قرعة جرس لكائن جميل لرفيق شامي… اللغة كائن حيّ يولد من أعماق الإنسان
عبدالله أحمد
صدر أخيراً عن منشورات الجمل كتاب «قرعة جرس لكائن جميل» لرفيق شامي، وهو كاتب مهجري يتحدر من أصل آرامي (من بلدة معلولا السورية). تعلم الفرنسية في لبنان والإنكليزية في دمشق، وهاجر إلى ألمانيا حيث تعلم اللغة الألمانية وأتقنها وحولها إلى لغته الأدبية. برز اسمه في العقدين الأخيرين في الأوساط الأدبية العالمية كروائي، وقد تُرجمت رواياته إلى أكثر من 24 لغة وحازت جوائز عالمية عدة.
في كتاب «قرعة جرس لكائن جميل» الفريد والأول من نوعه، يقرع رفيق شامي جرس الخطر لينبه من نام على الكوارث المحدقة بلغتنا التي عشقها كاتبنا. يقرع الجرس ليس كواعظ ممل ولا كخبير متكبر، بل كروائي يشرح أصعب المفاهيم بطريقة مشوقة تقتحم بذكائها العقل وتربط القلب بتشويقها عبر قصة الأمير الذي رافقه في رحلته عبر روابي اللغة وأدغالها. لكن كيف يقوم روائي يعيش منذ 40 سنة منفياً عن بلاده بعمل كهذا، وكتابنا الفطاحل لا يعنون بذلك وهم يعيشون في أحضان لغتهم؟ لهذه المفارقة أسباب كثيرة سيفهمها من يقرأ هذا الكتاب.
يعتقد شامي أن اللغة يمكنها أن تعيش قروناً من دون أبجدية لأن عطاءها وحتى تطويرها يمكن أن يتم شفاهياً، وهذا ما أنتج أكثر من ستة آلاف لغة على كرتنا الأرضية على امتداد مئات القرون، قبل اختراع الأبجدية وبعدها وحتى يومنا هذا. فالأبجدية ليست بحد ذاتها الوسيلة الوحيدة لتسجيل اللغة لكنها، الأفضل من بين الوسائل الأقدم كافة، التي تعتمد على الرسم والرمز. فبينما تتطلب الكتابة بالصينية إتقان آلاف الرموز يمكن للأبجدية، وبعدد بسيط من الأحرف التعبير حتى عن أعقد الأمور النظرية والفكرية. الأبجدية العربية تتحدر من الفينيقية مروراً بالآرامية والنبطية. والخط يمكن تسميته بشكل شاعري ظل الكلمة على الأرض أو بشكل علمي فيزيائي جسد اللغة المحسوس.
يضيف شامي أن اللغة كائن حي يولد من أعماق الإنسان وينمو على آلاف الألسنة وفي آلاف العقول، يمرض ويعالج، يقوى ويضعف، وأيضاً ليس من الغريب أن يموت ككل الكائنات الحية.
الإصلاح اللغوي بوجهين
الكتيب تصريح عن حب لهذه اللغة وحروفها الجميلة. إنه مساهمة هاوٍ بمعانيها، العاشق، وغير الحرفي والاختصاصي. يقول شامي: «أعطيت اسم هذه المساهمة «قرعة جرس» لأجل أجمل كائن ولده الإنسان: اللغة. قرعة جرس لإيقاظ كل محب للغتنا الجميلة، وهي مساهمة وليست دراسة أو بحث. فلا أنا باحث لغوي، ولا تسمح لي إمكاناتي في المهجر ولا رواياتي، التي تستهلك غالب قوتي ووقتي، بالقيام بمثل هذا العبء العظيم. لا بل أتصور في خيالي المتسائل دوماً باحثاً ومفكراً عربياً يوجه فريقاً من الباحثات والباحثين الخبراء في اللغة للقيام بإصلاح جزء من أجزاء بيتنا اللغوي مجاوراً بذلك مفكرين آخرين يرافقهم مساعدوهم لإصلاح جوانب أخرى في هذا البيت. إن ما كتبته لا يريد سوى أن يكون دعوة صادقة إلى بدء حوار مفتوح وجريء يؤدي إلى إجراءات إصلاحية. هذا الحوار صار ملحاً لمكونات لغتنا التي ستتعرض لكارثة إن لم نبدأ بإنعاشها وتطويرها لتأخذ مكانها المناسب بين اللغات العالمية».
