لعنة وديع سعادة في السيرة والشعر/ محمد أبي سمرا
في نهار من الصيف الجاري روى وديع سعادة شذرات من سيرته الشريدة المتشظّية، فمزجها بمقتطفات من قصائده، كشواهد على حوادث السيرة، التي بدا أن لا وجود لها خارج شعره الذي يروي سيرة العظام. شعر وديع سعاده تحطيم للأنا والسيرة، ونثرهما شعراً وثنيّاً توراتياً يرتطم بحواسنا ارتطاماً وحشياً مزلزلاً. أليس هو مَن كتب أنه يسمع كلمات تطلع من تحت التراب، تخرج من بين الفكوك العظميّة المتناثرة لموتى دُفنوا من ألف عام؟!
يا وديع، يا وديع، بيّك احترق بشبطين.
فجأة، على الطريق، عائداً من مدرسة البترون الرسمية، سمع الفتى وديع سعادة هذه الصرخة- النداء التوراتي من عمّه. كان في الرابعة عشرة من عمره، مارّاً، كعادته، أمام بيت عمه، بعد ظهر ذاك النهار من العام 1962، في طريقه الى بيت يسكنه مع أخيه الأكبر، على جرف صخري أجوف تتكسر فيه أمواج شاطئ البترون. أخوه كان يعمل مدرّساً في مدرسة خاصة في المدينة، واستأجر ذلك البيت العتيق، فقَدِمَ وديع من شبطين، للإقامة معه ومتابعة تعلّمه في المرحلة المتوسطة، بعد إنهائه مرحلة التعليم الابتدائي في القرية، مسقط العائلة وموطنها، على مسافة 10 كلم فوق تلال سفوح جرود البترون. قبل ذلك كان قد شتّت العملُ في مطاعم وبيوتٍ بيروتية عدداً من أبناء الأسرة الريفية الفقيرة، وبناتها، وأخذت الهجرة أحدهم الى أوستراليا، وإحداهن الى العراق، فسافرت أمها لزيارتها والإقامة عندها هناك، وبقي والد وديع وحيداً في قريته وبيته القديم.
شظايا السيرة شعراً
في نهار من هذا الصيف، أثناء عودة الشاعر وديع سعادة في زيارة للبنان الذي هاجر منه الى أوستراليا منذ العام 1988، دعوته الى رواية سيرة حياته فاستهلّها بذاك النداء القديم، ثم أتبعه برواية ما حدث في غروب ذلك النهار الشتوي من العام 1962: دخلتُ الى بيتنا في شبطين، فابصرتُ والدي هيكلاً عظمياً متفحماً على كرسي، شابكاً يديه إلى ركبته. لكن أهالي الضيعة المتجمعين في البيت أخرجوني من الغرفة، بعدما انتبهوا الى وقوفي بينهم. في ختام خبره هذا عن الحادثة، قال وديع أيضاً: لقد استعدتُ مشهد والدي محترقاً في مقطع من قصيدة “مقعد راكب غادر الباص”، ثم تلا المقطع الذي أُورِدُهُ هنا كما نُشر في مجلد أعماله الشعرية: “شبطين، كانون الأول 1962، أبي – هيكل عظميٌّ محروق ويسند ركبتيه بيديه، وكنبةٌ يخرج منها الدخان/ شعاع قمر يدخل من الكوة/ وعلى المائدة سمكة غير ملموسة، قنينة عرق فارغة، ورقة لوز أمام الباب/ كنت أزن 40 كيلو مع الورقة التي أكتب عليها الشعر/ 40 كيلو مع ابتسامتكَ، مع نظرتكَ، مع يدكَ على كتفي،/ مع سمكتكَ على الطاولة، مع لحمكَ المحروق/ 40 كيلو مع دخانكَ”.
لكن كيف احترق والدكَ، يا وديع، ولماذا؟ سألته، فأجاب: كان يسهر في البيت مع شخص من القرية التي، في أوقات متفرقة، غادرناها جميعاً، نحن أبناءه وبناته، فبقي وحيداً مستوحشاً منتظراً عودة أيٍّ منا. في وقت متأخر من تلك الليلة، رأى جارٌ لنا دخاناً يخرج من نافذة غرفة بيتنا، فنادى أهل القرية ودخلوا الى البيت. الشخص الذي كان يسهر مع أبي غادر الى دير كفيفان، وبلّغ عن الحادثة. حتى اليوم لا أعلم كيف ولماذا احترق والدي.
أنا من دعوتُ وديع سعادة الى رواية سيرة حياته، لا أعلم لماذا تخيّلتُ أن شبحَ انتحار راح يحوّم في مخيلتي الأدبية والسوسيوبسيكولوجية عن الحادثة الغامضة. قد يكون مصدر هذا الشبح ما رواه الإبن الشاعر شفهياً من شذرات سيرة أبيه، وما تلاه شعراً عن الحادثة. من جملة ما رواه وديع، تراءى لي أيضا أن أباه، المولود في العام 1910، ظلّت حياته على حالها منذ طفولته في الحرب العالمية الأولى، مترعةً بالفقر والقسوة والشقاء في شبطين، فلم تُضِفْ اليها سنوات عمره الـ 52 سوى آلام الوحدة والوحشة واليأس والقنوط في كهولته. هذا قبل أن أحدس كذلك أن خيطاً تكوينياً يخترق شعر وديع سعاده، مصدره تأملاته الوجودية في سيرة حياة والده ومصيره. وهو خيطٌ موصول بسيرة حياة ابنه الشاعر الذي يرى ويروي شعرياً أن مبدأ الحياة البشرية، أصلها وفصلها، هي القسوة والعبث والعدم.
