كتاب بهاء أبو كروم “الممانعة وتحدي الربيع”: أسباب الثورات وجذور الاستبداد والخلاصة الدموية
قصي الحسين
هل يؤدي استخدام الانقلابات العسكرية أو ما عرف بالثورات العربية في مطلع القرن الماضي، إلى شغف متزايد في الثورات التي شهد مطلع القرن الحالي في العالم بعامة والعالم العربي والاسلامي بخاصة، والى تراجع في قدرة القادة الثوار وثوراتهم على التغيير والتصحيح والتجديد والعصرنة والحداثة، في البلدان التي انتفضوا بها وثاروا، بسبب انضواء مشروعاتهم وفلسفاتهم آلياً، ضمن مناهج وأساليب فرضتها هيكليات الثورات الأم قديماً وحديثاً: في أوروبا وأميركا وآسيا والعالمين العربي والاسلامي. وهل يشكل ذلك عملية استعمار جديدة تستهدف البلدان الصناعية المتقدمة والبلدان النامية والمتخلفة (والأوطان العربية إنما تقع في خانة البلدان المتخلفة) لأجل القضاء على التعدد وضمنه التنوع، لمصلحة السياسويات الشمولية، سواء كانت تحسب نفسها وليدة رحم الديموقراطية، أو وليدة أتون الطغيان والاستبداد.
هذه التساؤلات مشروعة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لمرور أربع سنوات على انتفاضات وثورات الربيع العربي التي بشرت بها سنونوة تونس الخضراء وعربة الخضار التي أكبتها الشرطية على ذقنها للبوعزيزي، والنيران التي أشعلها شهيد الربيع في أثماله احتجاجاً على الفقر المجتمعي وعسف السلطة على حدّ سواء. ولهذا لا نرى من الباحثين والمثقفين، من لا يدلي بدلوه في الاجابة على هذه التساؤلات المعقدة والمشروعة. وفي هذا الإطار تأتي قراءة بهاء أبو كروم لتاريخانية التجربة الثورية ومخاضاتها العسيرة هنا وهناك، لأجل جلاء الصورة وتنوير الأفهام، حيث يقول: في مطلع مقدمتك «في معرض تجربتها السياسية خلال القرن العشرين خبرت الشعوب العربية الكثير من المقولات والمصطلحات التي عكست وجهة نظر السلطات الحاكمة بشكل عام، وأسهمت في تشويه البنية الثقافية للمجتمع. وكانت هذه المقولات تلعب على الوتر العاطفي، حيث وعدت الشعوب العربية بالتوازن الاستراتيجي مع العدو الاسرائيلي، وتحرير فلسطين، واستعادة المقدسات، ومقارعة المشاريع الاستعمارية، والصمود والتصدي، وغير ذلك من التعابير المشوقة التي تجتذب الجمهور. إلى أن برزت الممانعة كواحد من الأطر المفاهيمية التي اعتادت الأنظمة انتاجها، وتفوقت على ما سبقها، وبنت منظومتها، وحددت مجال عملها، وتربعت على جزء من الوطن العربي واستكانت لغدها(ص 11).
تنير الدراسة جوانب غامضة انطلاقاً من مفهوم «الممانعة» وتحديه للتغيير والنهوض والإصلاح، مما جعل للربيع العربي تحدياته الصلدة أيضاً لمواجهة سياسة الممانعة التي ارتهنت للسياسة المحورية الخارجية ورهنت الوطن والشعب للاستبداد، الذي أخذ على عاتقه حماية هذه السياسة الغامضة للممانعة.
يجري الباحث أبو كروم، مسحاً تاريخياً وتسجيلياً شاملاً للربيع العربي وتوطنه في البلدان العربية منذ العام 2011، كما يجري بالمقابل مسحاً تاريخياً وتسجيلياً لجذور الاستبداد بمنشئه العربي والغربي، فيتحدث عن جدار برلين الذي نهض بوجه الهجرة الألمانية من عسف الشيوعية والبلاشفة الشيوعيين. كما يتحدث عن البو عزيزي في سيدي بو زيد الذي أشعل الثورة على الظلم والقهر وعتو الاستبداد بأثماله، فكانت كما تقول ملحمة الأوديسة العربية والخلاصات الدموية التي تبعتها. كما كان التغيير الداخلي الأعمق الذي هز أركان الشرق الأوسط وزلزل حصون الاستبداد من الداخل.
