صفحات الثقافة

فصـــل الفصـــول


نبيل سليمان

على العكس من أي استراتيجي عتيد، إذ يتهيأ إلى أمسية متلفزة ومفسبكة وما أدراك، أي بالضبط، كما تفعل قارئة المستقبل ماغي فرح، إذ تتهيأ إلى أمسية مماثلة، سوف أفعل، مذكراً بأن قارئة الأبراج أو قارئة الفنجان أو الفلكية المدعوة زرقاء اليمامة، هي ـ والحمد لله ـ أكبر شأناً وخطراً في الفضاء العربي من أي محلل أو مفكر أو مخطط استراتيجي، وبخاصة في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة: ماذا بقي إذاً؟

[[[

تأكيداً للتواضع، أي للدقة والمعقولية، أبدأ بمستقبلكَ الشخصي، فأرى الخطر على حياتكَ يتفاقم. أنتَ لن تخرج في تظاهرة، أجزم جزماً، وأنتِ لن تكتبي مقالةً شجاعة في جريدة محرمٌ عليها دخول البلاد، وأنتَ ستزداد تقوقعاً في الجامعة، ليس خوفاً من شتيمة أو لكمة بريئة يتفضل بها عليك طالب أو زميل، كما كان الأمر من قبل، بل خوفاً من مقتلة، كالذي كان للتو في كلية الهندسة الميكانيكية، ولذلك ستحكم إغلاق مكتبك، وستزدادين تقوقعاً في المنزل مساء، كيلا يعلو صوت صديق في سهرة ـ وليس صوتكِ أنتِ ـ منتقداً انقطاع الكهرباء أو عمل لجنة الدستور أو… فيكتب أي نادل أو زبون في الطاولة المجاورة تقريراً ما عاد يهم أحداً، وأنتَ متيقن أن عهد التقارير الأمنية قد ولّى، لكن خوفكَ لا ينقص، بل هو يزيد، ولذلك ستنفخ على اللبن وإن يكن الحليب لم يحرق بلعومكَ ولا إصبعك. وعلى الرغم من كل ذلك فإن الخطر على حياتكَ يتفاقم، أجزم جزماً، والله أعلم: لماذا؟

لأن شاباً من شباب الحارة الذين تضطرم وطنيتهم اضطراماً، سوف يبادركِ بشتيمة ذات ظهيرة وأنتِ عائدة من عملكِ في مؤسسة الأعلاف. وإذا تجرأتِ وحاولتِ أن تتأكدي من أنه يقصدكِ ـ على الرغم من أنكِ متأكدة ـ فسوف يبادركِ بلطمة. وهذا كله أهون بألف مرة مما ينتظركَ عندما ستعود إلى قريتكَ لتشارك في أربعينية ابن عمكَ الذي استشهد في كمين نصبته له ولرفاقه مجموعة مسلّحة من المجموعات الأكثر فتكاً، والتي ستزداد فتكاً. ولكن هذا أمر آخر في قراءة المستقبل أو البرج أو الفنجان أو الاستراتيجيا. وسيأتي دور هذا الأمر بعد أن تعود أنتَ من الأربعينية مجللاً باللعن والطرد، ومدمّى الخدين بالصفع، ومحــطم الأضلع بالرفس. لماذا؟

إذا كنت لا تعرف سبباً فأنا أعرف أسباباً كثيرة، ليس بينها ما هو معروف من ماضيكَ الناصع ولا من لسانكَ النقاد. ولكن في رأس الأسباب أنني أريد لمستقبلكَ أن يكون أكثر بهدلةً لك من حاضرك ومن ماضيكَ، لعلكَ تقضي فتريح وتستريح. والموت إذاً هو ما أتنبأ لك به لأنكَ لن تستعيد شبابك ولا شجاعتك، ولن تقف إذاً، ضد كل هذا الذي يعصف بدنياك من دمٍ أو زورٍ أو وحشية أو خراب.

في مستقبلكَ الشخصي أيضاً أرى أكثر من صداقة حميمة لك مع أحدهم أو إحداهن، سوف تتصدع، مثلما سيتفاقم تصدّع الصداقات الذي اطّرد في الربيع العربي باطّراد الانقسام بين المواليات (جمع خاطئ للموالاة) والمعارضات، وسواء أكانت الموالاة لحزب أو لطائفة أو لنظام أو لقائد، أو كانت المعارضة داخلية أم خارجية أم إسلامية أم علمانية…

ولسوف تتسنّم صديقةٌ لكِ منصب وزيرة الثقافة تحديداً، مثلما تسنّم صديق لكَ بالأمس المنصب نفسه. فلما عاتبته أو اعترضت على فعلته عدّكَ الصديق الخائن والمزاود. لكن ذلك كله لا يساوي قشرة بصلة قياساً إلى ما هو قادم في المستقبل الأهم والأعم، والذي سأنتقل إلى حديثه، ولكن بعد أن أبدّل دور ماغي فرح بدور أي استراتيجي عتيد في أمسية مُتَوْتَرَة (من التويتر) ومفسبكة (من السباكة)، وليس من الفيسبوك.

بادئ ذي بدء لن تنجز هيئة التنسيق السورية والمجلس الوطني السوري وحدتهما ولن يتوحدا في برنامج أو موقف. وإذا كذّبت الأيام المقبلة ذلك، فسوف تعود فتصدقه. وبينما هي تكذّبه وتصدقه سوف يتشقق المجلس الوطني السوري، كي يكمل الإخوان المسلمون ومن لفّ لفّهم الهيمنة عليه، وكي يبقى الصوت المطالب بالتدخل العسكري الخارجي مجلجلاً، بينما ترتّج هيئة التنسيق حيرة وعجزاً وتواضعاً وأحلاماً. وإذا كان الداخل السوري سيضيق بحزب التضامن وحزب الأنصار وحزب الطليعة التقدمي وما أدراك من الأحزاب التي سيولّدها قانون الأحزاب، فإن الخارج أيضاً سيولّد حركة أو ائتلافاً أو حزباً وما أدراك، مما يزيد العرض في السوق، فينزل الأسعار، كما سيزيد المعارضات شرذمة ونقيقاً. أما ما هو أهمّ من كل ذلك فليس إلا استشراء العنف المسلّح، وازدهار تجارة وتهريب السلاح، وتدافع الأصابع التي تلعب بالحرائق السورية حتى لا تبقى منجاة من حريق. ولهذا سيكون عليكِ أن تحذري جداً جداً من محاولة اغتيال، أو من عبوة ناسفة، أو من قذيفة، كما عليكَ أنتَ أن تحذر من أن يتعنون كل ذلك بالطائفية. ولكيلا يقول أحد إنني صرت بومة أدعوكَ وأدعوكِ إلى الضحك من طرفة كنيسة المهد في فلسطين الحبيبة، حيث تعارك مئة كاهن بالمكانس والأحزمة، وأدموا بعضهم بعضاً، وكان سيقع منهم قتلى لولا أن حضرت الشرطة الفلسطينية الحبيبة، ولجمت الإخوة الأعداء الذين تقاسموا كنيسة المهد بحسب مشيئة طوائفهم، حتى قبل أن يولد الطفل، وسوف يزداد كاهن أو أكثر طمعاً بحصة صنوه من الطائفة الشقيقة، لتنشب في العيد القادم معركة أدمى، حتى لكأنك في العراق الديموقراطي المحرر، أي في العراق الطائفي، ولست في فلسطين التي لن يتوحد جناحاها في غزة والضفة. لماذا؟

لأن لهما في المعارضات السورية والمصرية أسوةً حسنة، والعكس صحيح. وعلى ذكر مصر، فهذا الاستراتيجي العتيد الذي يسوق نبوءاته هنا، يدعو المعارضة المصرية غير الإسلامية، إلى أن تحمد الله، لأن الإسلاميين ورثوا مبارك. فما يعقب انتصار الثورة، أمرّ وأدهى، فكيف إذا كان ما تحقق ربع انتصار؟ ولا يفوتكَ هنا أن تتنبه إلى فوز الإسلاميين القادم في الانتخابات الجزائرية الربيعية، وهو الفوز الذي لن يصادره العسكر هذه المرة، لأن التراب الجزائري ارتوى بالدم، ولأن الموضة هي موضة الفوز الإسلامي الانتخابي، كما كان للتو في تونس وفي المغرب، وكما سيكون في انتخابات مجلس الشورى المصري. أما انتخابات مجلس الشعب السوري الموعودة قريباً على هذه الشاشة المهشمة والمغبشة، فإذا ما تمت، فستقدم للربيع القادم بدعتها، فسوريا، كما ثبت بالدليل القاطع، هي غير تونس وغير ليبيا وغير الدنيا كلها. لكن ما يفسّر هذه المعجزة، كما يفسر المعجزة اليمنية أو البدعة اليمنية الربيعية، هو أن الربيع العربي فصل الفصول حقاً، ولست أعني أنه سيدها، بل هو جامعها، ففيه الشتاء والخريف والصيف.

في فصل الفصول ـ مثلاً ـ هوذا خريف علي عبد الله صالح الذي لن يبرأ من علله الرئاسية والجسدية في الولايات المتحدة، وسوف يخضع وأسرته للمحاكمة في صنعاء، مثله مثل مبارك وأسرته في القاهرة. وفي فصل الفصول ـ مثلاً ـ هوذا الشتاء السوري الذي سيتطاول ويتفاقم صحوه ودفئه كما سيتفاقم طوفانه وزمهريره. ولا أظنكَ بحاجة إلى أمثلة أخرى، بل أنتِ وهو وأنا بحاجة إلى أن نفعل ما يسعنا فعله، مهما صغر وتواضع، كي يتعزز فصل الفصول، وإلاّ، فسوف يكون عليكَ وعليها وعليَّ أن نسمل عيوننا، كيلا يصدق حرف مما تقدم. ولنا في زرقاء اليمامة أسوة حسنة، إذ سملت عينيها كيلا ترى ما نحن فيه، ولا ما نحن مقبلون عليه.

(روائي وكاتب سوري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى