كوابيس الحلم الأمريكي/ صبحي حديدي
“يراودني كابوس”، يهتف الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في استعادة مقلوبة لعبارة “يراودني حلم”، التي نطق بها مارتن لوثر كنغ، الناشط الأمريكي الأسود الشهير؛ الذي كان أحد أبرز المناضلين من أجل الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، بصفة عامة، وإلغاء القوانين العنصرية ضدّ السود بصفة خاصة.
غير أنّ أوباما لم ينطق بعبارة الكابوس هذه، فعلياً، في خطبته بمناسبة الذكرى الخمسين لمسيرة واشنطن، بل نسبها إليه مارتن روسن، رسام الكاريكاتور في صحيفة الـ”غارديان” البريطانية، قاصداً ثلاثة أهداف في آن معاً: التذكير بأنّ حلم كنغ ذاك لم يتحقق تماماً، إذا لم يكن قد انقلب إلى كابوس عملياً؛ وأنّ أوّل رئيس أفرو ـ أمريكي، في تاريخ الولايات المتحدة، هو اليوم الناطق بهواجس الكابوس؛ فضلاً عن حقيقة كابوسية راهنة، ثالثاً، هي “الخطّ الأحمر” الذي انتهكه بشار الأسد في سورية مؤخراً (والرسم يتقصد تحويل مسلّة لِنْكن، حيث ألقى كنغ خطابه في الجموع الغفيرة، إلى صاروخ كروز تحتشد من حوله عشرات الرؤوس الكيماوية).
وبصدد استمرار رواسب الذهنية العنصرية في الولايات المتحدة، خير للمرء أن يقتبس مثالاً يخصّ أوباما نفسه، صدر عن جو بايدن، نائب الرئيس الحالي نفسه! ففي سنة 2007، وفي غمرة المنافسات المحمومة على تسمية المرشح الرئاسي عن الحزب الديمقراطي، قال بايدن (الأبيض، المرشح) ما يلي في مديح زميله باراك أوباما (الأسود، المرشح بدوره): إنه “أوّل أفرو ـ أمريكي من التيّار السائد، جيّد النطق، وبرّاق، ونظيف، وحسن المحيّا”. ولم يكن بايدن يتحدّث سرّاً في مجلس خاصّ، بل علانية مع مراسل صحيفة الـ “نيويورك أوبزرفر”، الذي سجّل الكلام بالصوت أيضاً.
وإذا كان هذا التصريح قد أثار حفيظة السود، واستدعى اعتذاراً صريحاً من بايدن، فإنّ نعت أوباما بالـ “برّاق”، أثار الكثير من التكهنات. فما الذي قصده بايدن بالصفة تلك، خصوصاً وأنه استخدم مفردة Bright وليس Brilliant التي كانت ستُفهم بمعناها الشائع والإيجابي والمألوف، أي “اللامع”؟ هل كان المقصود الإيحاء بأنّ أوباما برّاق البشرة؟ أم برّاق اللسان؟ أم برّاق الهندام؟ ثمّ هل توجّب فهم صفة الـ”نظيف” بالمعنى الحرفي للكلمة، كما ألمح مرشح أسود آخر، غمز من قناة بايدن فأقسم أنه يستحمّ كلّ يوم؟
لكنها رواسب لا تقتصر على الأفراد، إذْ أنّ المواقف، أو السياسات، العنصرية تتجلى بين حين وآخر في سلوك المؤسسات الرسمية والحكومية الأمريكية، سواء على مستوى محلّي يخصّ الولايات، أو على مستوى فدرالي يشمل أمريكا بأسرها؟ هنا أيضاً، من الخير أن يبدأ المرء من مؤسستين كبيرتين، هما وزارة الخارجية ثمّ وكالة الاستخبارات المركزية، بصدد عَلَم في التراث الأفرو ـ أمريكي، هو الفنّان الكبير الأسود بول روبسون (1898 ـ 1976).
وروبسون، باختصار شديد، كان الشطر الأسود الذي لا غنى عنه في كلّ حديث صادق ـ كما في كلّ تشدّق كاذب ـ حول “الحلم الأمريكي”، ذلك المفهوم المكرور الذي صار أقرب إلى “طوطم” لفظي غائم ومتجرد من أيّ معنى ملموس. لقد ولد لأبٍ أفريقي الجذور، قاتل ضدّ الجنوبيين أثناء الحرب الأهلية، وجسّد الدم الذي أراقه السود لتطهير روح أمريكا من آثام تمييز عنصري بغيض. وكان أوّل فتى أسود يتخرّج من مدرسة الحقوق في جامعة كولومبيا، وأوّل ممثّل أسود يؤدّي دور عطيل في مسرحية شكسبير (إذْ كان البيض يقومون بالدور، بعد طلاء وجوههم بصباغ أسود!)، وأوّل قدوة نضالية أمريكية يستلهمها زعماء أفارقة شباب من أمثال جومو كينياتا وكوامي نكروما…
كلّ صفات الـ”أوّل” هذه لم تمنع المؤسسة الرسمية من محاربته، بلا هوادة: وزارة الخارجية سحبت جواز سفره لأنها اتهمته بالتدخّل في شؤون السياسة الخارجية الأمريكية (دافع روبسون عن حقّ الدول الأفريقية في تقرير مصيرها!)، والطغمة المكارثية أحالته إلى المحاكمة أمام لجنة النشاطات المعادية لأمريكا، وأخيراً سهرت أجهزة الـ CIA على ضمان التعتيم الإعلامي التامّ حول نشاطاته الفنية.
وهكذا، يشهد المثالان على أنّ الذكرى الخمسين لمسيرة كنغ، رغم جميع إنجازاتها على الأصعدة الحقوقية والتشريعية، ما تزال بعيدة عن تجسيد الحلم الشهير؛ وبعيدة، استطراداً، عن انتفاء نقيضه… الكابوسي!
موقع 24