إلى ذلك يناقش الباحث دواعي الاستبداد وجذوره القديمة، وتجذره لدى الحكام الذين مارسوه بكل قسوة على شعوبهم، خصوصاً في بعض الأوطان العربية، وقد عمد إلى قراءة دور الاستشراق والردود الاستبدادية عليه وذلك من جوانب سوسيولوجية وسياسية وفكرية. وناقشها جميعاً إن في الموقع المختلف، أو في القضايا الصلبة، مفرقاً بين سوسيولوجيا الفهم والايديولوجيا، وبين التحرر والعسكرة وبين التمسك بالقومية والإيمان بها وبين الاستبداد الذي جاء على موجتها وبسط سلطانه على القوميين بخدعة الحث على النهوض القومي. وقد عرض هذه المسائل على ضوء منهج «غوستاف لوبون» في كتابه «سوسيولوجية الجماهير»، وكذلك على ضوء منهج «ميشيل فوكو» التفكيكي في مقالته الشهيرة: «يجب الدفاع عن المجتمع». ويتساءل الباحث في نهاية هذه المقالة عمّا إذا كان النظام العربي القديم، علمانياً. حيث يقول إن التقدير العقلاني لأعلام القومية كان يعتمد على المرتكز القومي كأولوية وكرابطة في مجتمع يشكل الاسلام الرافد الأبرز لحضارته» (ص 53). غير أن لبنات الفكر القومي ظهرت على أيدي مسيحيين أرادوا دعم فكرة الرابطة القومية كبديل عن الجامعة الاسلامية، ولكن من دون تحويل موضوع التحرر إلى صراع مع الاسلام. كذلك كان من الصعب نظرياً الفصل بين حضارة عربية وأخرى اسلامية، إلى حدّ أن أصحابها امتدحوا الحقبة الجاهلية، وانشغلوا بالبحث عن بعض المحاسن فيها لمجرد البرهنة على أنه كانت هناك حضارة عربية، قد سبقت الاسلام (ص 53). ويستنتج الباحث أن علمانية الدولة بقيت في إطار الفرضية لخدمة النظام وحسب، لأن الاستبداد كان قد تجاوز الحاجة المجتمعية اليها لأجل تسخيرها لخدمة سياساته المتقلبة، التي تخدم ديمومته في السلطة لا اكثر ولا أقل.
2 – عن سوريا والدور الاقليمي لها، يدرس الباحث ما عرف «بنظام الممانعة»، فيسلط الأضواء على أصوله من خلال الوقائع والأحداث التي جرت في المنطقة العربية، خصوصاً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية العام 1990 وانفراد إيران بقيادة التحالف بعد وفاة حافظ الأسد عام 2000. ويقول إن الممانعة كانت تبني منظومتها متكئة على فشل المبادرات التي تتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط (ص 62). وأتت منظومة الشعارات، كنتاج فكري لزحمة عروبيين في غياب نظرية عروبية تواكب الحضارة وتفتح الآفاق. أما تحول سوريا إلى المفاوضات، إنما جعلها تطلب الشيء وعكسه، فكان خطاب المغالاة، كما يقول، قد طبع مرحلة الخروج عن دائرة التخاطب العقلاني. وهذا ما جرّ النظام في سوريا إلى مواجهات مع الفلسطينيين واللبنانيين الذين لم يشاطروه مسيرته.
تناولت الدراسة بدقة إشكالية القيادة والتبعية بين سوريا ولبنان، على ضوء تجارب مخيبة في الماضي وجدال ساخن للمستقبل. وبوصول الرئيس بشار الأسد إلى السلطة، بدأ الحديث عن «سوريا الجديدة» وعن الأداء السوري الثلاثي الأبعاد وعن تحديات ما بعد القمة الرباعية التي جمعت بشار الأسد والرئيس ساركوزي والشيخ حمد وأردوغان في دمشق أيلول 2008، لتحقيق فرص السلام بين سوريا وإسرائيل. فقد لعبت سوريا دور الوسيط الاستراتيجي في 26 نيسان 2009 حين زار الرئيس بشار النمسا، وبشر به، على أن تكون سوريا جسراً للحوار الثقافي والسياسي بين ضفتي المتوسط. ورغم ذلك ظل اللبنانيون يعانون من ثقافة الممانعة وشعاراتها ودفع لبنان أثماناً غالية بسبب من رؤية البعث الشقية إلى لبنان «الشقيق» وبسبب من الموقف الاستراتيجي السوري الممانع. وهذا ما شكل مأزقاً للديموقراطية وللممانعة، مما أرخى بظل ثقيل لهذه السياسات على الداخل السوري وعلى الديموقراطيات المحيطة به وعلى الصراع الدولي على دور النظام السوري وتصاعد الدور الروسي المؤيد له على حدّ سواء.
3- في حديثه عمّا أسموه صحوة إيران وتحولات المنطقة، قال إنها جاءت في زمن التماس بين الحضارات. وأن القضيّة داخلياً، إنما هي قضية ثقافية بامتياز وانطلاقاً من ذلك ناقش الباحث مسألة الديموقراطية عند رجال الدين بعامة وعند رجال الدين الايرانيين (الشيعة) بخاصة، وقد استنتج أن مثل هذه الصحوة وهذه الديموقراطية، لمما يعرف بالسياق الشرقي. وقد تتبع الأبعاد الاقتصادية لسياسة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، كما تتبع مسألة تصدير الثورة الاسلامية الإيرانية بمفهوم «الأمر الواقع» و»القومي» و»الديني». وذلك يؤول برأيه لا إلى عمل سياسي منظم وإنما إلى ما يشبه «إدارة الفوضى». فكانت له وقفة متأنية في هذا السبيل: عند حكم الملالي (ص 129) وتعميم المجتمع الكهنوتي والحضور الايراني في أزمات المنطقة، وذلك على ضوء تقدم ايران وتراجع الوعي القومي، ناهيك عن قراءته العقائدية لانهيار الامبراطورية الأميركية. وقد جاءت مناقشاته هذه في ظل قراءته للحرب البديلة تموز 2006، والتي خاضها حزب الله في لبنان بدعم من إيران. وهذا ما جعله يطرح السؤال: إلى أي مدى يمكن أن تذهب إيران في معاندتها للغرب، وما إذا كانت لحظة الحوار قد نضجت، واصبح بالإمكان عقد الصفقة الأميركية – الايرانية، موازياً بين الامكان والاستحالة. (ص 115 152).
4- وتساءل الباحث عن الأزمة القائمة في لبنان، وما إذا كانت تمثل أزمة نظام، أم مأزق منظومة سياسية تدور في فلك السياسة الايرانية – السورية. وتوضيحاً لذلك كان عليه أن يناقش أزمة النظام السياسي اللبناني من زاويتين أساسيتين: الاستقلال والتعريب. ومن خلال ما أسماه صدام العقول في النظام اللبناني وفي السياسة اللبنانية. وقد انطلق في ذلك للحديث عن السوسيولوجيا الوطنية في لبنان، وعن مصطلح الوصاية السورية وسياسة الأمر الواقع المفروض على هذا الوطن الصغير. فناقش مسألة الوحدة الوطنية وعقد الوصاية التي تحكمت بها (ص 178). ليدخل في نقاش حول اتفاق الطائف اللبناني وبنوده وظروفه ومسائل تطبيقه وعدم تطبيق كثير من مواده. بالإضافة إلى مناقشة طاولة الحوار الاقليمي التي عقدت لأجله (ص 181)، مستنتجاً أن الديموقراطية اللبنانية أبدت جرأة عظيمة في تحدي الممانعة، ناشدة الحل العربي في لبنان، في إطار مبادرة الجامعة العربية (ص 191). وقد أتيح له أن يقرأ بتأنٍ ودقة ما وقع في لبنان من تقاطعات اقليمية على حسابه، وكيف كانت الاصطفافات والأولويات الاقليمية تأتي دائماً لإلغاء دور لبنان الفاعل في مسائل التقدم والتحضر والسلم الأهلي لمصلحة الأدوار الاقليمية الممانعة.
5- وعن المقاومة وإشكالية الداخل، تحدث الباحث عن ظهورها في لبنان في سياق النضال التاريخي في المنطقة، بشكلها القومي أولاً واليساري تالياً والاسلامي أخيراً. وقال إن لها دوافع حضارية ربما رسمت وجهة الصراع التي تخوضه ضد الاحتلال. وقدم قراءة تاريخية في ذلك. وبعد اندحار الجيش الاسرائيلي من الجنوب عام 2000، بدأ التحول في تاريخ حزب الله السياسي. إذ زاوج بين مشروع الدولة ومشروع المقاومة صوناً للشيعة في الجنوب، لئلا يتعرضون لمشروع تهجير لإحلال طوائف أخرى مكانهم.
ومسألة التعايش بين الديموقراطية والسلاح، استأهلت من الباحث نقاشاً طويلاً في العمق. ذلك أن المجتمع لا يستطيع انتظار القوى المسلحة للانتهاء من تحقيق أهدافها المعلنة، كي ينطلق في العملية الديموقراطية وقيام الدولة (ص 210). وقد استشهد بأمثلة من العراق وفلسطين. وفرض ذلك الانتقال بالبحث لقراءة التحولات في مفهوم برامج المقاومات، منذ سقوط بغداد العام 2003، وحتى إمساك حماس بالسلطة بالقوة في قطاع غزة عام 2007. ووجد أبو كروم أن المقاومة الاسلامية في لبنان «أظهرت شيئاً مشابهاً عندما تحولت إلى الصراع الداخلي واستعملت المنهجيات واللغات التي تعتمدها في صراعها مع العدو الاسرائيلي وأسقطتها على صراعها مع اللبنانيين في 7 أيار/ مايو عام 2008 (ص 215)، مستنتجاً أن التجربة التي خاضتها مقاومات المنطقة، أظهرت استحالتين: 1- استحالة اكتفاء المقاومة بأهدافها الوطنية والتحريرية. 2- استحالة المواءمة بين مشروع المقاومة ومشروع الدولة (ص 216) مما أدى إلى ارتفاع منسوب التشدد والاستبداد الذي يعاكس الحياة الاجتماعية الهادئة، والذي هو أحوج ما يحتاجه العرب بعامة واللبنانيون بخاصة في هذا المنعطف الخطر من التاريخ الحديث والمعاصر!
المستقبل