قوس الموت وطعم الرماد/ الياس خوري
ثلاث لحظات تداخلت في الأسبوع الماضي كي ترسم في المشرق العربي. ثلاث لحظات مختلفة لكنها اشارات الى قعر هذه المأساة التي لا قعر لها. كلما وصلنا قعرا اعتقدنا انه نهاية المطاف، لنكتشف ان النهاية لا تزال بعيدة، وان عبورنا وادي الموت لا يعني اننا استطعنا النجاة.
لن ينجو احد من اهل هذه البلاد الا اذا نجت البلاد نفسها من هذا الطاعون الدموي الوحشي، الذي يتربص بها، جاعلا من الموت ممحاة للأمل بحياة جديدة خالية من كوابيس المستبدين وغلاظة رقابهم.
حزب البعث الكيماوي
كيف نصف موت الاطفال متدثرين بالهواء السام؟
كيف نصف مجزرة الغوطتين، وبأي كلمات نبكي؟
كانت تجربة الغوطتين مع الكيماوي البعثي هي الاعلان النهائي بأن نظام الأسد لا يقاتل من اجل البقاء، بل يقاتل من اجل القتل. فهذه الآلة العسكرية المُتهوْلِكة (نسبة الى هولاكو) تضرب خبط عشواء من اجل تدفيع السوريات والسوريين ثمن طلبهم للحرية.
‘الأسد او نحرق البلد’، هذا هو شعار النظام وشبيحته. الأسد لم يعد واردا من زمان، من لحظة أطفال درعا، وقاشوش حماه، وبطولات حمص، فابتدأ احراق البلد بشكل ممنهج ومنظم، بحيث لا يترك هولاكو البعثي وراءه سوى الخراب.
هل خطر في بال اساتذة التعليم الثانوي في دمشق، الذين اسسوا حزب البعث، انهم لم يورثوا البلدين اللذين نكبا بسلطة حزبهما سوى الخراب؟
وكيف ولدت الفاشية البعثية من رحم فكر رومانسي مثالي، مزج التأملات الوجدانية التي كتبها ميشال عفلق بانقلابية دموية لا هم لها سوى الصراع على السلطة بهدف البقاء في السلطة الى الأبد.
صدام حسين كان رائد تحويل البعث الى حزب كيماوي، لكن حافظ الأسد لم يقصّر في حماه او في تدمر، الى ان انتهى الأمر بصدام الى جنون المغامرات العسكرية التي دمرت العراق، بينما اورث حافظ الأسد ابنه الثاني شهوة الكيماوي، التي فتكت بأطفال الغوطتين.
واللافت ان مغامرات البعثين العسكرية سعت الى الابتعاد عن مواجهة اسرائيل، صدام ذهب شرقا الى ايران قبل كارثة اجتياح الكويت، والأسدان ذهبا غربا الى لبنان من اجل تصفية المقاومة الفلسطينية وتحويل لبنان الى مرتع للنهب والتفكك.
الكيماوي الصدامي فتك بالكرد كي يقدم درسا للشعب العراقي، اما الكيماوي البشاري فكان اعلانا بأن زمن الدروس قد انتهى، وان الهدف صار اليوم الفتك بالشعب السوري، من اجل تحويل عيون اطفاله الى رماد.
رومانسية اساتذة دمشق، لم تكن صورة عن براءة الحركة القومية الوليدة على ايدي الاستاذين عفلق والبيطار، بل كانت غطاء يحجب جذورها الفاشية، التي حين ستنضج ستفتك بالمؤسسين اولا، قبل ان تتحول الى نظام مملوكي جديد، لا يحمل من ذاكرة الزمن المملوكي سوى النهب والقتل والاستباحة.
فاشية لم تؤسس للدولة الاستبدادية فقط، بل حولت اجهزة الدولة الى مجموعات من العصابات والمافيات، التي نرى اليوم كيف تجتاح سورية بطاعون الكيماوي.
لبنان في مرمى الموت
الأغلبية الساحقة من اللبنانيين لا تريد العودة الى أتون الحرب الأهلية. فلقد تعلم اللبنانيات واللبنانيون درس ان هذا النوع من الحروب لا يقود الا الى الخراب، ويقوم بتوحيش الناس، ويدمر ارواحهم.
لماذا اذا؟
لن نسأل من وضع متفجرات الرويس وطرابلس، فالحكاية الأصلية لا تدور هنا، ومهما كانت هوية الفاعلين فهم ليسوا سوى ادوات قتل اعمى لا هدف سياسيا له.
المعركة في سورية لن تحسم في لبنان بل في سورية. وعناصر حزب الله التي تقاتل دفاعا عن نظام الاستبداد هناك، لن تستطيع تغيير واقع الحال في دمشق. كما ان توجيه ضربات الى الضاحية او طرابلس لن تكون سوى تفصيلات صغيرة في مسلسل الدم السوري.
لماذا اذا؟
انه العماء السياسي والاخلاقي يضرب لبنان كي يجره بالقوة الى اتون الدمار الذاتي.
اللبنانيات واللبنانيون يعرفون ان الانجرار الى هذه النار سوف تكون نهاية ما تبقى لهم من وطن، ومن حياة.
الجميع هنا ضد الحرب الأهلية السنية- الشيعية، لكن الجميع يشاهدون كيف تتفشى الحرب في مجتمعهم كالوباء.
ماذا سيفعل الناس كي يوقفوا هذا الحمق التدميري؟ وهل يستطيعون؟
حسني مبارك كدفعة اولى
بعيدا من التفسيرات القضائية، التي قد تكون تمتلك شيئا من الحيثيات القانونية، فان الافراج عن الديكتاتور المصري المخلوع، بدا مستهجنا. فالرجل ليس مجرد لص، بل هو ديكتاتور حكم مصر ثلاثين عاما. والآن تقوم ‘الثورة’ باطلاق سراحه، وسط الملاحقة الاستئصالية للاخوان.
شيء عجيب، ولا يمكن فهمه الا في اطارين:
الأول هو ان الافراج عن مبارك كان دفعة اولى على حساب الدعم السعودي للسلطة المصرية المؤقتة الجديدة.
الثاني هو ان الحلف الملتبس بين القوى الديموقراطية واليسارية وشباب الثورة من جهة، وبين الجيش من جهة اخرى يخترقه فلول النظام الأمني السابق على جميع المستويات.
الخطر هو ان يكون الافراج عن مبارك دفعة على الحساب، من اجل شد عصب الفلول، بهدف العودة الى زمن الديكتاتورية العسكرية الذي لن يعود.
احلام البونابرتية الجديدة المتحلقة حول الجيش وسط لغة شوفينية ضيقة، ووسط الدم المصري الذي يسيل، قد تدفع مصر الى الهاوية.
هذه المرحلة الثالثة من الثورة المصرية قد تكون الأكثر صعوبة وتعقيدا، لأنها تعيد رسم الخريطة من جديد وتضع الدولة المدنية، التي هي لا عسكرية ولا دينية، امام تحدي بلورة مشروعها.
القدس العربي