صفحات المستقبل

قصة خطف من سلمية

 

معتصم الديري

 أغلب الصور التي  تأتي للرأس من كلمة خطف هي: سيارة سوداء، أربعة يخطفون فتاة في العشرين، صوت تكسير أصابع، إمرأة تصرخ من الشرفة ويسقط غسيلها، صوت اسراع السيارة، والاسوأ من تلك الصور هي تلك العتمة التي تمسك القلب.

 هكذا، تشعر ان الخطف سر!

 هو يحدث في سوريا، ولكن بصورة أفدح، وبحلول معروفة يصبح الخطف سهلا، هو المشكلة وحلها. هنا لا يبقى الخطف سراً، بل من هوامش الحرب: “ذاك طبيعي”.

 ينتشر الخطف في سوريا التي سارت بثورتها حرباً من أجل ذاك المجد الذي يسمى”كرامة”. وتشعر بأن الهدف من الخطف هو فقط لأكل تلك الروح النظيفة للثورة، هكذا هي الثورة ليست فقط نضال شعب يمل، يحلم، يسمو، يخرج، يجن، ويريد، بل هي تحيكها المصطلحات الدنيئة كل صباح، تحاول أن ترزقها ذاك السوء الذي يجعل الثورة “مثل لافتات المحلات المقصوفة”.

 أولئك الانتهازيون يشرعون لأنفسهم كل تلك الخساسة: من باب الطائفية نرزق مالا، أو نذيع التطرف. خطف من باب الطائفية والحرام والحلال.

 شمالاً، مدينة كزهر الليمون: سَلَمية. تعرف كيف يسكن الضد مع الضد بلا حرجٍ، يختلط سكانها حتى لا يكاد يبدو الدين هناك، إلا خصوصية مشروعة. مدينة حديثة سلمية.

 ولأن فيها من ورد الثورة ومدنيتها ما تشتهيه الثورات، هي مدينة تحسد على وردها، وكان لها من هذه الحرب وهامشها نصيب كبير لم يذكر على الشاشات لا الاوروبية الناطقة بالعربية، ولا شاشات المساجد.

سلمية لم تشهد القصف للآن، لكنها عاشت الحرب.

يخطف ابن استاذ الرياضيات في إحدى قرى سلمية: الصبورة.

 الرجل الأهدأ قلباً في المدينة، الرجل الذي يريد أن تنتهي هذه الحرب دون أن تاكل قلب البلاد، ولا وجه أطفال المدينة القادمين لدرس رياضيات خفيف. هو أرادها ألا تخطف إلا السلاح، فخطفت له الحرب ابنه الوحيد، ولأن كلَّ سَلَمية لا اتصالات فيها ولا مزيد من ماء الشرب، لم يتصل الخاطفون من قرية عقيربات المجاورة ليطلبوا فدية كالعادة، أو ليملوا على عائلة المخطوف محاضرة في الثورة.

هؤلاء هم الذين يوجودن على حاويات الزمن، ولكنهم هم القمامة، هؤلاء حقاً قمامة الشعوب. يأكلون باسم الثورة وينامون باسم الدين ربما أو باسم الشهيد، أو بلا اسم حتى.

 وهم اعداء الثورة حالهم حال النظام، وليس ذلك لأنهم ربما يشوهون سمعة وصورة الثورة امام المحايد او العالم الخارجي، لا بل لأنهم هكذا كأنهم يأكلون من كتف شهيد، أو من خبز الناجين من صاروخ. هؤلاء أصغر من ان يبيعوا البلاد لكن لو امكنهم لباعوها مع سكانها.

يتوه استاذ الرياضيات”الهادئ” بعد عشرة ايام ولا خبر عن ابنه في المدينة، والتغطية في كل المنطقة مقطوعة.

والسخرية هنا أن الأب، المخطوف، والخاطفين ينتظرون.

 وبالطبع، كان الذين جاؤوا إلى الأب يقنعوه بأن الحل هو خطف رجل، أو عشرة من عقيربات أكثر من عشرين، والأب على هدوئه ينتظر عودة الاتصالات ليعرف كم فدية ابنه، ويحل القضية بدون أي تفكير في أي مشكلة، فهو حقاً أستاذ رياضيات قديم.

 لكنه جنَّ أخيرا، عشرون يوماً في الإنتظار لروح ابنه والتغطية، والخاطفون ينتظرون مثله التغطية والمال، وبالطبع يكونوا قد ملّوا من الابن، وإطعامه كل يوم.

 يخرج الاب مع عدد من المسلحين للمدينة المجاورة، يدخلون بيت المختار هناك، يحدث الاستاذ “الحاجة” زوجة المختار (ثمانون عاماً): “أنا لا أريد كل هذا، لكن أهل قريتكم خطفوا ابني، وسوف آخذ زوجك إلى بيتي، اطعمه واعتني به، ولن أؤذيه حتى لو أذوا ابني، لكن تلك الطريقة الوحيدة ليرجع ابني يا حاجة”.

 مختار قرية عقيربات لا يمانع إطلاقا، فقط يلعن بلا اسنان الزمن الرخيص الذي أخذنا الى هذه الايام، والحاجة ببساطة قرية تحوي مئتي منزل، تدعو لابن الاستاذ بان يخرج بالسلامة، وكأنها موافقة سلفاً تحدثه عن مواعيد الأدوية، وان المختار مصاب بالسكري، وعليه أن يحتمل حاجته للخروج للحمام، وأن يغطيه جيداً لأنه يتحرك في الليل كالأطفال.

 تغادر سيارة استاذ الرياضيات، وهي تحمل مختار القرية الخاطفة. بخجل يدخل الاستاذ مختار القرية الى بيته وهو يرحب به، وغير مقتنع بما يحدث الآن أمام عينيه، ومنه.

ولم تتفضل شبكة الاتصالات على كل القصة بساعة واحدة. يمر اليوم الأول، لم يخرج الاستاذ الى دروسه، فهو على الوعد يعتني بالمختار، ويسليه من ضجر الليل الطويل.

يمر اليوم الثاني، لم تأت الاتصالات بعد. لكن نوبة السكري تأتي الحاج، ويصير الخطف السلمي كالتالي: الاستاذ “الخاطف” يأخذ المختار إلى الحمام ثم يرجعه، ثم يأخذه، ثم يرجعه، يدفئه من بيته، أو يستعير المازوت من بيت الجيران له. هكذا يقضي كل وقته بجانبه، ينام بالقرب منه، يستيقظ لأجله، وينفذ صبره من الحالة ومنه.

 ثم يومان أخران ولم تأت لا الاتصالات ولم تنته نوبة السكري، وما زال يأخذه للحمام ويرجعه، يأخذه للحمام ويرجعه.

 يستيقظ ويركبه في سيارته، يأخذه لقريته مسرعاً، ومباشرة الى بيت المختار: “يا حاجة هذا زوجك، لم ينقص ولا كيلوغرام، ولا حبة دواء، وحتى احضرته لكِ مع نوبة سكري أيضاً، خذيه فأنا لم أعد أريد شيئا، لقد جننت منه ونوبات السكري وابني. أنا استاذ رياضيات قديم، ولست خاطفاً غبياً”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى