قوى الممانعة وقوى الاعتدال وجهان لعملة واحدة
منى فياض *
تحتار القوى المعادية ضمناًً لما يحصل في العالم العربي: أي موقف تختاره تجاه الثورات الجارية؛ وهي نفسها القوى التي طالما اعتبرت نفسها الممثلة والناطقة الوحيدة باسم القوى الثورية وباسم الشعوب. لذا تدرجت تسميتها من قوى الصمود والتحدي إلى الممانعة والمقاومة في مصادرة لرغبات الشعوب، أو على الأقل في تجاهل وتزوير لمصالحها الحقيقية… في البداية وقف بعض هذه القوى مع الثورات مستبشراً بها خيراً للاعتقاد المتسرع بأنها لم تقم سوى لدعم مواقفه وأجنداته. وعندما تبين خطل هذا الاعتقاد بدأ العد العكسي فاستُعجل الوصول الى الديموقراطية والتسرع في قلب الاوضاع القائمة وتطلب الاصلاح والتغيير الفوريين كما بسحر ساحر، مع تجاهل أن المشاكل الموروثة والتي تراكمت على مدى عقود والتي تسببت بها ممارسات الانظمة، التي يترحمون عليها والتي ظلوا يرتعون في ظلها طويلاً، لن تحل قبل وقت طويل.
وتنقسم هذه القوى المتربصة بالثورات العربية الى نوعين، وفق خلفية وموقع كل منهما من الانظمة. النوع الأول جزء تكويني من الأنظمة التي غلفت نفسها بشعارات ثورية وأطلقت على نفسها نعت الممانعة والمقاومة باستخدامها الناجح لفترة طويلة للخطاب المناصر للقضية الفلسطينية ولجميع قضايا التحرر في العالم وللخطاب العروبي ولادعاء حماية الاقليات المسيحية، في تجاهل تام لحقوق الاقليات الاخرى، لا سيما الأكراد، نظراً الى تجاهل معاناتهم الطويل. وتبدت الحماية المزعومة بخاصة بعد حروب لبنان الطائفية ثم حرب العراق بعد احتلاله وتعرض المسيحيين للقتل والتهجير، وحديثاً بسبب الاعتداءات على الكنائس القبطية في مصر والتي تبين لاحقاً ضلوع النظام فيها لكونها وصفة سحرية للتسلط والقمع. ولا بد من أن يتبين لاحقاً من يقف خلف قتل مسيحيي العراق والشرق عموماً.
وكنموذج عن فشل الثورات، يتم تعداد أنواع عجزها، كأن الانظمة الممانعة لم تعان أي عجز على الاطلاق! فعدا العجز عن انجاز التغييرات المطلوبة لجهة تنفيذ الديمورقراطية كفرمان جاهز، نجد ان العجز في تونس تمثل مثلاً في بروز التيارات الدينية على السطح بعد ان كانت مسحوقة مثلها مثل التيارات الاخرى، وهي لربما كان عليها ان تظل مخفية من أجل إرضائهم! كذلك الاصطدام بالتيارات اليسارية التي تريد قطيعة مع الغرب (لسان حال الكاتب عادة في حنين الى ايام الحرب الباردة وادواتها)، أما التيار الليبرالي فيطالب بالمقابل بمواصلة العلاقات مع الغرب والتزام مواقف هادئة في السياسة! ما يعني بالنسبة للممانعين نوعاً من مواصلة التطبيع مع اسرائيل، وكأن الممانعة اللفظية لم تعن أسوأ انواع التطبيع لكن من تحت الطاولة وعبر ممارسة لعبة الازدواجية الانتهازية!
أنواع العجز المذكورة توضح فهمهم المنقوص لمعنى الديموقراطية وكأنها تعني شيئاً آخر غير السماح تحديدا ببروز تعدد واختلاف الاتجاهات، وان يتم تبادل السلطة والتمثيل الانتخابي لكافة التيارات عبر صناديق الاقتراع والقبول بنتيجتها. وهذا ما يجب ان ينتج عن هذه الثورات، وهو ما يعنى «ديموقراطية».
أما في مصر فيتلخص العجز بالنسبة اليهم في الفشل في مواجهة التحديات الكبيرة المحصورة في الخروج من حالة التبعية للولايات المتحدة وتغيير نوع العلاقة مع الفلسطينيين والعودة إلى قيادة العالم العربي والحفاظ على أمن الخليج! وكلها كما نلاحظ شعارات فضفاضة ومطالب «قومية» بالمعنى المعطى لها من قبلهم بالطبع، الأمر الذي أدى في نظرهم الى اصطدام القوى الداخلية والعودة الى الميدان لفرض تحقيق أهداف الثورة. وكأن الثورة قامت لتحقيق أجندة القوى الممانعة ولم تقم من أجل مطالب داخلية رافضة في الوقت نفسه ازدوواجية قوى الممانعة المعترضة نفسها والنظام الأمني الذي قمع الشعب وأذلّه وجوّعه. وكأن الحرية والكرامة لا معنى لهما طالما ان مصر لا تعيش على وقع الشعارات التي أثبتت ليس فقط فشلها بل وضررها أيضاً.
