عن فيلم عمر أميرالاي: كلّ هذا النظام في قرية صغيرة واحدة؟
حسن داوود
لم نشاهد من ذلك الرجل إلّا بعض وجهه، إلّا عينيه وأنفه والجزء الأعلى من شاربه الدقيق. ما تبقّى من وجهه المقترب من الكاميرا إلى حدّ يقرب من الإلتصاق كان مغطّى بالكوفية الحمراء. لم نقطع إن كان هذا ظهوره العاديّ أو إن كان متنكّرا مخبّئا أكثر وجهه. ذاك أنّ مخرج الفيلم الراحل عمر أميرالاي قد قال، مقدّما الفيلم، إن السدود التي أقيمت لحجز المياه، تحت شعار التحديث والإنماء بقيادة حزب البعث، مقبل أكثرها إلى الإنهيار والتشقّق. مّما قاله الرجل المتنكّر، أو نصف المتنكّر، إنّ بيته يقع هنا، في الأسفل، مغموراً بمياه السدّ. وكان هذا كافيا لنا، نحن مشاهدي الفيلم ليثقلنا تخيّل بيت، بل بيوت كثيرة، غارقة هناك في ذاك العمق، خصوصا وأنّ المشهد الذي يملأ الشاشة، يدلّ على وفرة المياه الفائضة. لكن الرجل المعتمر الكوفيّة أضاف أنّ هناك، تحت الماء، ما يتعدّى البيوت، وهي آثار العمائر الكثيرة التي تعود إلى حقبات سبقت التاريخ الميلادي بآلاف السنين. في حسباننا، نحن الحاضرين في صالة العرض، أنّ ذاك الرجوع المديد بالزمن لم يكن ضروريّا. كانت البيوت التي أغرقت كافية لأنّها، قبل أن تتحوّل إلى قاع لملايين الأطنان من المياه، كانت ما تزال الحياة سارية في جنباتها، وهي حياة جعلتنا نؤلّف بعضاً من صورها. كان ذلك الجانب من الوصف العادي للرجل العادي أبلغ مّما قرأنا، في أيّام الفتوّة، من وصف بدر شاكر السيّاب ل “المعبد الغريق”، ذاك الوصف الذي أجراه الشاعر على لسان البحّار العجوز الذي شهد المعبد وهو يغرق والذي راح يحدّث عما رأى “جاحظ العينين مرتعدا”.
وفي فاصل آخر من الفيلم قال صوت إنّهم، هم أهل القرية، كانوا يتنزّهون على ضفّة النهر الذي لم يعد نهرا، بل كتلة ماء هائلة أصرّ عمر أميرالاي أن يضعها أمام أعيننا مرّات، مطيلا الوقوف عندها في كلّ مرّة. أهل تلك القرية، التي جهدتُ لأبقى متذكّرا إسمها، كانوا أقلّ طواعية ليحتملوا ذلك التغيير في حياتهم. أمّا صغارهم، ابتداء من الصفوف الإعداديّة، فكانوا يُملأون، مثلما تملأ البطون، بأمثولات تحملها بلاغة الأستاذ عن أهميّة السدّ، تلك التي تشبّه السدّ بطفل صغير كان أشعث أغبر فقيراً قبل أن يتعهّده سيادة الرفيق بعنايته فينظّّفه ويصفّف شعره ويقلّم أظافره ويكسوه ثياباً جديدة ويزوّده بممحاة وقلم ويضعه على باب المدرسة. تلك البلاغة التي تشبّه النهر بالطفل، الممعنة في الإستطالة إلى حدّ أنّ الولد في الإعدادي ربّما ينسى، وهو بعد في منتصف ذاك “البديع” بحسب ما يسمّي العربُ المحسّنات الكلاميّة، أنّ أحد طرفي التشبيه هو النهر، وأنّ ما يوصف هنا هو طفل فقط لا غير.
وبين ما قاله الأستاذ لتلامذته إنّ حزب البعث عمل كلّ ما في وسعه لتسخير الطبيعة لكي تكون في خدمة الإنسان، وهو، هنا في الفيلم، المواطن السوري. من ذلك أنّ نهر الفرات ذاك قد جرى تحضيره، أي أنّه صار “متحضّرا” بعد أن كان بريّاً تائهاً في أرضه. ومثله الأولاد، أولئك الذين يجري تحضيرهم بفرض النظام عليهم صارماً (وهذا ما أخذه الرئيس حافظ الأسد عن كوريا الديمقراطيّة أثناء زيارته لها، بحسب ما قال مدير المدرسة). أما النظام فأوّله الزيّ الذي ينبغي أن يكون موحداً مقدوداً من أقمشة الثياب العسكريّة ومخاطاً على شاكلتها ومنوالها. وهناك ما يميّز التلامذة تبعاً لصفوفهم، مثلما يتميّز العسكريّون تبعاً لرتبهم، وذلك باختلاف ألوان الشارات على أكتافهم، حيث للصفّ التاسع شارة صفراء ليعرف الأستاذ من فور ما يشاهد التلميذ أنّه في الصف التاسع لأنّ الشارة التي على كتفه هي شارة هذا الصفّ.
هم طلّاب إعداديّون عليهم أن يُنشأوا نظاميّين، ولا سبيل إلى ذلك إلّا أن تمتزج التربية بالتأهيل العسكري. هم يتعلّمون أن يكونوا عسكريين وحصّة ذلك من منهاجهم ساعتان في الأسبوع. لكن، في ما يتعدّى الساعتين، يبدو أنّ كلّ شيء يتعلّمونه مغلّف بالطابع العسكريّ: أناشيد ثوريّة بدل أغنيات الأطفال، تحيّة للقائد وللحزب القائد في حصّة الإستظهار، في ساعة الجغرافيا بلاد العرب أوطاني، في حصّة التاريخ الحزب القائد وحركته التصحيحيّة. كلّهم ينتمون إلى حزب البعث، إلى طلائع البعث أوّلا، ثم ينتقلون إلى مرتبة عمريّة أعلى في التشكيل الحزبي، قال مدير المدرسة. وحين سأله عمر أميرالاي إن حدث ورفض أحدهم الإنضمام إلى الطلائع مثلا، أجاب المدير بأن لا أحد يرفض… لم يرفض أحد حتى الآن، في تلك المدرسة التي قدّم لها أميراي في بداية فيلمه بأنّها قرية من سوريا ، أو بقعة منها، أو عيّنة، أو نموذج، أو… إلخ. وفي هذا المكان- النموذج في الفيلم الذي صوّر صفوفا عدّة، لم نشاهد ولداً مبتسماً، أو ولداً لاهياً في الملعب، أو ولداً يمازح ولداً، أو ولداً يواطئ ولداً، بغمزة عينه، على ولد آخر، ولا التفاتة من ولد، أو مسحة تهكّم على الأستاذ الكثير القابليّة لذلك، كموضوع للتهكّم أقصد. وكذلك لا ابتسامة مهرّبة التقطتها الكاميرا مثلما يحدث، تقريبا، في كلّ مكان من أمكنة العالم. كما أنّنا لم نشاهد أولاداً يلعبون الكرة في الملعب، حتى أنّنا لم نشاهد أولاداً في الملعب أصلا إلّا وهم يؤدّون قسَمَ الولاء قبل الدخول إلى الصفوف.
هناك في الأسفل، تحت ذلك النظام الذي لم يترك فسحة تنفّس لمن ينظّّمهم، كان السدّ قد بدأ بالتشقّق قاطعاً شوطاً، بل أشواطاً، نحو انفجاره. لن يستطيع شيخ الضيعة أن يفعل شيئا فالسدود هي من الإنشاءات التي لا يمكن إصلاحها بعد اتّساع شقوقها. كما أن الحداثة العلميّة في القرية ما تزال في بدايتها، أو في ما قبل بدايتها، طالما أن جهازي الكومبيوتر اللذين أُرسلا “مكرمة” من القائد ما زالا في صندوقيهما، وإن جرى تزيين الصندوقين من الخارج وخّصّصت لهما غرفة يحظّر على الجميع دخولها، باستثناء المدير. أما شيخ القرية، عمّ المدير، فباقٍ في منصبه عضوا بمجلس الشعب منذ 53 سنة. هو الأوّل في ذلك، عالميّا كما قال. في فترة سبقت كان هناك نائب بريطاني أقدم منه عهداً، لكن ذلك كان وهو في السنة الثامنة والأربعين لخدمته، الآن هو الأوّل، باق على ولائه لرئيسه، بالروح بالدمّ.
لا أعرف كيف استخرج الصديق الراحل عمر أميرالاي الضحك من هذه المرارة. لم يفعل ذلك جورج أورويل في روايته 1984، ولم يفعل ذلك فرانز كافكا في “المحاكمة”. لم يكن الإستلاب تهكميا في أيّ من الروايات أوكتب الأدب. في كلمته إلى الجمهور اللبناني، التي قرأها أحمد بيضون، سأل أسامة محمّد في أيّ المرايا كان ينظرعمر أميرالاي فيما هو يصوّر تلك القرية وأهلها. ونحن، اللبنانيّين، رحنا نتساءل عن مكابدة أخرى عاناها أميرالاي فيما هو يصّور كلّ مشهد في الفيلم ويسجّل كلّ جملة تُقال: أيّ قدر من الشجاعة تطلّب ذلك، في بلد ما زالت أحداثه ترينا كيف أنّ كلّ خروج عن خطّ الإنضباط خطر ومهلك. وقد سبق لنا أن سألنا أميرالاي، هنا في بيروت حين عرض لنا فيلمه هذا لأوّل مرّة: هل أكيد أنّك راجع إلى هناك؟ وهو قال إنّه راجع، هو وصديقه ياسين الحاج صالح الذي لم يكن قد فات وقت طويل على خروجه من سجنه المديد.
ولكي نبتكر نحن، بدورنا، فكاهة من المرارة، رحنا نقول إنّ بطلي الفيلم، وهما مدير المدرسة وعمّه عضو مجلس الشعب قد أعجبا بالفيلم حين شاهداه. بل وإنّه لقي استحساناً من مسؤولين يفوقانهما ذكاء، إذ وجدا فيه دعاية ناجحة عن الإندماج بين الشعب وقيادته.
[ فيلم عمر أميرالاي عُرض مساء الثلاثاء 7 حزيران مع فيلم أسامة محمّد “نجوم النهار”، إضافة إلى شريط قصير لمجموعة “أبو نضّارة” في صالة دوّار الشمس بمستديرة الطيّونة بيروت. في المناسبة التي أقامها الكتاب والفنّانون اللبنانيّون تضامناً مع الشعب السوري ألقت هالة عبد الله كلمّة مؤثّّرة عما يجري الآن هناك.
المستقبل