كثيرة هي قصائد وديع التي تظهر فيها ظلال والده. أُقلّبُ على غير هدى صفحات مجلّد أعماله الشعرية، فأقرأ في قصيدة “لحظات ميتة”: “حين افترقنا، كان ذلك قرب شاطئ بيتنا الذي استأجرناه معمّراً فوق قناطر، على صخر بحري (…) أبي ظلّ فوق، في الضيعة، مع بيته وشجره، ومع سلّمه الخشبي يقعد على درجته السفلى كل مساء، منتظراً بوسطة القرية الآتية من المدينة علّها تقف على المفرق وينزل منها أحد أولاده. لكن ذلك السلّم ظلّ، لسنوات، لا يرى غير رجلٍ منتظر، ودخانَ سيكارة”.
أنا المستمع الى وديع سعادة، أبصرتُ بصيص سيكارة ذلك الرجل، والده، مستوحشاً وحيداً منتظراً بلا أمل، متجمّداً في الظلام، ويبتلعه الظلام. لكنني لم أسأل وديعاً: هل أحرقت تلك السيكارة – سيكارة الانتظار اليائس، مع قنينة العرق – والدكَ يا وديع؟، بل أقرأ في قصيدته نفسها “لحظات ميتة”: “حين ودّعته لآخر مرة، كان ذلك على الشاطئ. ثم تصاعد من بيتنا دخان كثيف. (…) وصار أبي هيكلاً عظمياً أسود… صعدتُ وألقيت نظرةً أخيرة على فحمه، ومضيتُ حاملاً وحدي حطب الحياة/ حطب الحياة؟ لا، أعتقدُ أنني كنت أحمل براعمَ أيضاً. (…) كان لنا أهل آخرون: الأحلام. وفي حين كنا نمشي الى أحلامنا، كان هناك، في مكان خفي، من يصطادُها، وكانت هي تسقط، مثل أهلنا جميعا”. شفهياً، في روايته مقتطفات من سيرة حياته، قال وديع إن تلك الأحلام أخذت تتساقط كالجثث من سماء لبنان في زمن الحروب. ومن قصيدته نفسها أنقلُ: “عشرات الآلاف هاجروا مذ بدأت (…) المذيعة تنقل أسماء الجثث. (…) أخبروني أن ناساً لم يجدوا الوقت لارتداء أحذيتهم قبل الرحيل(…) قالوا إن الموت وصل فجأةً وهم نيامٌ (…) وصل فجأةً من سماءٍ كانت قبل يوم تمطر عليهم وعلى حقولهم”. ثمّ في مقطع آخر أقرأُ: “كنت طفلاً حين كان أبي يحدّثني عن الحروب (…) عن ضحايا رصاص وضحايا جوع وضحايا مرض. عن موتى لم يجدوا أحباء لدفنهم.(…) قال لي إنه كان واحداً منهم، ووجد نفسه في عمر الخامسة متسولاً خائباً من بيت الى بيت، وباحثاً في الغابات عن عظمة يطحنها بالحجر ليستطيع التهامها”.
أليس هذا المشهد الشعري- الروائي توراتياً بامتياز؟ لكن المفاجئ، أو ما فاجأني في ما سمعته من مقتطفات سيرة حياة وديع سعادة الشفوية المتشظية، هو طيف الشبه بين بنية الخبر وأسلوبه في روايته الشفوية، وبنيته وأسلوبه الشعريين في القصائد. المفاجئ أكثر من طيف الشبه هذا، مقدرة الشاعر الغريزية أو الفطرية الفذة على تحويل سيرة حياة والده الموصولة عضوياً بسيرة حياته – ومن ورائهما أو في خلفية المشهد وقائع حياة الفئات العاميّة الأشد فقراً وقسوة وشقاء في الريف اللبناني، منذ الحرب العالمية الاولى حتى حروب اللبنانيين الأخيرة (1975 – 1990) – تحويله هذا كله مشاهد، بل لوحة جدارية توراتيّة نادرة في الشعر العربي الحديث، ولا تذكّر الا بما كتبه الشاعر الكردي السوري سليم بركات في “كل داخل سيهتف باسمي وكل خارج أيضاً” وفي “كنيسة المحارب”، والمختلف صوته الوحشي بكرنفاليته اللغوية عن صوت وديع سعادة المتقشف لغوياً. وها هو ذا وديع يكتب في قصيدته نفسها “لحظات ميتة”: “إنهم يحصدون بعضهم في الشمال، ويحصدون بعضهم في الجنوب، ويحصدون بعضهم في الجبال، ويحصدون بعضهم في المدن”. لكنه فجأةً ينتبه: “قبل أيام كانوا رفاقاً. زاروا بعضهم بعضاً وشربوا القهوة وتواعدوا للقاء الأحد المقبل وفجأة تلاقوا مدججين بالسلاح. وتقابلوا أعداء وجثثاً. المذيعة تنقل أسماء جثثهم، وتنهي بأغنية”. أليست هذه أجواء جيل حرب السنتين اللبناني (1975 – 1976)، الذي انتقلت فئات واسعة منه من الجامعات ومن فتنتها بنفسها وبالتظاهرات الحاشدة في شوارع المدينة، الى متاريس الحرب وتهاطل الجثث؟!
هذا كله حملني، فيما أستمع الى وديع، على التفكير في أن ما يتذكره ويرويه شفهياً من حوادث حياته المبعثرة بلا سياق ولا نظام، مصدره كتابته الشعرية، ولا وجود له خارج شعره. أو أنه من الشعر وبالشعر امتلك سيرة ورواية مشهديتين، شبه توراتيتين لحياته وحياة والده، وللحوادث العامة من حوله، وللوجود وأفعال البشر، من دون تمييز بين الحياة والشعر، بين الخبر عن الحياة والحياة نفسها وروايتها شعراً أو نثراً. بل إنه غير معنيٍّ أصلاً بهذه التمايزات والفروق، ليقيم لها وزناً حين يكتب ويتكلم. فحياته وكلامه وسيرته ورؤيته للوجود، كلها صنعها وخَبِرَها بالشعر. الشعر الذي هو عنده نطفة الحياة، مادتها الفجة. وإلاّ كيف له أن يخبركَ شفهياً حوادث من حياته وحياة والده، كما خَبِرها وكتبها شعرياً، من دون أن يخشى التصريح بأنه جعل الحوادث مادة للشعر، وجعل الشعر خبراً عن الحوادث، وسجلاً شبه وثائقي لرواية الحوادث الواقعية؟!
