صفحات العالم

عن شعب لم يهمد بعد/ سحر مندور

تمضي تظاهرة «الإخوان المسلمين» في شارع عباس العقّاد في مدينة نصر في القاهرة بما بات يرسم عادات يوم الجمعة. فهو يوم تظاهر «الإخوان» في مصر، يرفعون فيه تلك الشارة الصفراء، ويستبدلون الكلام بها. لا تهتف التظاهرة هتافاً جامعاً وتكرره، علماً أن قوامها يقلّ بالشيء البسيط عن ألف مواطن، نساءٌ ورجالٌ وأطفال وطلاب وطالبات، يعتمدون في صناعة الصوت على الزمور القويّ، وفي صناعة الهوية على الشارة الصفراء. تعبر التظاهرة صور لمحمد مرسي، ولافتات قليلة تحكي عنه كرئيس شرعيّ، بينما تحكي لافتات أخرى عن وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي بصفته خائناً وقاتلاً. لا يقابلها حشد عسكري، وتمرّ بتحيّة بعض الواقفين على جنبات الطريق، وبتجاهل سواهم. هم اليوم قاصدو شوارع مصر للتعبير عن الاختلاف.. هم اليوم أهل الاعتراض الفئوي الأوضح.

في المقابل، يأتي النقاش مع شبابٍ ساهموا في الثورة وبقوا نقديين تجاه العسكر، واقعياً جداً، وهم يميلون إلى التشاؤم من كمية الدم المراقة في «رابعة العدوية» كما من حجم الصعود الحماسي للميل العسكري. يمضون في تشاؤمهم حتى يلفتهم توقّفٌ عند الانجازات الصغيرة الكثيرة التي تتراكم يومياً بين الناس، في أحاديثهم، ما دخل عليها من جديد، وما خرج منها إلى غير عودة. تلك الانتصارات الصغيرة التي تتراكم منذ ما قبل ثورة يناير، تكاد تَسقط عندما يوضع الطموح في اختبار الواقع. لكنها تبقى الأمل بأنها السكّة إلى تحقيق الطموح، تماماً كما ولدت 25 يناير من تسلسل الانتصارات الصغيرة للعمّال والقضاء والصحافة.

شوارع مصر و«كنباتها»

«سي سي قاتل، سي سي خاين». كان المرء يتوقع أن يجد مصر تستقبل الوافدين إليها بصورةٍ واحدة، وأغنيةٍ واحدة، إذ يسكن البال كل ما تم تناقله من أخبارٍ وقصائد ومقالات تتغزل بالسيسي. فإذ بغياب صور الجنرال عن شوارعها، يقابله انتشار لعبارة «سي سي قاتل، سي سي خاين» كتبت بخط اليد على شارات المرور ولافتات الطرق الإعلانية، وعلى السواد الأعظم من الجدران التي عبرتها التظاهرات الإخوانية خلال العزل وبعده. لم يزلها أحدٌ. فترى العين كل حين مجنّداً شاباً يحمل دلواً فيه طلاء أبيض، يزيل به العبارات عن سور منشأةٍ عسكرية ما، بتباطؤ وبتأخرٍ عن موعد كتابتها. تباطؤ ربما تعمّدت الجهات المعنية إحلاله، أو هو حلّ هكذا. كأنهم لا يكترثون.

وعند الإنصات للغة «الكنبة»، يميل المرء إلى الاقتناع بأن حالة السيسي لم تولد مجرّدة، هكذا، بجميل رتبته وبزّته العسكرية، من إدمان الحشد على حكم العسكر، فقط. وإنما هي ابنة سياقٍ لا تتجرّد منه على الألسن الأشد تعصّباً للجيش. الأكثر تعصباً يسألونك عن بديل ما كان. ثم إن الجنرال امتلك ذكاء رئيس المخابرات فلم يخرج على الناس صائحاً بهم كالأب أو الوليّ، وإنما خرج طالباً منهم التفويض، أي السلطة، بحنون الكلام، فلامس النفسية الجماعية المصرية واستقطبها. والعلاقة بين العسكر والناس في مصر ليست بديهية، ولا الهتاف لإنهائها هو هتافٌ سهلٌ بسيط. في كل شارعٍ، منشأة للجيش. في كل ناحية، دار للقوات المسلحة. مبانٍ كبيرة وضخمة، يدخلها يومياً فقراء وأقوياء، مرضى وأصحاء، طالبو حاجة ومنتمون للمؤسسة، شبانٌ بملابس مرقطة يحرسونها، ويضربون التحيّة للأعلى رتبة، منذ قديم الزمان. يسلّمون بحياةٍ تحت سلطته، كشعب عاش لآلاف السنين تحت كنف دولة لا يستحمل فكرة الخروج عنها. فتنمو الحياة حول المنشآت العسكرية مسلّمةً بها، لكنها ستنمو يوماً بالتجاور السلمي بينها، وهو يومٌ يستحق الانتظار. فالإصرار لا يبدو عليه الكلل، ولو أن اللحظة لا تزال لحظة التقاط نفس، لا تزال لحظة تأقلم وتذكّر وترقّب، يجللها فخرٌ خطر.