يرى المؤلف أن ثمة اختلافاً في معنى كلمة إصلاح لا يتعلق بسوء النية أو حسنها فحسب، بل بالحقبة الزمنية التي تطرح فيها مقترحات هذا الإصلاح. فنرى مثلاً أن نشاط اللغويين والمفكرين في عصر النهضة العربية الكبيرة كان يميل إلى تعقيد اللغة، لجعلها حسب اعتقادهم آنذاك رفيعة، صعبة المنال، وهذا ما رفع قدر اللغة فعلاً ولكنه أغلق أبوابها أمام الشعب، فتكلمت الناس بما أملاه قلبها وعقلها عليها. اختارت واخترعت، نسيت وحورت كما تشاء بينما حلق علماء اللغة وحدهم في معبد شيدوه للغة، وتناحروا حول قواعدهم التي اخترعوها، مشهرين ألسنتهم ضد خصومهم، أمضى من سيوف دمشقية. ومما لا شك فيه اليوم أن زيادة الاهتمام بإصلاح اللغة وتمتين قواعدها وبناء جملها، قد عقد في أحيان كثيرة اللغة وقلب هدف كل لغة رأساً على عقب. فاللغة تبلغ أسمى درجاتها عندما تكون أداة وضوح وتنوير، لا أداة غموض وتعتيم. واللغة العربية صعبة المنال تستعصي حتى على فطاحل اللغة، وهي بذلك ترعب حتى عشاقها بدل أن ترغب الناس فيها. وهذه خسارة ما بعدها خسارة.
تبسيط
ينزع المصلحون في عصرنا بمجملهم، على عكس النحويين القدامى، لتبسيط اللغة لما يعطيه هذا التبسيط لأي لغة من حيوية وديناميكية تمكنها من استيعاب كل جديد. وهذا التوجه لا يخلو طبعاً من خطر تساقط اللغة وتهافتها، لكن بشيء من الانضباط والتنظيم يمكن الوقوف في وجه أي هدر لجمال اللغة وقوتها. لكن الإصلاح على رغم مشاكله كافة يدفع اللغة قدماً ويجدد شبابها في مواجهة الزمن. انتهى عمل اللغة العربية الإصلاحي في نهاية القرن الثاني عشر لتخمد همم اللغويين كافة وليرضوا بالموجود ويبتكروا التبريرات المضحكة عن سبب امتناعهم عن تحرير اللغة من غبار القرون.
يفيد رفيق شامي أنه تواجدت دعوات إصلاح كثيرة نادى بها بعض الشجعان هنا أو هناك، إلا أن دعواتهم تلك لم يكتب لها النجاح ودفنت في الرمال. السبب في جمود اللغة العربية وأبجديتها ليس الدين فقط كما يحاول البعض إظهاره. فالسبب الأساسي باعتقاد شامي يعود إلى جذور القبيلة العربية وقوانينها التي تتحكم بحياتنا اليومية بشكل لا يشبهه أي تأثير آخر لا لدين ولا لمدينة غربية. فالقبيلة العربية كانت الرد الأنسب على ظروف الصحراء القاحلة، لكن النظام القبلي أو «العشائري» تغلغل بعد مرور آلاف السنين إلى أعمق أعماق النفس العربية حتى يومنا هذا، وفي أكثر المدن العربية تقدماً لا تزال الصحراء تسكن أنفسنا وتملي علينا تصرفاتنا.