تأريخ تراجيدي للريف اللبناني
قبل رواية حادثة احتراق والده وتلاوة ما كتبه عنها في قصيدة تروي مقتطفات ومشاهد متشظّية من سيرته، ذكر وديع سعادة أنه ولد في العام 1948، في شبطين، ثم استعاد في جملة شفهية واحدة صورة إجمالية عن الحياة فيها في طفولته وصباه، فقال: كان الناس والفلاحون والمواشي والشجر يعيشون في نوع من الحميمية، كأنهم عائلة واحدة. ويخيّل لي أن الصورة هذه كانت لا تزال على حالها منذ ولادة أبي سنة 1910، وعمله فلاحاً “بالفاعل”، أي عاملاً زراعياً مياوماً في أراضي أهالي الضيعة. وبما يتوفر لديه من عمله هذا، كان يشتري أرضاً حرجية وعرة يعمل مع أمي، سليلة عائلة الياس الشبطينيّة، على اقتلاع الأشجار البرية منها، لتحويلها أرضاً لزراعة التين والزيتون. كانت أمي يتيمة الوالدين منذ طفولتها، فتولّت شقيقتها الكبرى إعالتها وتربيتها، قبل زواجها من والدي في سن السادسة عشرة، وكان شقيقها هاجر الى البرازيل وانقطعت أخباره، منذ مطلع عشرينات القرن الماضي، وربما في سني الحرب العالمية الأولى أو بعدها بقليل. عن أمّي في قصيدتي “مقعد راكب…”، كتبتُ: “قدمُكِ يا أمي التي تقيس 20 سنتيمتراً/ حذاؤكِ الذي صنعه لكِ شقيق أبي سنة 1957، ولا تزالين ترتدينه الآن/ أظافرك الطويلة وأنتِ تنتظرين أن يبتسم وديع لتسأليه: هل تقصّها لي؟/ ركبتاكِ الزاحفتان على الشوك والحجارة نحو ضريح قديسة، ليتوقف أبي عن السكر/ فستانكِ الوحيد كأنه لاصقٌ بجسدكِ، جسدكِ المترهل الذي خرجتُ منه ذات يوم حاملاً عينين صغيرتين وأصابع بالكاد تحتمل الهواء”.
في الخبر الشفهي، كما في الخبر الشعري، تبرز أصداء المرجع التوراتي لرؤية وديع سعادة ومخيلته. كأن البشر فيهما لا يزالون، هنا والآن، توراتيين، أو هو يعيدهم الى زمن توراتي، زمن الأخوين قابيل وهابيل.
أما عن شبطين في بدايات وعيه، فروى وديع سعادة أنها ضيعة صغيرة في قضاء البترون، قريبة من زان ودريا وكفيفان. أهلها في معظمهم من المسيحيين، ومن عائلاتها، الى عائلته سعادة، نجم وبدوي وصالح والياس ونون. أهل هذه القرى كانوا فقراء يعملون في الزراعة ويعتاشون من أرضهم، مداخيلهم الأساسية من شتلات التبغ وأشجار الزيتون. منذ طفولته وفي صباه عمل وديع نفسه في الأرض، غادياً في الفجر، مع أهله وسواهم من أهالي الضيعة، الى الحقول لقطف التبغ ونشره على المناشر. لم تكن هنالك من فروق وتمايزات طبقية تذكر بين الأهالي المتساوين تقريباً في تملّكهم الأراضي التي يعملون فيها ويجنون محاصيل مواسمها، من دون وجود وجهاء وملاّك كبار أو إقطاعيين. آل سعادة عائلة كبرى، وهي منتشرة وموزعة على كل المناطق والطوائف اللبنانية، وفي شبطين كانت تتنافس مع عائلة نجم على النفوذ والترشح للانتخابات النيابية. وفي الرواية التأسيسية للقرية، يقال إن عائلاتها وفدت اليها من بجّة في بلاد جبيل، إثر خلافات وصراعات عائلية هناك.
عن الهجرة والمهاجرين، ومنهم بعض إخوته، كتب في “مقعد راكب غادر الباص” قصيدة عنوانها “الهجرة”، منها نقتطف: “حين ذهبوا لم يقفلوا أبوابهم بالمفاتيح/ تركوا أيضاً ماء في الجرن، للبلبل والكلب الغريب الذي تعوّد أن يزورهم/ وبقي على طاولاتهم خبز(…)/ لم يقولوا شيئاً قبل أن يذهبوا/ لكن صمتهم كان كعقد زواج مقدس/ مع الباب، مع الكرسي، مع البلبل والإبريق والخبز المتروك على الطاولة./ الطريق التي شعرت وحدها بأقدامهم لا تذكر أنها رأتهم بعد ذلك/ لكنها تتذكر ذات نهار/ أن جسدها تنمّل من الصباح الى المساء بقمح تدحرج عليه/ ورأتْ في يوم آخر أبواباً تخرج من حيطانها وتسافر/ (…) ويقول الذين بقوا في القرية/ إن كلباً غريباً كان يأتي كل مساء/ ويعوي أمام بيوتهم”. هذه الشذرات من السيرة وما يقابلها من مقتطفات شعرية، تؤرّخ مشهدياً للحظات من حياة الريف في لبنان: ما بين نهايات الزمن العثماني والحرب العالمية الأولى ونشوء دولة لبنان الكبير، وصولاً الى مطالع الستينات اللبنانية من القرن العشرين. بل حتى لحظة وقوف وديع سعادة على رصيف شارع الحمراء في بيروت مطالع السبعينات، حاملاً نسخاً من مجموعته الشعرية الأولى، “ليس للمساء أخوة”، مخطوطة بيده، ليبيعها من المارة العابرين في الشارع المزدهي بحياة روّاده المحتفلين بأنفسهم، بصورهم عن أنفسهم، وعن بلدهم بوصفه درة الازدهار والتمدن على الشاطئ الشرقي للمتوسط وفي دنيا العرب.
مصادفة ما، أدت إلى أن يكون والدا وديع سعادة من الناجين من كارثة الحرب العالمية الاولى. لكن مصادفة نجاتهما، ككثيرين سواهما، لم تنطلق بهما، على خلاف كثيرين من أمثالهما، لينفتح لحياتهما أفق جديد يحرّرهما أو يخرجهما مع أولادهما العشرة لاحقاً (6 صبيان و4 فتيات) من القلّة والعسر والفقر. قال الراوي الشاعر إن حال والده تلك، انعكست شحّاً وعسراً في الكلام وضيقاً به. أنا المستمعُ اليه في كلامه عن أبيه، تراءى لي أبوه أنه ظلّ على حاله طوال حياته، كسواه ممّن شاءت الأقدار ألّا تتغير حياتهم، أن تتجمّد حياتهم، في خضمّ انطلاق البلاد في حقبة اجتماعية ناهضة غيّرت أحوال فئات واسعة من اللبنانيين منذ 1920 فصاعداً.
والدي – روى وديع سعادة – كان طفلاً في الرابعة في الحرب الأولى. أخبرنا عن الجوع والجراد، وذهابه مع كثيرين الى الأحراج بحثاً عن عظام يدقّونها بالحجار ليسهل أكلها. كسواه جاع وتشرد، وشحذ رغيف الخبز. أخبرني أيضاً أن الجوع والتشرد أوصلاه الى طرابلس، فطرق باباً، متسولاً شيئاً يأكله. رجلٌ فتح الباب وبادره بالسؤال: أنت مسلم أم مسيحي؟ عندما قال إنه مسيحي نهره الرجل ورفع يده ليضربه. في مجموعتي “محاولة وصل ضفتين بصوت”، المنشورة عام 1997، وتحديداً في قصيدة عنوانها “في النفق… في العظمة”، كتبتُ: “كان أبي في الحرب يبحث في البراري عن عظمة، ليطحنها بحجر ويسدّ جوعه. من نسل تلك العظام المطحونة خرج أطفال، كنت واحداً منهم. كنتُ ابن عظمة مطحونة./ في العظمة، ينفتح الآن نفق، فيه برارٍ وحيوانات، وفيه أبي يمشي من جديد، في البراري./ يمشي وأنا معه يداً بيد، نبحث عن عظمة./ نمشي في قلب عظمة، ونبحث عن عظمة. وحين رأيناها أخيراً، كنا صرنا بعيدين./… كنا صرنا عظمتين، فيهما نفق، وناس يبحثون عن عظام./ (…) أدير رأسي الآن وأنظر: الى الضائعين في نخاع العظام، الى الواقفين على أرصفتها، الى المادِّين أيديهم لاستعطاء مخرج (…) الى الباحثين عن حجر ليطحنوا عظمتهم ويأكلوها (…)/ حين رميتُ نخاع العظام فتحتُ، معبري. كان الفراغ هو الطريق. كان الفراغ هو الحجر”.
في هذا الفراغ كتب وديع سعادة شعره كلّه.
في قصيدة وديع سعادة، العالم والوجود والكينونة في حال من الانغلاق التام داخل عظمةٍ مرمية في غابة. التاريخ والتحولات والبشر مرئيون في عري العظمة التي طحنها رجل متشرّد ليسدَّ بها جوعه في طفولته في الحرب العالمية الأولى، وتحوّل هيكلاً عظمياً متفحماً في ليلة موحشة من حياته كهلاً وحيداً في بيته المهجور. هكذا يلخّص وديع سعادة العالم إلى عظمةٍ وحجر، كأنه فيلسوف أو حكيم وثني وراوية توراتي في نهاية القرن العشرين الذي في منتصفه، بدأت “الحقول تُهجَرُ حقلاً حقلاً، والأشجار تسقط مع سقوط أصحابها في الهجران وفي الحرب وفي الموت. (…)/ وكان هناك شجر يجوعُ، وشجر يَيْبَسُ، وشجر يُحْرَقُ، وشجر يُذبح، وشجر يقاوم منتظراً ناساً لا يستطيعون الوصول، وناساً سقطوا على الطريق، وناساً رحلوا الى بلدان بعيدة”. لكن الشاعر سرعان ما يسأل نفسه: “ولكن لماذا أتذكر تلك اللحظات من أيام تبدو لي صدِئة مثل لافتة طريق مدروزة بالرصاص؟” (من قصيدة “لحظات ميتة”).
في العتمة والخطأ
يتابع وديع سعادة رواية مقتطفات من سيرته المتشظية شعراً باهراً في قصائده: بيتنا في شبطين قديم، حيطانه ترابية، سقفه تراب. البيوت القديمة كانت تليَّس بالطين. بيتنا في داخله قناطر. في الشتاء كنا نحدله بالمحدلة، كي لا يدلف علينا في الداخل. سماكة حيطانه تبلغ المتر. لذا كنت في طفولتي أنام على الحائط، في الشباك. بكْرُ إخوتي الذي يكبرني بثلاثين سنة، وحده تعلّم تعليماً معقولاً في معايير تلك الحقبة، ما بين الحربين العالميتين، فنال شهادة البكالوريا، وأخذ يدرّس في البترون. إخوتي الباقون لم يتجاوز أيٌّ منهم شهادة السرتفيكا. أخواتي لم تذهب أيٌّ منهن قطّ الى مدرسة. لديّ أخ مهاجر في أوستراليا، وآخر في هولندا. الباقون يعيشون في لبنان، وتوفي بعضهم.
