثمّ مع الهجوم الذي أعقب ذلك على السفارة السعودية في طهران، وأخيراً مع قطع العلاقات بين المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى من جهة وإيران من جهة أخرى. إنّ التأثيرات التفاعلية وسط هذه الأحداث الفردية تنتج سيناريوهات محتملة تتراوح ما بين وجود عسكري روسي كبير واحتدام إقليمي بين الشيعة والسنّة.

يجب النظر إلى إعدام النمر وانعكاساته في إطار تطوّرات أخرى مزعزعة للاستقرار. فمن وجهة نظر أكثر شموليّة، فإنّ أحداثاً مثل عملية الإعدام السعودية لرجل الدين الشيعي (إلى جانب إعدام عدد كبير من العرب السنّة لأسباب داخلية) وإسقاط المقاتلة الروسية في الآونة الأخيرة من قبل سلاح الجو التركي تأخذ معنى جديداً.

وعلى الأقل، أنّ النقطة الإيجابية الوحيدة هي أنّ الأفعال السعودية والتركية قد بلغت هدفها الفوري القاضي بكسر سلسلة متواصلة من النجاحات العسكرية والسياسية التي حقّقتها إيران وروسيا. وفي وقت سابق من هذا العام، أفادت صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ جنرالاً عالي الرتبة من «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني قد انتقد الهجوم على السفارة السعودية. وبالتالي، يبدوأنّ أفعال السعودية قد فاقت طهران دهاءً، فأوّلاً إنها قامت بإعدام النمر ثمّ استغلّت ردّة فعل إيران العنيفة المتوقّعة تجاه صفوف دولة خليجية قريبة. وقد حصلت حادثة مماثلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد إسقاط مقاتلة “سوخوي-24”. فقد فاق غضبه اللفظي ضدّ تركيا كل الحدود، إلّا أنّ أفعاله كانت محدودة – حيث ألغى الجولات السياحية في حين سمح باستمرار تدفّق حوالى 60 في المائة من واردات الغاز الطبيعي التي تأتي من روسيا إلى تركيا وحافظ على عقود بناء منشآت نووية تركية.

وقد رأت أنقرة والرياض استفزازات محددة كان لا بد من الردّ عليها. وفي الحالة التركية، كانت تلك الاستفزازات التحليقات الروسية فوق الأراضي التركية التي بدأت فور وصول الطائرات الروسية إلى سوريا تقريباً. ولم تكن تلك التحليقات فوق أي أرض تركية، بل فوق محافظة هاتاي التي لطالما طالبت بها سوريا حليفة روسيا. (وكانت طائرة “سوخوي- 24” تحلّق هي أيضاً فوق هاتاي). وبالإضافة إلى ذلك، فخلال الانتهاكات الأوّلية للأجواء التركية، قامت المقاتلات الروسية بتعقّب الطائرات التركية بأنظمة السيطرة على النيران الخاصة بها. وفي غضون ذلك، بدأت روسيا بقصف قوّات المعارضة السورية التي تدعمها تركيا، فضلاً عن التركمان العرقيين الذين يشاركون الأتراك روابط متوارثة.

وقد رأت الرياض استفزازاً مماثلاً ومتعمّداً في موت قائد «جيش الإسلام» والشخصيّة السورية المعارضة التي تدعمها السعودية، زهران علّوش، وذلك خلال غارة جوّية قام بها السوريون أو الروس في أواخر كانون الأوّل/ديسمبر.

وهناك حافز ثالث محتمل للأفعال السعودية والتركية، الذي أثار على الأقل في حالة السعودية الكثير من التعليقات بين المحلّلين. فهناك اعتقاد متزايد في المنطقة بأنّه وبفعل عدم استعداد الولايات المتحدة للاستمرار في سياستها التي طالت لعقود طويلة والتي قضت بتأمين استقرار عالمي وإقليمي، على الجهّات المعنيّة التصرّف بالشكل الذي يصب في مصلحتها.

وكما لفتت كيم غطّاس في مجلّة «فورين بوليسي» مؤخّراً، قد يكون عدم تمكن الولايات المتحدة من الردّ بأي طريقة بارزة على التدخّل الروسي قد شكّل القشّة التي قصمت ظهر البعير. فقبل التدخّل الروسي، كانت واشنطن قد فشلت في الردّ على سلسلة من الاستفزازات الإيرانية في أواخر كانون الأوّل/ديسمبر، بدءاً من إطلاق الصواريخ الباليستية مروراً بحظر طفيف على التأشيرة الأمريكية ووصولاً إلى اصطدام وشيك بناقلة أمريكية في مضيق هرمز. (وبالتأكيد أنّ الردّ الأمريكي الضعيف على إيران لإذلالها بحّارة أمريكيين أُلقي القبض عليهم من دون أي مقاومة لن يعكس نظرتها الخافتة حول الالتزام الأمريكي الثابت).

ومع ذلك، ربما كانت دوافعهما أعمق من مجرّد «تلقين درس» وإظهار عزم. بل وكأن أنقرة والرياض تُشيران إلى الولايات المتحدة بأنه، نظراً لعدم تحرّك واشنطن، فإنّهما ستتصرّفان بنفسيهما. وبفعل متعمّد أو لا شعوري، قد تقضي غريزتهما هنا بتحذير واشنطن من أنّ القيادة من الخلف، وابتعاد محورها، و«وضعها حدّاً لحروب الولايات المتحدة» قد يجبر حلفاءها على اتخاذ إجراءات خطيرة. فقد يضع هذا الانسحاب حدّاً للهيكلية الأمنية، وللاستعداد للمحاربة بالمساندة المعنوية، وقد يؤدي تصعيد إقليمي إلى جر الولايات المتحدة إلى الصراع من جديد.

هناك فائدة لمختلف الهيكليات الأمنية الإقليمية التي ترعاها الولايات المتحدة وغالباً ما يتمّ التغاضي عنها وهي أنّه، منذ أوائل خمسينيّات القرن الماضي، أن هذه الهيكليات قد أجبرت رجالاً مستبدّين مثل سنغ مان ري – أول رئيس لكوريا – على الحكم بميولهم الشرسة كثمن للدعم الأمريكي المستمرّ. ومن خلال ذلك، فإن الإمكانات التصعيدية التي قد تنتجها مثل هذه الميول قد تكون محدودة. ومقابل ضمانات أمنية مباشرة من قبل واشنطن و«إدارة» أمريكية للتهديدات الأمنية، تمّ حلّ النزاعات بطرق لا تستوجب عادةً قيام القوّات الأمريكية بتطبيق هذه الضمانات [من خلال تدخّل عتيدها].

وهنا، تشكّل تركيا مثالاً مهمّاً بشكل خاص. فبقوّتها الاستثنائية ووجهة نظرها المختلفة نوعاً ما عن معظم حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي وشرق آسيا، لطالما وجدت تركيا نفسها في السابق مائلة إلى سلوك طريقها الخاصّ. ولكن، في النهاية، بحسن أو سوء نيّة وغالباً مكسورة الرأس، كانت تعود دائماً إلى الكنف الأمني لواشنطن. وفي هذا الإطار، ساعدت التوتّرات التركية الروسية الأخيرة في النهاية على توجيه أنقرة مجدّداً نحو كنف واشنطن – إذ تُعدّ روسيا خصم تركيا التاريخية؛ وعلى غرار جميع الأتراك الآخرين، يدرك الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أنّ أسلافه الأتراك العثمانيين قد خاضوا 17 حرباً خاسرة ضدّ موسكو.

وفي سوريا، اتّبعت تركيا سياسة تهدف إلى الإطاحة بنظام الأسد منذ عام 2012. ووفقاً لذلك، فإن انتشار القوّات الروسية في سوريا لتعزيز نظام الأسد في أواخر عام 2014 قد أغضب أنقرة. وبعد ذلك حاولت تركيا  فرض منطقة حظر جوّي بحكم الواقع بالقرب من حدودها في سوريا، والتي قامت روسيا بانتهاكها، مما أجبر تركيا على إسقاط الطائرة الروسية.

ولم تتطوّر الحادثة إلى صراع كبير بين أنقرة وموسكو. إلّا أنّ تركيا شكّلت هدفاً لهجمات ألكترونية مكثّفة منذ حادثة الطائرة، مما يُعدّ إشارة منبّهة إلى أنّ الأدوات الحربية لبوتين غير متناسقة. إنّ المواجهة مع روسيا قد دفعت تركيا إلى الاقتراب أكثر من واشنطن، إلّا أنّ الوقائع لا تزال تظهر أنّ أنقرة مستاءة من عدم قيام الولايات المتحدة بما يكفي لإنهاء وحشيّة الأسد في سوريا. وبالتالي، ستعمل تركيا من وراء ظهر واشنطن لتأمين التغطية للثوّار المعارضين للأسد، وأحياناً لأولئك الذين هم من المتطرّفين.

أمّا المملكة العربية السعودية الأكثر حذاقةً، فقد عمدت مراراً وتكراراً إلى وضع حدود لتعاونها مع واشنطن، بدءاً من تسلّمها أسلحة من الصين وصولاً إلى تعاونها مع باكستان، وعلى الأقل ضمنيّاً شجّعت الدعوة الوهابية في كافة أنحاء العالم الإسلامي. ولكن، في النهاية، سواء خلال أزمة النفط أو في عام 1990، لطالما وجدت المملكة طريقتها الخاصّة في التعامل مع محسنيها الأمريكيين.

ومن دون إحداث تغيير جذري في رؤية إدارة أوباما للعالم، من الصعب تخيّل إدراكها لما خلّفته سياساتها – في بهجة يغذّيها نصر متواضع في قمّة المناخ، والتقارب الغريب من عائلة كاسترو، والاتفاق النووي مع إيران.

نحن اليوم أمام تفاقم الصراع السعودي – الإيراني. فقبل شهرَين، لم يكن هناك خلاف تركي – عراقي حول انتشار القوات العسكرية التركية، وقبل أربعة أشهر لم يكن هناك صراع تركي – روسي، واللائحة طويلة. فكلّما تجاهلت الولايات المتحدة الشرق الأوسط، كلما عمل اللاعبون الإقليميون بصورة أكثر على مسك زمام الأمور بأنفسهم، الأمر الذي يخلّف المزيد من الفوضى في المنطقة.

إذاً نعم، لقد أصبح أكثر صعوبة حالياً إنهاء الحرب في سوريا، ووضع حدّ لوحشيّة الأسد، وبالتالي إنهاء المحرّكات الرئيسية لعمليات التجنيد التي يقوم بها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»). إن المزيد من التأخير في انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد يعود على أمريكا بسياسة خارجية موازية لمشكلة مستعصية.

يعتمد أي نظام أمني على الثقة بـ «نظام» شامل وقائد عام من قبل دول التحالف القادرة على إحداث أزمة بنفسها. ويبدو أنّ تركيا والمملكة العربية السعودية، إلى جانب لاعبين إقليميين آخرين مثل إسرائيل يشكّكون في مصداقية هذا النظام وقائده. إنّ النتائج، كما ظهرت بإسقاط المقاتلة الروسية من طراز “سوخوي- 24” ومن خلال الخلاف الدبلوماسي بين إيران والمملكة العربية السعودية، قد بدأت تشبه حالة البلقان: إمّا البلقان في أوائل تسعينيات القرن الماضي قبل أن تستيقظ الولايات المتحدة من سُباتها وتضطلع بدورها كقائد أمني، أو البلقان في العقد الذي سبق الحرب العالمية الأولى عندما لم يستيقظ أحد من سُباته.

جيمس جيفري هو زميل متميز في زمالة “فيليب سولوندز” في معهد واشنطن وسفير الولايات المتحدة السابق في العراق وتركيا. سونر چاغاپتاي هو زميل “باير فاميلي” ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن.

يود الكاتبان أن يشكرا جيم يولبولان على مساعدته في هذه المقالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى