فرانز كافكا: كتاب موسّع عن سيرة حياته/ يوسف يلدا
كرّس راينر ستاك أكثر من عشر سنوات من حياته للبحث عن كل ما يتعلق بفرانز كافكا. وقد أثمر جهد المؤرخ الألماني عن عمل شامل حول حياة الكاتب التشيكي بكل تفاصيلها.
كافكا والأدب
“عندما كان الأمر يتعلق بالأدب لم يكن مستعداً لقبول أي حل وسط، فقد كان كل كيانه متأثراً به. لم يكن يريد بلوغ جوهر الأشياء، لأنه هو ذاته كان يمثل الجوهر”. بهذه الكلمات، وبدقةٍ تامة، تصف دورا ديامنت، المرأة التي أحبت ووقفت إلى جانب فرانز كافكا حتى رحيله عن عالمنا، في مصحة كيرلنغ بضواحي فيينا، مزاج أحد عباقرة الأدب في كل العصور. وتشير دورا، وببساطة شديدة أيضاً، إلى ماذهب إليه هذا البحث الدقيق والفريد “كافكا”، الذي وضعته دار نشر (أكانتيلادو) الإسبانية في متناول يد القراء مؤخراً.
قالت: يهودي
لكن قبل أن نتوجه إلى لُبّ الموضوع، لنتوقف قليلاً عند شكل هذا الكتاب الذي يتحدث عن مؤلف (المسخ). ومن أجل ذلك، سوف نستعين بموقفٍ آخر، وهذه المرة برسالة كتبها كافكا شخصياً إلى شقيقته إيلي في 4 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1923. كان كافكا يعيش حينذاك في برلين. أخيراً، كان قد “تحرر من مخالب مدينة براغ”، مثلما كانت رغبته الأكثر خصوصية، مذ كان مراهقاً (كان يودّ أن يعيش في برلين وهو يكتب). لكن بعد مرور بضعة أشهر، مع بداية عام 1924، عانى من أزمة مرضية إضطرته للعودة إلى جحيم منزله. حسناً، في إحدى رسائله القليلة التداول، حتى من لدن المتخصصين في أدبه وحياته، والتي أخرجها ستاك أخيراً إلى العلن، يكتب ما يلي: “مؤخراً عشت تجربة عاطفية. كنت جالساً في يوم مشمس في حديقة، عندما مرّ صفّ لطالبات إحدى المدارس بالقرب مني. وبين طالبات المدرسة كانت هناك فتاة مراهقة وجميلة، طويلة وشقراء، إبتسمت لي بدلع، ولوت شفتيها صارخة نحوي. وبطبيعة الحال، أجبتها بإبتسامة مزدوجة عندما إلتفتت وأرسلت نظرها بإتجاهي، هي وصديقاتها. وكنت قد أدركت حقيقة ما قالته بحقي. قالت: يهودي”.
تقنيات سينمائية
لا نود أن نؤكد على حقيقة أن كافكا، مثل الكثير من الكتّاب الكبار (هي قائمة لا تنتهي)، كان نسخة من “رجل إيروتيكي”، ولا حقيقة أنه صورة للحالة الذهنية الخاصة بالمواطن الألماني في ذروة العشرينات من القرن الماضي. بل نود التطرق، بإقتضاب، إلى الإسلوب الذي سار عليه راينر ستاك في كتابة هذه السيرة في “كافكا”. الجزءالأكبر والمثير في الكتاب، وسهولة قراءة 2.400 صفحة، تأتي، كما يبدو، من حقيقة أن كاتب السيرة، من أجل عرض هذا الكم الهائل من المعلومات، كان قد إستعان بالتقنيات السينمائية.
لقد بدا وصف قصة”حب” كافكا للمراهقة، على الرغم من توجيه الشتائم إليه وأهانته، بشكلٍ عشوائي ومن دون أن تدرك ما كانت تفعله، بدا كما لو كان مشهداً حقيقياً. وستاك ذاته قد تحدث عن “سرد مسرحي” إشارة منه إلى إسلوب روايته. ولكن تبقى هناك الكثير من المشاهد السينمائية التي قام المؤلف بتوظيفها بصورة مستمرة: إبتداءاً من تلك اللحظات لتي تخللت صفحات الكتاب، مجسدة على شكل لقطاتٍ عالية الوضوح، مع إستخدام برنامج “الزوم”، أو صور بانورامية واضحةً جداً.
ولا يمكن أن ننسى أيضاً أن عمل ستاك برمته، إلى جانب مجموعة الكتب الثلاثة، له شكل بدايات لفيلم (نشر في المرة الأولى ما يتعلق بالمرحلة الحاسمة من حياة كافكا تحت عنوان “السنوات الحاسمة” في عام 2002)، مع جزء (يعود إلى السنوات الأخيرة وحتى وفاته، بعنوان “سنوات المعرفة” في عام 2008)، وأخيراً، صدر الجزء الخاص ببداية حياة كافكا، بعنوان “السنوات الأولى”، في عام 2014).
أن اللجوء إلى إسلوب السرد الفلمي يبدو مفيداً لمتابعة القارئ، ويعمل على تغيير منظوره، ويجعله مساهماً حيوياً في القصة التي ربما قد لا تكون دائماً مثيرةً، وتعود لكاتب رمادي من أوروبا الوسطى.
بحث شامل
وكما هو الحال بالنسبة للملاحظتين المذكورتين في بداية هذا المقال، عن المئات من الفصول التي يحتويها الكتاب، تبدأ الأغلبية الساحقة بنصٍ، يخدم أكثر بكثير من كونه شكلاً، الذي يعمل، وبفضل الإمكانات غير العادية للناقد ستاك، كمنارة تسلط ضوءاً قوياً وساطعاً على ما سوف يرويه لنا. وسيؤدي بنا هذا النظام إلى نقطة أخرى، تعدُّ جوهرية، وهي تحويل الكتاب إلى مصدر لا غنى عنه للقارئ، بالنظر لإحتوائه على الكثير من الجوانب الإنسانية والشؤون المعرفية.
وأيضاً، من الضروري التأكيد على الوضوح الفكري لدى ستاك فيما يتعلق بتأريخ الكتاب، والذي لا يتردد لحظة في الكشف عنه منذ البداية. أن العراقيل التي واجهها مشروع كتابة سيرة كافكا، والتي وصلت ذروتها في 1995، بسبب من صعوبة الإطلاع على إرث الكاتب الذي كان بحوزة ماكس برود، حالت دون تدوين السنوات الأولى من حياة الأديب. لذلك، إعتماداً منه، وبشكلٍ أساسي، على النسخة النقدية التي أصدرتها دار إس. فيشر للنشر عام 1982، راح ستاك يعمل جاهداً لتدوين الفترة ما بين 1910 – 1915، على أمل ان يتمكن من الإطلاع على أرشيف برود لاحقاً. لكن الأمور لم تتخذ هذا المسار فيما بعد. إذ، لا تزال هذه المواد بعيدة عن متناول يد الناس، كونها تواجه سلسلة من الدعاوى التي لا داعٍ ولا نهاية لها.
رغم ذلك كله، وبعد نحو عقدين طويلين من السعي الدؤوب، يتمكن ستاك من الوقوف عند الوقت المناسب، متجاوزاً الصعوبات وممسكاً بالخيوط الأولى للبداية، بدءاً بتأريخ العائلة، الولادة والسنوات الأولى من حياة كافكا. ومن وسط هذا الضعف، إكتسب كاتب السيرة قوة هائلة.
المشهد الكافكوي
كنا أشرنا في مناسبتين إلى الخلفية التي إستندت أجواء الكتاب عليها، والتي من وجهة نظرنا، كان ستاك قد إستطاع سردها بشكلٍ عميق. وعلى سبيل المثال، الفصل 23 من الجزء الثالث “خصوصية الأسطورة: القلعة”. ما هو الكافكوي في جوهره؟. لماذا ينبغي لنا أن نعرف كافكا؟. ماذا يمكن أن نتعلم منه؟.
كان يجب العودة إلى الفصل المذكور، أو إلى الكتاب بأكمله، من أجل أن يخرج القارئ بمحصلة جيدة عن أهم جزء في هذه السيرة، لكن يمكن إختصار ذلك بالشكل التالي: يتعلق الأمر بالعثور على خصوصية في وجود خيط رفيع بين ما كان كافكا يطلق عليه الحياة (إلتزامات الفرد لنوع ما، وتطور العلاقات الأسرية، التعايش القائم على الإعتداء على الآخر)، والأدب كمعرفة ذاتية وتأملية، والرغبة الجامحة للتناغم الأبدي ولما هو جيد
ايلاف