سوى مشهد طحن عظمة بحجر، المتناسل قصيدةً وجودية مروعة لسيرة حياته كلها، قال وديع سعادة إنه لا يتذكر شيئاً ذا أهمية من مرويات والده. كأنه يقول إن ما يتحول شعراً لديه، وحده قابلٌ للتذكر والرواية والخير. فمن حياة والده كلها طوال 52 سنة، لا شيء قابلاً للرواية سوى مشهدين اثنين: مشهد عظمة يطحنها بحجر كي لا يموت جوعاً في طفولته. ومشهده هيكلاً عظمياً متفحماً على كرسي. الأرجح أن هذين المشهدين لوالده يشكلان معاً بؤرة أساسية في شعره كله. بالمشهد الثاني أنهى طفولته التي يتذكر منها أيضاً أن والده كان قاسياً صارماً في تربية أولاده، على خلاف أمّه الحنونة. فعندما كان أولاده يلمحونه قادماً من الكنيسة نهارات الأحد، كانوا يهرعون فوراً الى داخل البيت. كل خطأ يقترفونه كان كفيلاً طردهم من البيت، والنوم في العراء، حتى في أيام الصقيع والثلج. لكن ابنه الأصغر وديعاً، يعتقد أن والده القليل الكلام، كان يحبّه، لأنه صغير البيت، ولا يذكر أنه ضربه مرةً.
أما ما يتذكره صغير البيت من طفولته في القرية، فموصولٌ بعضه بما تشرَّبه من الدين في شعائره وتعاليمه، ممزوجاً بالخوف والتهديد والوعيد والأوامر والنواهي، وبإجباره على الاعتراف، في الكنيسة، بخطايا لم يقترفها أو لم يشعر بأنه اقترفها. الدين في طفولته كان موصولاً بالموت، وبالفكرة الدينية عن الجحيم والنعيم. وحدها علب السردين الفارغة المربوطة بخيط لجرّها به سيارة متخيلة على الإسفلت، كانت، كسواها من المهملات، من ألعاب طفولته. وحين بلوغه المراهقة، أنشأ مع أولاد عمه ما سمّوه “المجتمع الصغير” لتدوين خواطرهم على أوراق يجمعونها كمجلة.
هل من هذه السابقة وُلدتْ لديكَ، لاحقاً، فكرة كتابة “ليس للمساء إخوة” بخطّ اليد وتوزيعه يدوياً على رصيف شارع الحمراء؟، أسأل وديعاً، فيحيلني على مقطع من قصيدته – السيرة المتشظية في “مقعد راكب…”، حيث كتب: “واقف في شارع صغير، أمدّ يدي للمارة/ أنت تعرف يا جاد (جاد الحاج)، كان ينقصنا ربع ليرة للوصول الى ساحة البرج/ مبسطٌّ في شارع الحمراء، مبسّط أمام كلية الآداب، قرب بائع فستق سوداني، أبيع “ليس للمساء إخوة”/ بعد ذلك المعامل في أوستراليا، النهوض في الرابعة صباحاً وانتظار الباص، والوقوف تسعة أشهر أمام آلة في مصنع هولدن لجمع تذكرة العودة الى بيروت/ ثم 1975/ وحقيبةٍ أمشي بها بين قرية وقرية بائعاً الاسعافات الأولية للمسنّين”.
أين كتبتَ مجموعتك الشعرية الأولى هذه؟ أجاب: “أنهيت المرحلة التعليمية المتوسطة ونلت شهادة البروفيه في البترون، ثم عدت للإقامة في شبطين مع أمي وطيف والدي المحترق، وبدأت أكتب. لا أدري كيف أمضيت تلك المرحلة وكم من الوقت استغرقت، سنة، سنتين أو ثلاثاً، من دون أن أزاول أي عمل. بلى، ربما عملت في معمل للسماد قرب البترون، وفي سواه من المعامل. لكن كأن تلك الحقبة غائبة أو ممحوّة تماماً من ذهني وذاكرتي.
أفتحُ السجل الشعري لحياة وديع سعادة، وأقرأ في قصيدته “لحظات ميتة”: “في تلك القرية البعيدة، على أرض بيت من تراب، مشيتُ أولى خطواتي وكانت قدماي حافيتين. لم يكن أبي من المؤمنين بأن على الواصلين لتوّهم الى الأرض أن يتعرفوا اليها بلحمهم، لكنه كان عاجزاً عن شراء حذاء. كنت أعرف أن الأحذية التي أرتديها هي أحذية إخوتي (… التي) كان لها تأثير كبير في حياتي: في حزني المبكر، وحزني اليوم، وخجلي، وضعفي، وفشلي في الحب والحياة. ولا شك كانت سبباً في هجري المدرسة، وتشردي، ونومي على الطرقات. حتى في نحول جسدي وتوقف نموّ طولي، وفي جلوسي الآن وحيداً في هذه الغرفة التي غاب عنها الشعاع، بسبب غيمةٍ على الأرجح”.
هذه الجملة الأخيرة التي تتكرر كلازمة في القصيدة، اختارها وديع سعادة عنواناً لمجموعته الصادرة عام 1992، بعدما كتبها في أوستراليا، مستعيداً إقامته وحيداً في غرفة مطلة على البحر في صربا، على ما يرد ذكره ويتكرر في القصيدة نفسها التي كتب فيها أيضاً: “كان مصنع السماد يضخّ حبوباً كأنه يضخّ ذكرى الماضي”. أي ذكرى ماضيه الذي يستعيده، أو تحضر لحظات منه، لا إرادياً في رؤاه، وفي كيميائه الشعرية التي تتدفق فيها سيرة حياته، حوادثها ومشاهدها الممحوّة أو الضائعة أو المنسية، فتتدافع المشاهد والذكريات، ذكرى تجرُّ ذكرى، وذكرى تتناسل من ذكرى داخل ذكرى، فيحضر هذا المشهد: “على بوابة المصنع عشبةٌ تكبر يوماً بعد يوم، كأنها تتمتع وحدها بحياة السماد. كانت تلك العشبة آخر ما نظرتُ إليه وأنا أغادر”.