ميزان الشعب

في حفلة ضمن مهرجان الموسيقى العربية في أوبرا القاهرة، خرج المطرب الثوري الشاب محمد محسن على الناس مستهلاً حفلته بأغنية «يا شايلنكم على الأكتاف»، وهي أغنية خاصة كتب كلماتها شاعر ثوريّ شاب أيضاً، أصبحت مصر تعرف اسمه هو مصطفى ابراهيم، ولحّنها محسن. أغنية بلا موسيقى، أنهاها وفاز بكثيف التصفيق، قبل أن يحيي والدة الشهيد خالد سعيد، معتبراً حضورها شرفاً له. احتد التصفيق، ووقف الناس جميعاً ينظرون إلى ناحية رصدوها فيها، حتى نهضت هي بتعب السنين وبمساعدة العصا عن كرسيها والناس لا يهدأ تصفيقهم. كانت لحظة تستدرج الدمع إلى العين. في المقابل، وفي ختام الحفلة، خرج من بين الجمهور شاب يهتف لاستمرار الثورة. لم يُسكته أحد، وقد هتفت معه قلّة، بينما الأكثرية مضت إلى الحياة التي تنتظر المرء عادةً بعد السماع الطربي: صمت يخترقه حديث جانبي، حتى عاد صخب المصريين المعتاد إلى باحة الأوبرا. أما الهاتف الشاب فأنهى هتافه ومضى إلى حيّزه ضمن هذا الصخب، برفقة الأصحاب. في هذا المشهد ذي الجمهور الأكثر تسييساً، بدا النبض الشعبي جلياً: التحيّة وقوفاً للأجندة الثورية حتى الساعة، يرافقه هدوء وترقّب لما سيجري لاحقاً. ليس وقت الهتاف الآن، بالنسبة إلى تلك العيّنة الصغيرة من المواطنين. لكن الهمّة لم تبرد، ولا الحق الشعبي بدّل ملابسه ليستكين في «العسكريّ».

في المقابل، تؤمن أكثرية واضحة بأن تدخّل الجيش أدّى إلى حماية مصر من «مستقبلٍ أسود». «ربنا رأف بينا، ربنا أنقذ مصر». من هنا يبدأ كل كلامٍ بين مشتاقين، تراهم يسارعون لسرد تفاصيل ما جرى، الشوارع التي امتلأت بالناس يوم 30 يونيو، السيدات المسنّات أمسكن بآلات تعينهن على المشي ضد «الإخوان»، حتى أنا نزلت، وأنا أيضاً، وأنا فوّضت، وما البديل لديك؟ وتخرج سيدة مسنّة من المنية عن الصوت الإخباري لتثور من جديد ضد ممارسات «الإخوان» في المنية. حرقوا محال المسيحيين، وهي مسيحية. نذهب لنشتكي، نجد أن قائد الشرطة الجديد بات «إخوانياً»، ومحافظ المنية عيّنوه كذلك. حرقوا كنيسة عمرها 1400 سنة بأنابيب الغاز. ويطول السرد والتذكّر، ولولا الجيش لما…

ربط الجيش بفائدته في دورٍ بدا للأكثرية مستحيلاً إتمامه من دون الجيش، هو مدخل الناس إلى حب السيسي. وما المبالغات المنشورة عن فنانةٍ تريده زوجاً وأخرى تحتاجه رئيساً، إلا «أحداث طريفة» في حديث شعبي ما عاد يذهب سواده الأعظم في هذا الاتجاه، على الأقل عندما يتسم الحديث بهدوء السرد وليس بحدّة إشهار التأييد أمام مناهض لدور الجيش. وربط الجيش بفائدته هو دليلٌ على أن مصر لا تصنع فرعوناً الآن، ولكنها لا تزال تتنفس الصعداء من ثقل أو همّ ركبها، وأشعر كثيرين فيها للمرة الأولى بأنها تقف على أبواب نهاية مأساوية.

