عود على بدء…/حازم صاغية
مع انطلاق الحرب الأخيرة على تنظيم “داعش”، بدأت تتعالى أصوات عروبيّة الهوى يؤرّقها الوقوع بين مطرقة “داعش” وأخواتها وبين سندان الولايات المتّحدة الأمريكيّة. فأصحاب هذه الأصوات يكرهون “داعش” بسبب تخلّفها وظلاميّتها وطائفيّتها، لكنّهم، في الوقت نفسه، يكرهون أمريكا لأنّها أمريكا الإمبرياليّة إيّاها.
وقد عبّرت هذه الأصوات عن مكنوناتها بأشكال شتّى في عدادها الدعوة إلى رفع “العروبة” عالياً والافتخار بها في مواجهة الطرفين المتعاديين، والرهان على “حلّ عربيّ” يقينا خطر “داعش” من غير أن يعرّضنا لخطر أمريكا، واستعادة أزمنة العزّ الناصريّ بعد تشذيبها من “أخطائها” حيال الديمقراطيّة واستحضارها في أبهى حلّة ممكنة. ولم يخل الأمر من زفرة تآمريّة حلّت المشكلة بالقول إنّ “داعش” صنيعة أمريكا لتفتيت العرب، وإنّ الحرب بينهما ليست أكثر من لعبة لخداعنا وتمويه الحقيقة عنّا.
والحال أنّ عزلة أصحاب الأصوات هذه تشي، لا بضعفهم هم فحسب، بل أيضاً بضعف ما يدعون إليه ممّا لا يحمله غيرهم على محمل الجدّ. والضعف ليس عيباً بالتأكيد. العيب هو عدم الانتباه إلى الصلة الوثيقة بين ذاك الماضي الذي شهد سيادة النزعة العروبيّة المرتجاة وهذا الحاضر الذي يضجّ بـ “داعش” ومثيلاتها. وهذا علماً بأنّ نظاماً كالنظام السوريّ يسهّل على من يريد الانتباه أن ينتبه، تبعاً لتفرّع النظام المذكور، الذي لا تُفهم “داعش” من دونه، عن “حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ” الذي ولد ونشأ وحكم بوصفه أهمّ التعابير التنظيميّة عن العروبة تلك.
وعلى العموم، يبقى لنا أن نتساءل: هل كان للإسلام السياسيّ الراديكاليّ أن يظهر وينمو لولا المرحلة القوميّة؟
فأوّلاً، تسبّبت تلك العروبة بعدد من الحروب والهزائم التي لم تقتصر على هزيمة 1967، وإن كانت هذه أكبرها وأخطرها. لكنْ لأنّ تلك الحروب والهزائم المذكورة جاءت بعد إطلاق وعود كاذبة أو مضخّمة عن إقامة الوحدة وتحرير فلسطين، فإنّها فاقمت الإحباط العامّ متيحةً للإسلام السياسيّ أن يتقدّم بوصفه الطرف الذي يردّ على الإحباط ويقلبه إشباعاً.
وثانياً، عملت الأنظمة العروبيّة إيّاها على إضعاف الحساسيّة الوطنيّة للبلدان العربيّة لصالح حساسيّة قوميّة متوهَّمة (ما لبث أن تبيّن لاحقاً أنّها غطاء لولاءات طائفيّة أو جهويّة صغرى). وغنيّ عن القول، لا سيّما بعدما أطاحت “داعش” بالحدود السوريّة – العراقيّة وأعلنت دولة الخلافة، أنّه ليس في الوسع تعقّل الحركات الراديكاليّة للإسلام السياسيّ بعيداً عن هذا العداء للوطنيّات والبلدان وحدودها.
وثالثاً، أسّست الأنظمة العروبيّة، عبر تضخيم أجهزتها الأمنيّة واستهتارها الفادح بحقوق الإنسان، للقمع المفرط بوصفه مادّة التبادل الأولى مع السكّان المحكومين. وما من شكّ في أنّ قمعاً كهذا، معيقاً لتطوّر المواطن ونازعاً لإنسانيّته وأحياناً لحياته ذاتها، شكّل أحد مصادر الوعي والردّ الإسلاميّين الراديكاليّين على المنظومات السياسيّة والأمنيّة والإيديولوجيّة للقوميّين.
ورابعاً، عمل العروبيّون في مصر كما في سوريّا والعراق على تديين المجال العامّ بعد مصادرتهم للمؤسّسات الدينيّة ولخطب الجمعة، وذلك للتعويض عن فتكهم بالمعارضين، لا سيّما منهم الإسلاميّين، وعن مصادرة كلّ تعبير أو نقاش خارج الحيّز السلطويّ. كذلك ففي توكيدهم على وحدة الأمّة النابذة للخصوصيّات المذهبيّة أو الإثنيّة والنافية لها، دفعوا أصحاب الخصوصيّات المحتقنة إلى تطويرها في السرّ وتحت الأرض. واليوم سيكون من العبث أن ندرس “داعش” وأخواتها من دون الدور الذي لعبه هذان التديين والتطييف.
وأخيراً، لم يكن الحصاد الاقتصاديّ والتعليميّ البائس للأنظمة القوميّة غير سبب آخر من أسباب الإقبال على الحركات الدينيّة المتطرّفة. يصحّ ذلك في تعميم الفقر وضعف التنمية، خصوصاً بعدما طويت صفحة التصنيع الثقيل البائس، كما يصحّ في تردّي المدرسة والجامعة وتعميم التجهيل، لا سيّما وقد هاجر كثيرون من المتعلّمين، وبالأخصّ منهم الملمّون باللغات الأجنبيّة.
وبعد ذلك يأتي من يقول: علينا بالقوميّة علاجاً من الإسلام السياسيّ الراديكاليّ! والمقصود فعلاً تكرار ما شهدناه مرّة أخرى من أجل أن نصل ثانية إلى “داعش” جديدة.