الى أين غادر وديع يا ترى؟ روى شفهياً أن وفاة والده غيّرت خططه، ولم يعد جوّ المدرسة وحصرها يلائمه، بعد ختامه المرحلة التعليمية المتوسطة (البروفيه). أقاطعه سائلاً إياه عن حياته المدرسية طفلاً في شبطين، وفتىً في مدرسة البترون الرسمية، وإن كان شعر بأنه وحيد وغريب في طفولته وفتوته؟ سوى حادثة احتراق والدي – قال – لا أكاد أتذكر إلا القليل من حوادث طفولتي وفتوتي اللاحقة، ولا أتذكر أيضاً إن كنتُ شعرت بأنني وحيد أو غريب، قبل إنشائنا ما سمّيناه، أنا وأبناء عمي، “المجتمع الصغير” الذي جعلناه سلوتنا ومداراً لتميّزنا وبثّ أحلامنا التي رحنا ندوّنها على أوراق دفاتر مدرسية.
أنا المستمع إليه، فكرتُ أن وديعاً الطفل والفتى كان يعيش شبه منوّم، قبل أن يصحو، فجأةً، على المشهد الكابوسي لوالده محترقاً في البيت. وقد يكون ذلك المشهد محا تماماً ما قبله من ذاكرته، أو مَلَكَ عليه ذاكرته ووعيه السابقين واللاحقين، وأخذه أخذاً الى الكتابة والشعر. الشعر الذي يبدأ من ذلك المشهد وإليه ينتهي. الشعر الذي منح وديع سعادة الشخص والشاعر، ذاكرةً وسيرة روائية توراتية لحياته، مدارها ومدادها الأهل وتشردهم، الكائن البشري والطبيعة، مذ كانت الخلائق كائناتٍ تسعى على هذه الأرض التي كانت مرةً امتداداً لأجسام البشر وأيديهم وحواسهم، ثم صارت قفراً مهجوراً، منذ أن تحوّل ذلك الرجل – آدم وديع سعادة – هيكلاً عظمياً متفحّماً في بيت عتيق مهجور.
من ذلك البيت العتيق، قبل أن يصير مهجوراً، كان وديع الطفل يمشي مع أخ له يكبره بسنوات أربع، هابطين تلّة تدعى القطلب، ويسيران في وادٍ، ثم في حرج، يصعدان بعده تلةً مقابلة، فيصلان، بعد أكثر من نصف الساعة، الى مدرسة شبطين الرسمية. أسأل وديعاً عن معلّم في تلك المدرسة ترك لديه انطباعاً ما، أثراً ما، فقال إن المدرسة تلك لم يكن فيها سوى مدرّس واحد علّمه وغيره من التلامذة القليلين طوال السنوات الخمس في المرحلة الابتدائية. من تلك السنوات يتذكر وديع بوسطة الضيعة تنزل فجراً، متجهة الى بيروت، وتعود منها في المساء. ويتذكر أيضاً مشهداً له يجرّه والده بيده، كما في منام، في شوارع بيروت.
سألته عن سنواته الأربع أو الخمس اللاحقة في البترون، في مدرستها الرسمية، فروى أنه كان من البعيد يشاهد فتياتٍ جميلاتٍ في ذهابهن الى الكنائس في الآحاد. أما في ذلك البيت العتيق على الجرف الصخري فوق الشاطئ، بيت أخيه البكر، فكان يغفو ويصحو على صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، آتياً من جامع قريب. كان يدرك أن الصوت الرخيم يتلو آيات من القرآن، ويرفع الأذان ليأتي المصلّون الى المسجد. حتى الآن لا تزال تحضره المشاعر نفسها، كلما سمع الأذان وتلاوة من القرآن: حزن رخيم يفتح في مخيلته أمداء غامضة، وفي نفسه شعوراً بالامتداد الماورائي. ألم يكن ذلك الصوت يبعث في وعيك ونفسك الخوف الذي كنت تخافه من الدين في طفولتك في شبطين؟ أسأله، فيقول إن ذلك الصوت لم يُشعره، لا في السابق، بالخوف، ولا اليوم: أختان لي تزوجتا من رجلين مسلمين، أحدهما شيعي والآخر سني، وهما أقرب إليّ من إخوتي. حمل وديع السؤال على محمل السوسيولوجيا الطائفية في المجتمع اللبناني. عندما ألححتُ في سؤاله عن حمله الصوت ذاك على الدين أم على الإنشاد الفني، قال إنه كان يأخذه الى عالمٍ آخر. ثم تذكر صوت المذيعة ناهدة فضل الدجاني في برنامجها “مع الصباح” تقرأ أشعاراً استوقفته وأحبّها وداوم على سماعها في صوتها الصباحي الرخيم الذي كان يبعث في نفسه، كصوت عبد الباسط عبد الصمد، مشاعر لم يستطع تحديد وقعها الغامض الغريب عليه، تماماً كأصوات الأمواج الليلية التي كانت تضاعف خلوته بنفسه، كلما سمعها من تحت البيت العتيق على شاطئ البترون.