شيطنة «الإخوان»

لا يعني ما تقدّم أن العلاقة بـ«الإخوان» تتجه نحو الاستتباب في المجتمع. الحدّة عالية. أينما ذهب المرء يصطدم ببرنامج تلفزيوني أو إذاعي يشيطن تجربتهم وأفرادهم وكل ما يمت لهم بصلة. إبداء لاعبين في الفريق «الأهلي» لتعاطفٍ مع «الإخوان» عبر رسم أحمد عبد الظاهر لإشارة رابعة بعد هدفٍ سجّله في نهائي دوري أبطال أفريقيا، جعله لاعباً عرضه النادي للبيع فوراً، وقيل إنه تلقى ربما عرضاً تركياً فأتى التعليق على الراديو: من سيأخذه غير قطر أو تركيا؟ أما تفادي نجم «الأهلي» محمد أبو تريكه التسليم باليد على وزير الشؤون الرياضية طاهر أبو زيد لاعتباره من الفلول، فقد جعل الحديث العام يشدّ نحو تقاعد مبكر لأبي تريكه. لم يشفع لهما ولع المصريين الهادئ راهناً بكرة القدم. وتمضي مسيرة الرفض المدعّم بمواقف المؤسسات الرسمية وغير الرسمية داعمة له، في سكّة يشوبها الخطر: الحديث عن التظاهر بينما «الإخوان» وحدهم يتظاهرون في كل يوم جمعة هو حديث خطر على الحق بالتظاهر، لأن الأكثرية تشدّ اليوم نحو تنظيمه، منعه، سيادة القانون عليه. يحكي «حزب الكنبة سابقاً» عن حشود «الإخوان» المتواضعة كمتظاهرين إما مأجورون بسبب الفقر، أو مغيّبو الوعي بسبب «ماسونية الجماعة» مثلاً. وتأتي تجاوزات «الإخوان» بالضرب أو تكسير الممتلكات العامة خلال تظاهراتهم لتختم النقاش في هذه الحلقة «الكنبية»، بضرورة المنع.

ما سيُبنى على شيطنة «الإخوان» هو استحقاق ينتظر الشعب الثائر في مصر، ونخبه الطليعية. فالناشطون ليسوا في هذا الصدد، ولا حتى دائرتهم الواسعة. شباب يشتد النقاش بهم ولا يحتد، يتساءلون عن مدى سوء المرحلة المقبلة، يتجهزون لها، وتتفاوت نسب التفاؤل والتشاؤم بينهم. يحكون كثيراً عن الدم الذي أريق في «رابعة»، ينقلون لسواهم أخبار طفل غضب من جهاز رنّ بأغنية «تسلم الأيادي»، فضربه رفاق الصف حتى عرفوا أن والده مات في «رابعة». بذلك، تكون محصّلة المواقف من «الإخوان» متأرجحة بين الإدانة التامة المفرغة من أي اعتراف بالنديّة، وهمّ الناشطين تجاه الدم وما سيُبنى عليه. والتفكير ينصبّ على ما ستنتجه المرحلة المقبلة من الصناعة السياسية، على مستوى توازن القوى والرعب بين العسكر، والإسلاميين، والكتلة الثورية. فيبقى السؤال الأبرز: من يقف في وجه السيسي، إذا ترشّح للرئاسة بالاسم الشخصي أو بالصورة المدنية البديلة؟ الافتقار إلى بديل، بعد أفول الرعيل الأول من مرشحي الثورة، هو همّ مدنيّ من هموم الساعة.

اليوم، يمكن القول بأن مصر لا تزال تتنفس الصعداء بعد سنة حكم «الإخوان»، تستعيد تفاصيلها، وتدافع عن خياراتها. ذكريات كثيرة تتنفس: المواجهات الثورية مع «الإخوان» خلال سنة الحكم وخلال تظاهرات العزل، هنا أصيب الصديق برصاص قناصيهم، كانوا شرسين، قنابل غاز، مولوتوف، رصاص آلي، ذكريات كثيرة، بعضها يصبّ في نهر السيسي، وبعضها ينتظر الموجة الجديدة من الحراك. بعضها يجد ضرورة في حكم عسكري لإقفال باب الخروج عن الدولة، وبعضها لا يجد مفراً من حكم عسكري سيواجه يومياً بنقده، شيئاً فشيئاً، بالصعب وبالضروري، حتى يُبعد الجيش عن مؤسسة الرئاسة، وتلك عملية تغيّر وجه مصر، لن تتم في ظرف يومين، سنتين، وأكثر. فهي ثورةٌ بموجات متتالية تبني على الشيء مقتضاه، تعلو وتهبط ومعها نبض شعبٍ يبدو أنه لم يهمد بعد.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى