لا أحد سعيداً في هذا الاحتفال
حسن داوود
الصورة وزّعتها وكالة الصحافة الفرنسيّة يوم 5 أيلول الجاري، أما المناسبة فالزيارة التي قام بها مبعوث اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر لسجن عدرا الذي يبعد، بحسب ما أرفقت الوكالة، 15 كيلومترا عن دمشق. كما أضافت الوكالة على خبرها أنّ تلك الزيارة هي الأولى التي تسمح بها الحكومة السوريّة للإتّصال بموقوفين لديها.
الصورة مأخوذة من الأرشيف، أرشيف الوكالة طبعا، وهي تعود إلى16 تشرين الثاني من عام 2005. أما موضوعها فدعم المساجين للرئيس بشار الأسد الذي “كان يواجه آنذاك ضغطا دوليّا يتعلقّ بتحقيق الأمم المتّحدة حول إغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري”. لم أشاهد هذه الصورة حين صدورها قبل تلك السنوات الستّ. لكنّني كنت أسمع بما كان يجري من إنزال الركّاب من الفانات ليعلنوا تأييدهم للرئيس آنذاك. وقد وجدت أن هذه الصورة تحمل مشهدا آخر من مشاهد الإحتفال، منقولا إلى السجن من خارجه.
وما يفاجئ في الصورة، للوهلة الأولى، أن يحتفل مسجونون عرب برئيسهم، ليس في مناسبة تحقيقه لانتصار، أو لإنقاذه بلاده من حادث جلل، أو لتحريره قطعة من الأرض كان يحتلّها عدوّ، ولا لمناسبة عيد مولده، أو احتفالا بعفو أصدره عن المساجين عموما أو هؤلاء منهم على وجه خاص، الذين يظهرون في الصورة. فمن المعلوم أن السجناء عندنا هم أقلّ الناس تعلّقا بالرؤساء وحباً لهم. ثمّ أنهم مختلفون عادة، إلى حدّ الفوضى في الغالب، ويصعب أن يقوموا معا بتلك الحركات المتشابهة، هكذا على نحو ما يفعل التلاميذ الصغار في حملات التأييد التي تنظمّها الدولة، حين تُوزّع عليهم الأعلام الصغيرة ليلوّحوا بها أمام موكب السيّارات التي يجلس الرئيس في إحداها.
وفي أغلب الظنّ أن هؤلاء المساجين عوملوا، في هذه المناسبة، معاملة التلاميذ، فقيل لهم أن يرفع كلّ منهم إبهاميه الإثنين، هكذا إشارة إلى الإنتصار، أو الدعم، أو الموافقة. كلّهم فعلوا ذلك، حتى من انشغلت أيديهم برفع الصور، أو بحملها على الأصحّ، ما دامت لم ترفع عاليا كما في حالات التمجيد أو الإحتفاء. وبمناسبة الصور، أو الصورتين المحمولتين، مؤطّرتين، على الخصوص، فإنّهما مما لا يحفظهما السجناء في زنزانتهم، أو في عنابرهم، فهما أكبر ممّا يجب قياسا إلى ضيق الأمكنة التي يتوزّعونها. ثمّ أنّ الصورتين متشابهتان حيث أنّ كلّا منهما مؤطرّة بالإطار نفسه، فضلا عن أنّ الصورة هي نفسها حيث إحداها نسخة عن الأخرى، بما يوحي بأن هناك وفدا مرسلا من جهة رسميّة أتى إلى السجن حاملا الصورتين، وهو سيستردّهما من فور ما ينتهي المصوّر، المرافق، من التقاط صورته.
أما المساجين الذين طُلب من كلّ منهم رفع إبهاميه فلم يفعلوا ذلك باذلين قوّة العصب التي تشدّ الإبهام وترفعه إلى الأعلى. السجين الأوّل الذي في يمين الصورة بدا متردّدا في ذلك. ومثله المسجون الأوّل الذي لجهة الشمال، ومثلهما فعل الآخرون باستثناء ذلك الشاب الطويل في آخر الصورة الذي، لكونه وقف مواجها المصوّر، ربما كان راغبا في أن يظهر كلّه جسما ووجها، وإبهاما، أو إبهامين أيضا.
ولننظر إلى الوجوه. بقليل من التركيز نعرف أنّ الأوّل إلى جهة اليمين يكاد يبلغنا بأنّه لا ينتظر شيئا إلّا انتهاء اللعبة المهزلة ورحيل أولئك الواقفين وراء الكاميرا (الذين لا نشاهدهم) مع صورهم وكاميرتهم. وهو يظنّ أنّه إن أبعد عينيه عن العدسة تكون مشاركته الإضطراريّة أقلّ. أما الذي يقابله إلى جهة الشمال فلا يحبّ أن يظهر على وجهه أيّ تعبير. أما الآخرون جميعهم، ومعهم الرجلان اللذان في المقدّمة، فلا أثر باديا للسعادة على وجوههم، ولا للترحيب بزوّارهم الآتين إليهم، ولا لانسجامهم مع ما يؤدّونه، ولا هم راغبون في إرضاء أحد، ولا يبدو أنّ ذلك الفاصل من يومهم أتى لهم بتسلية. وما يجعل الأمر غريبا هو أنّ الوفد الذي أتى للقيام بمهمّة الصورة هذه أعجبه ما تحصّل له (حتى لو كان المصوّر المرافق عاملا في الوكالة المذكور إسمها أعلاه) فأذن بتوزيعها ونشرها.
لكن تلك الملامح، أليست هي ذاتها التي نشاهدها على التلفزيون، يعترف الرجال فيها بالجرائم التي ارتكبوها؟
“ياللا هات الصورة ولا” يقول الجندي بادئا بتفكيك المشهد. ثم، حين ينتهي من ذلك مسرعا، يخرج من دون أن يقول لأحد شكرا. ويقفل الزنزانة أو العنبر ليعود السجناء إلى ما عرفناه عنهم في كتابي مصطفى خليفة وفرج بيرقدار وسواهما، وفي ما قالته سمر يزبك عن زيارتها المروّعة
المستقبل