اشتغل وديع عاملاً في معمل السماد، ثم غادره. لكن الى أين؟ الى بيروت على الأرجح. كان ذلك – قال – في العام 1968، حيث كان أخ له يقيم في فرن الشباك، فأقام عنده وعمل لسنتين في مدرسة “السيدة” القريبة. حمل معه أوراق قصائده الأولى التي كتبها في شبطين بعد عوداته إليها في الأمسيات من معمل السماد. في منزل أخيه في فرن الشباك تابع الكتابة، وأخذ يتردد الى مقاهي شارع الحمراء. كيف ومع من ذهبت الى الحمراء في المرة الأولى؟ سألته، فقال: أذكر أنني ذهبتُ الى الـ”هورس” شو، وجلستُ حيث كان المثقفون يجلسون. جاد الحاج كان صديقي ومقيماً في بيروت، فكتبنا قصيدة مشتركة نشرها أنسي الحاج في “ملحق النهار”، وتعرفتُ إلى أنسي وسركون بولص وآخرين في المقهى. مرةً كنت في الـ”هورس شو” مع سركون وغادة السمان التي كانت غريبة الأطوار، وتشكل ظاهرة في الوسط الثقافي والأدبي آنذاك في مطالع السبعينات. في الساعة الثالثة فجراً طلبت منا أن نذهب معها الى مدافن الزيتونة لندفنها هناك. حين دخلنا المدافن تمدّدت على صخرة، فأخذنا، سركون وأنا نرثيها ونندبها. بعدما أنهينا مراسم دفنها، أقلّتنا في سيارتها الى بيت أخي في فرن الشباك، وعادت الى غرفتها في الفندق الذي كانت تنزل فيه.
في العام 1973، هاجر وديع سعاده هجرته الأولى الى أوستراليا التي كان أخ له قد سبقه اليها بسنوات كثيرة. وقف قبل ذلك في أمسيات كثيرة على رصيف شارع الحمراء، بائعاً نسخ مجموعته الشعرية الأولى، وهاجر. في قصيدة منها كتب: “في هذه القرية/ تُنسى أقحوانات المساء/ مرتجفة خلف الأبواب/ في هذه القرية التي تستقيظ/ لتشرب المطر/ انكسرت في يدي زجاجة العالم (…) /هذه المياه وهذه المراكب/ تقود عميان/ نسوا أنفسهم على أرصفة الضوء/ ونسوا/ أن يرفعوا شبكة العمر./ لو كانت لك نجمةٌ صغيرة/ ولو فتح الليلُ أحياناً حياته/ لأعواد ثقابك/ ستأخذ غير الضوء طريقاً/ وتطلُّ في وقت غير مناسب على نافذة العالم”.
مذذاك، بل قبل ذلك بكثير، وربما منذ الطفل، كان قدر وديع سعادة أن يسلكَ العتمة طريقاً، ويطلَّ على العالم في الوقت الخطأ. من العتمات، من المطلِّ الخطأ، وُلِدَ شعر وديع سعادة، وولد شاعرا. في مجموعته “نصُّ الغياب” المنشورة في العام 1999، كتبَ: “… في البدء لم يكن كلام، كان الصمت. وحين انبثقت الكلمات بدأ طريق الموت./ (…) العتمة وحدها قد تكون الحياة، (…) /حين نتكلمُ، نرصفُ جثثاً./ في البدء لم تكن الكلمة إذن، ولا الله، بل كان الخطأ”. هذا قبل أن يخاطب الله في القصيدة نفسها: “كيف يمكنُ أحدٌ كلّيّ الكمال أن يخلقَ كوناً بهذا النقص الرهيب؟ (…) أين هو أريد أن أراه، أريد أن أعرف إن كان فعلاً بكل هذه البشاعة!/ الخطأ انبثاقُنا ولغتنا. (…) وفي حنجرته قنبلةٌ تكاد تنفجر، أرضٌ حائرة لا تعرف كيف ستدفنُ سكانها”.
تشرّد وهجرة أخيرة
بعد “ليس للمساء أخوة” وهجرته الأولى الى أوستراليا، كتب عصام محفوظ في صحيفة “النهار” مقالة أورد فيها: “انفتح باب الشعر لوديع سعادة. العام الماضي زارنا وديع وأهدى إلينا مجموعته. نعيد نشر قصائدها هنا، لئلا تضيع”. لم تضِع المجموعة، لكن الشاعر تابع تشرده، إثر عودته من أوستراليا بعد أشهر، فعمل موزع أفلام تصوير فوتوغرافي في شركة “كوداك”. عندما اندلعت الحرب في العام 1975، وجد نفسه يعمل في معمل للكيميائيات في سلعاتا، ويكتب مقالات وتحقيقات في صحيفة “النهار”. لكنه سافر فجأةً الى لندن. فجأةً تذكر أنه، قبل “ليس للمساء أخوة” وهجرته الأولى الى أوستراليا، أمضى مدة، ربما لشهرٍ، هائماً على وجهه في أوروبا. قد يكون مقطع من قصيدة كتبه عن تشرده آنذاك، ذكّره بتلك الرحلة المنسيّة، فروى أن أمّه في شبطين أعدّت له حقيبة ضخمة ملأتها بكل شيء، حتى بالإبر والخيطان، كأنه مهاجر. من مطار بيروت استقل طائرة مجرية بطاقة السفر فيها رخيصة، فوصل الى باريس، حيث اصطحبه كاهن الى مأوىً للعجزة، فنزل فيه. فجأةً قال وديع: عن ذلك كتبتُ في “مقعد راكبٍ…”: “نائماً في مأوى العجزة مع 150 عجوزاً يسعلون طوال الليل ويذهبون بالدقائق الى المراحيض”. شفوياً تابع: في اليوم التالي نزلتُ في فندق رخيص، قدّمتُ لصاحبه قنينة عرق، لقاء ترويقةٍ صباحية، ثم جبت مدناً وأريافاً فرنسية في سيارات الأوتوستوب.
