قابلية المذهبية للحياة/ دلال البزري
المستقبل القريب يحمل معه إلغاء للحدود الوطنية، المعروفة بحدود سايكس بيكو، وقيام كيانات جديدة بديلة عنها، قوامها وحدة المذهب أو العرق؛ سواء ربح”داعش” أو ذاك الائتلاف الدولي الملتبس، بقيادة اميركا، نظرياً على الأقل. بما ان المشرق لا يعرف ديناميات غيرهما؛ لا حركات شعبية فيه ذات توجهات علمانية، أو تقدمية، أو حتى ديموقراطية بصيغتها الفضفاضة. ولنفترض الآن بأن هذا المستقبل تحقّق، وبأنه صار للسنة والشيعة والعلويين والكرد “دولتهم”… وربما المسيحيين والايزيدييين والشبك والإسماعيليين والبهائيين… على ما ينطوي عليه هذا الإحتمال من إستحالة، يتفوق عليها احتمال ان تضم هذه المجموعات المذهبية الدينية الى هيمنة الأكبر حجما وقوة من واحدة من هذه المذاهب الكبرى المنخرطة في هذه المعركة. كيف تكون اللوحة في هذه الحال؟ نوع من “الاستقرار” الأمني القائم على ترسيخ قوة المنتصر، وأي منتصر في هذه الحالة سوف يكون قد ألغى الحدود الوطنية بحكم الحرب نفسها، ميدانها واستهدافاتها، فضلاً عن توسع حدود الدولة الكردية، من كردستان سوريا، وربما تركيا أيضا، على أنقاض سايكس بيكو. سوف يكون للكرد “دولتهم”، وكذلك الشيعة والسنة والعلويين والكرد. دول قائمة على العصبية المذهبية أو العرقية.
إذن الجميع لمْلم نفسه، وبعد حروب ودمار، أسسوا دولتهم الخاصة بهم، التي تمثلهم وتحتضنهم وتشبههم. ساعتئذ، سوف يكون على كل دولة أن تدير شؤونها الداخلية بما توفر لديها من تصورات وأفكار حول طريقة إدارتها لحكم نفسها بنفسها. الكرد في ما بينهم سوف يكون عليهم ان يحلوا مشكلة التفاوت والغربة بين كرد العراق وسوريا وتركيا، ويتطلعون ربما إلى كرد إيران. ناهيك عن مشكلة الأحزاب الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، خصوصا تلك التي خاضت المعارك ضد “داعش” وانتصرت عليها. “دولة الخلافة” السنّية سوف ترسخ قدميها، وربما تتوسع شمالاً وغرباً، وبعد أن تكون قد طردت، حرفياً، أبناء كل الديانات والمذاهب الأخرى، أو قتلتهم، أو هدتهم الى السنّة “الصحيحة”؛ لن يبقى تحت حكمها سوف سنّة أقحاح، يتفاوتون بين سنة العراق وسوريا وربما لبنان وبعض من فلسطين، فضلا عن قبائلهم وأفخاذهم، لكل منهم كيانه السابق، هويته، ذاكرته، مصالحه التي لم تضمحل. وبينهم جهاديون متنافسون، وسلفيون وصوفيون وإخوان… جميعهم ينشد “الإسلام الصحيح”، ويعتبر الآخر، في سرّه وعلانيته، “زنديقاً”. أما حكم الشيعة، ولو بالقيادة الإيرانية، الحكيمة، البارعة، فسوف يجد ديناميكياته المحلية تضغط على درجة صراعاته، فيكون الصراع الداخلي قائماً بين شيعة العرب وشيعة العجم، بين شيعة الجنوب وشيعة البقاع، بين شيعة الصدر وشيعة المالكي الخ. والأمر نفسه ينطبق على الدولة العلوية، التي سيخوض أبناؤها صراعاً حول أثمان التقسيم والمتضررين منه، الفقراء والأغنياء، المهاجرين والأنصار… وهنا لا نتكلم إلا عن ابناء المذاهب الأوفياء، أصحاب العصبية المنشودة، لا ليبراليين فيها، ولا ملحدين ولا علمانيين ولا نساء أو نسويات.
بداهة ان الصراع السياسي من صميم المجتمعات والدول، بل من صميم بديهياتها. ولكن الصراع الذي سوف يندلع بين مكونات الدولة المذهبية الواحدة لن يكون كغيره من الصراعات التي تعرفها كل المجتمعات، حتى غير الديموقراطية منها. فالسؤال المطروح عليها هو: كيف سينظَّم الخلاف داخل هذه الدول؟ الجواب البائن حتى الآن انه لن يكون هذا الخلاف إلا صراعاً دموياً. الخارجون من معركة قيام هذه الكيانات بالنار والحديد لن يرموا سلاحهم لمجرد تحقيق آمالهم. القسمة في الحكم سوف تكون طبعا لصالحهم، ولن تكون عادلة ولا قانونية؛ سوف تسير بمنطق الغلبة نفسه، ولن تعرف اقتراعاً غير الزائف منه، وقد تكون “الشورى” العتيدة عنوانه؛ خصوصا انها لن تجري إلا بين “أولياء الأمر”، أي الذين استولوا على الحكم بقوة السلاح. والفئات “المستضعفة” في هذه الحالة سوف تلجأ الى قوة خارجية تؤازرها على طغيان “أولياء الأمر” هؤلاء، وسوف يكون سهلاً اندلاع الإشتباكات بداية، ثم دورة حضارية جديدة من الحروب… ليتبيّن في النهاية بأن جحيم الدول القائمة على العصبية الواحدة، ذات القوة العارية الباطشة، لا ينهيه سوى ديكتاتور يمسك صراعاتها بيد من حديد، يؤمّن الإستقرار، ولو على حساب كل شيء. ويكون الدرس غير المفيد ساعتئذ بأن الصراع الدموي من أجل عصبية ما لا يبني غير صراع دموي آخر، دورات طويلة أو قصيرة منه، تمتد على عقود، تهترىء فيها الناس، وتتراجع حياتها الى ما دون ما كانت تراه في كوابيسها أيام الدولة الوطنية التي أقامها الإستعمار الأوروبي الآفل
المدن