نأتي إلى بيت القصيد: ما يحدث في سورية. هنا يتم تجاهل كل تاريخ القمع والذل والتعذيب ومنع الحريات التي تمرس بها النظام، بل تجاهل القتل اليومي المستمر وتجاهل أن الممانعة والمقاومة العزيزتين على القلوب أبقتا الجيش حبيس الثكنات متصالحاً مع احتلال الجولان ولم يغادر مخابئه سوى لمحاربة الشعب السوري وحماية قتلة الاطفال ومغتصبي النساء. فيصبح المعيار «الحراك المسلح» مجهول الهوية في جسر الشغور وإدلب وجبل الزاوية؟ (وماذا عما يحصل في المدن والبلدات الاخرى؟).
والحدث الأهم من مئات القتلى والمعتقلين، زيارة السفراء الى حماة والمؤتمر «الصهيوني» في باريس! وربما صحّت جميع هذه الاعتراضات، لكن الموضوع الأساسي هنا هو: ما هي أولوية «المقاومين – الممانعين»؟ هل الحفاظ على الشعارات الجوفاء أم على حياة البشر التي ترخص الى حد عدم ذكرها؟، ناهيك عن الحرية والكرامة، اللتين لا قيمة لهما إلا تجاه العدو الاسرائيلي، ومن خلف المكاتب المكيفة! أما عندما تداس الارواح والكرامات من قبل الديكتاتور العربي فهذا مقبول.
لا يدري الممانعون في اثناء تدبيجهم لخطابهم أن هذا هو بالضبط ما قامت ضده الشعوب العربية وشبابها بخاصة. الازدواجية العمياء والكيل بمكيالين، ووجود نوعين من الحرية والكرامة ومن القتل، متجاهلين ان الكريم في أرضه ووطنه هو الذي يعرف كيف يدافع عن الوطن والكرامة تجاه الآخر المعتدي، سواء الغربي أو العدو الاسرائيلي. وأنه آن لهم أن يقتنعوا بأن نظرية المؤامرة لا يقتنع بها الا من خبرها ومارسها.
أما ذرائع الجهة الأخرى المتحالفة مع الانظمة المعتدلة والمستفيدة منها، فحرصها المميت على الأنظمة يجعلها ترى بعين واحدة، ناهيك عن قصورها عن رؤية الوجه الآخر لحججها، ما يجعلها هي أيضاً تغفل عن مسلمات لم تعد قابلة للجدل او للمساومة: إدانة القتل بالمطلق، وبخاصة إدانة الحاكم القاتل لشعبه؛ وبديهية التبادل السلمي للسلطة. فيتساءل واحدهم مستغرباً عن «مئات الألوف» من المواطنين السوريين الذين نزلوا الشوارع تأييداً لرئيسهم بشار الاسد، وعن نصف المليون ليبي الذين احتشدوا امام باب قائدهم القذافي، وعن الحشود اليمنية الملايينية التي تعاود الخروج أمام باب رئيسها وجميع الآخرين الذين لا يزالون يدافعون عن مبارك متمنين لو انه نجح في توريث جمهوريته الديمواقراطية لفلذته… هل هي جميعها مأجورة؟
بالطبع ليس جميع المدافعين عن الانظمة مأجورين، لكنهم مستفيدون بالطبع، وفي الحالتين يلعب المال والمصلحة الخاصة الدور نفسه، فيقومان بالمهمة نفسها: الدفاع عن الاستبداد والوقوف مع القمع والتغاضي عن القاتل وإدانة القتيل! ثم ما الذي يزعجهم إذا كانوا يقبلون ضمناً اللعبة الديموقراطية طالما أنهم يحاولون إقناعنا بأن من هم في السلطة ممثلون لشرائح في المجتمع؟ ولماذا لا يقبلون بإجراء الانتخابات البرلمانية النزيهة بعد تنحية المؤبّدين في كراسيهم للوصول إلى تمثيل نسبي لمكونات الشعب، طالما أن أقصى ما كانت تطالب به الجماهير الثائرة مجرد تداول السلطة؟ هذا وعندما أمعنت الأنظمة في استبدادها تحول الاعتراض بفضل القتل والذبح إلى ثورة!
الجميل إن من العوارض الجانبية للثورات إثبات أن الاعتدال والممانعة في بلادنا كانا ويظلان وجهين لعملة واحدة!
* كاتبة لبنانية
الحياة