مع حقيبة أمّك الكبيرة؟ سألته، فاستعاد ما كتبه في “مقعد راكب…” أيضا: “على الطريق مع حقيبة كبيرة، رامياً أغراضها قطعة وراء قطعة وقارئاً على جذوع الشجر: الصيد ممنوع”. ثم تابع شفهياً: كان هدفي أن أجوب في العالم، أن أرى العالم، باحثاً عن مكان ما أستقر فيه. في القصيدة إياها، كتبتُ: “نائماً تحت (…) الباصات في ثلج كانون الثاني/ (…) في هندايا، بيدين فارعتين أخيراً على الحدود الإسبانية، وتنقصني عشرون بيزيتا للوصول الى مدريد”. لكنني – شفهياً تابع – عدتُ الى باريس كما غادرتها بالأوتوستوب. أخي الذي كنت عنده في فرن الشباك، أنجدني بثمن بطاقة العودة الى بيروت، فوزعت “ليس للمساء أخوة”، وأهديت منه نسخاً إلى عصام محفوظ وشوقي أبي شقرا، وهاجرت هجرتي الأولى الى أوستراليا التي عدتُ منها وعملت في مجلة “الدستور” مدة في بدايات الحرب، قبل سفري الى باريس وعملي هناك في “النهار العربي والدولي” ما بين 1977 و1981. من باريس الى بيروت مجدداً مع “النهار العربي والدولي” التي تركت العمل فيها العام 1986، لأعمل في اليونان مع جاد الحاج وسركون بولص في ترجمة قصص لشركة نشر هناك. قبل ذلك في العام 1981، كنت قد تزوجت من أورور طراد التي تعرّفت اليها في منزل الشاعر يوسف الخال، وجلساته الجامعة أيام الخميس في غزير. أخيراً في العام 1988 هاجرتُ مع زوجتي وولديّ الى أوستراليا، حيث من الصفر بدأنا حياتنا. أنا الآن متقاعد من العمل، وأتقاضى مرتباً تقاعدياً هناك. أولادي بلدهم أوستراليا، ولبنان بلد أمهم وأبيهم.
جنين يولد من عذراء
هذه المقتطفات التي رواها وديع سعادة شفهياً، مستعيداً شذرات من سيرة حياته، وكذلك مقتطفات قصائده في سياق السيرة، أليست من نثر الحياة اليومية العادي؟
نعم ولا. فبين صوره الشعرية ونثرها العادي في السيرة صلة عضوية رحمية، ومسافات ضوئية، في وقت واحد. شظايا السيرة المستعادة في قصائده تولد شعراً خالصاً، لكن كولادة جنين من عذراء. في هذه الولادة أو التوليد الشعري للسيرة والعالم، تتخالط وتتمازج الذاكرة الحسية المادية، الحدس الوجودي، الخبرات، التجارب، الأزمنة والأمكنة الشخصية والجمعية العامة، في تركيب كيميائي يحوّل الحساسية الأتنوغرافية والأنثروبولوجية الفطرية، شعراً مادياً، رائياً وروائياً، ترفعه فطرة وديع سعادة الحدسية الى عمل تراجيدي ملحمي، مصدره الأول الحياة الريفية اللبنانية، منذ “انكسرت في يده زجاجة العالم”، وصولاً الى الخلاص من تراجيديا الكائن البشري، حيث: “لا حياة بالكلمات/ (…) امنحوني عدماً. أريد الجمال./ (…) فوق أرضٍ لم تعد لي شراكة فيها ولا مكان/ (…) أعلو عالياً بلا كلام بلا نظرة بلا رسالة./ (…) أطير خفيفاً/ (…) أسبح في الفضاء، فوق بلدان اندثرت. فوق بشر لم أعدْ وريثهم ولا عادوا نسلي. أطير وأنظر الى الصحراء تحتي. الى غياب الأمكنة. الى استحالة أن ينزل الطير بعد./ أطير أطير، وأبتعد./ أصير نقطة ممحوّةً… وأختفي” (من مجموعة “نص الغياب”).
من رحم المدرسة اللبنانية في الكتابة الشعرية والنثرية، ولد شعر وديع سعادة. على هوامشها حبا في بداياته، قبل أن يكمل طريقه على النقيض منها وضدّها، في العتمة. فجاء شعره، في مادته ولغته المتداخلتين عضوياً ورحمياً، جنّازاً ملحمياً صامتاً، وخالياً من كل ألوان الغنائية، لقسوة البساطة الفطرية للطبيعة والبشر في الريف اللبناني، ثم للكائن البشري على الكوكب. هذا ما يجعل شعره تكسُّراً دائماً ومتواصلاً للأنا، على الضد والنقيض من صناعة الأنا المتعالية الكريستالية، الوعظيّة والنبوية، والمادِحة نفسها وعظمتها، في معظم الشعر العربي الحديث. وعلى الضد والنقيض من المدرسة اللبنانية التي تحوّلت، في أعمال كثر من أعلامها، إنشاءً لغوياً للريف والطبيعة، فانفصلت اللغة وألفاظها عن مادتها الحيّة، عن التجربة الحيّة للبشر، وتحوّلت أصناماً متحفيّة، بل صارت تحفاً معبودة تُرصّع ستاراً من الإنشاء اللفظي الطوطمي المفترض أنه الطبيعة والبشر وحياتهم، في كتابة بلورية احتفالية بالأنا أو الذات، باللغة والطبيعة والريف بوصفها متحفاً.
شعر وديع سعادة تحطيم للأنا والسيرة، ونثرهما شعراً وثنياً يرتطم بحواسنا ارتطاماً وحشياً مزلزلاً: “هناك كلماتٌ تطلع من تحت التراب، أسمعُها تخرج من بين الفكوك العظمية المتناثرة لموتى، دُفنوا من ألف عام./ (…) عظام تخرج لتضحك، وعظام تخرج لتلعب، وعظام لتتفقّد أمكنتها الأولى، وعظام لتجيل نظرها علّها ترى الأرض التي عاشت فوقها، ولم تكن تراها” (من مجموعة “نص الغياب”، أيضاً).
النهار