صفحات المستقبل

العهد الآتي/ عهد زرزور

 

“تصرخين… وتخترقين صفوف الجنود

نتعانق في اللحظات الأخيرة

في الدرجات الأخيرة… من سلم المقصلة

أتحسس وجهك

هل أنت طفلتى المستحيلة أم أمي الأرملة؟”

تيّتمتُ يا فاطمة،

طيف من الأصحاب الأقرب لا يبرح نَفَسي، قالوا أنهم ذهبوا، وقالوا أنهم لن يعودوا وآمنت بالذي كان.

لكن الصوت العاتي يطلقه جرف الوادي ينحت كلّ راحة أصل إليها، شعور متمازج من فوران الدم والهبوط الحاد في كثافته، من الامتداد إلى الآتي والانصات للماضي بأذنٍ من حذر، ماذا يعني أن نكمل الطريق؟ وماذا لو كان طريقاً لايودي إلى حيث نريد…

النهايات ! النهايات يا فاطمة، لاتهم ما دمنا لا ندور حول أنفسنا، ومادمنا نجدد كل يوم لنشرب الأرض ونمضي،

والنهايات كلّ القضية، مادامت نهاية موج تعبنا بداية لون البحر.

التعب بكل حال يفتح بابه ويمدّ لنا الموائد، يمضي الوقت دون أن نكتنه ما تغيّر فينا، وأعلم أن الزمن لن يعينني فيرسل بدربه إليك الكلام وأجهل إن كانت القرية لا زالت عنوانك، أكتب وأشنق الكلام في الخابية، يضحك مقاتل مني ويتنبأ نسيانك القضية وإنجابك الكثير من الصغار وإن اشتدّ وفاءك ستسمّين أحدهم عُمر، لا أستسيغ ضحكه وأعلم أنك مثلي سلّمت ناصيتك لهذا التعب المحبّب.

“كلّ شيءٍ يفرّ،

فلا الماء تمْسكه اليدُ،

والحلمُ لا يتبقّى على شُرفاتِ العيون

والقاطراتُ ترحلُ، والراحلون،

يَصلونَ ولا يصلون !”

لم أكن أريد من هذه الدنيا سوى أن أعرفكِ وحسب، هذا سريّ الهشّ الذي لم أبح به يوماً لأنسيّ.

لم أكن أريد أن أصبح بطلاً يحلف القاعدون باسمه، أو أن أكون قائداً لكتيبة يحرّك احداثيات الدم من مكان إلى مكان، أو أن أقضي العمر أفكّر كيف سنلتقي صدفة أخرى بعد أن جمعتنا الأولى في بيت فارس، كنتِ بهيّة يومها، عابسة غاضبة على الذين لم يقمهم الدم، وكلّما وصلت اللعنات طرف لسانك أغمضتِ عينيكِ الحالمة حتى لا تنبسي بكلمات لا تشبه فمك المورق.

يومها أشرعتِ في هبوطك مثل إنانا إلهة الحرب والحب حين هجرتْ الأعلى العظيم إلى الأسفل العظيم ، شدّتْ إلى وسطها ألواح الأقدار السبعة، وعلى رأسها وضعت تاج السهول، مسحت وجهها بالزيت والطيوب، ثم مشت في طريقها إلى العالم الأسفل. كانت إنانا أوّل من زرع بذرة القمح في الأرض !

أخجل التذكّر كيف انثنيتِ تحملين عنّي كتاباً رماه فارس ولم أنجح في التقاطه، كان الكتاب ديوان “العهد الآتي” لأمل، يريد مني فارس أن أتعلّم الشعر وأجلي عني قسوتي الظاهرة، لم يكن يعلم أن يداكِ فتحت في أرضي الدم الحيّ،

وأنك غيّرتني… غيّرتني يا أخت زينب !!

كما لم تنبت أرضٌ من طينها سماءً من قبل، وعقدك العقيق العتيق حين أسرني، وسلَبَتك إياه رغبتي به…

من يومها لا تخافي يا فاطمة أغلقت عليه وجعي بكِ وجعبة سرّي، ما زال معي يحرسني من المرارة.

بعيداً عن هذه الأيام التي تصنع مني كائناً من ورق. أنا بخير….. تصلني صلواتك التي أحيا بمائها من دون ماء، ها حال الرؤى حين تخبرني.

سننتقل في الأيام المقبلة إلى جبهة أخرى ونلج العاصفة، أسميتها فاطمة، لست أدري أيّ ريحٍ بعدك ستعصف في فضائي وتقتلعني من ثباتي كما صنعتِ !

الرفاق بوجههم العتيق يتحاشون الحديث عنها، كلنا نوقن أن الضباب سيضيّع جهاتنا، لكن الثلج لازال أبيض،

علاقتي بالثلج وبكِ ليست علاقة قراءة فقط ! إنه إحساس بالحياة، وصلاة تدفق كلّما تأملّت أكثر بالوضوح الخفيّ.

نحاول في المقام الأول حفظ السلاح بعيداً عن أي أذى فلا نملك الكثير منه، ونستعد لأخشن الأيام، لا ننام كثيراً ولكي أستبقي قدراً من الدهشة التي عفا عليها الإلف فأوقظ المقاتلين كل صباح بضربة شديدة على الظهر، اليقظة قد تكون عنيفة لأن النوم ثقيل !

“أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحهْ

أَشهِروا الأَسلِحهْ!

سَقطَ الموتُ; وانفرطَ القلبُ كالمسبحَهْ.

والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ!

المنَازلُ أضرحَةٌ, والزنازن أضرحَةٌ, والمدَى… أضرِحهْ

فارفَعوا الأسلِحهْ واتبَعُوني!

أنا نَدَمُ الغَدِ والبارحهْ

رايتي: عظمتان.. وجُمْجُمهْ,

وشِعاري: الصَّباحْ!”

كانت مشهدية اليوم مزلزلة رأيت غراباً يأكل جثة عدو ملقاة، عيناه بالذات، كان يلقف عيناه ! ولوهلة ظننت أن قدم العدو تتحرك.

أتعلمين من العدو يا فاطمة؟ لا أحد يعلم !

حين غرقت الشمس كانت الظلمة تبلع أقدامنا ولكنها أكثر أمناً من الضياء، نعرف كيف نلبسها فنستحيل سوادا، وكيف نُلبسها للعدو فيهيّأ له أننا هي ولا يرى شيئاً. حين استقر بنا الحال إلى زاوية أقل هدراً للضباب ركض صديق من مجموعتنا باتجاه المدى العاتم ولم يرجع بعدها. كنا نمزح ونتحداه أن يشقّ الليل ليسحب الشمس، فتحوّل بعدها هزلنا إلى جد، حملنا عتادنا وأطفأنا النار وعمّ الصمت، من يومها لم يرجع حمّود أصغرنا، من يومها صار السمت شعار المرحلة والصمت بكاءنا المتكسّر في العيون،لا نعلم ما حاله ولا حبل يودي بنا إليه.

أتعلمين الآن من العدو يا فاطمة؟ لا أحد يعلم !

يبعث الوقت الذي مرّ عبثاً خصباً بغرابته اعتدنا هذه الحياة دون أن نسأل ونعلم أنها أقصر من أن تتبدل وأهشّ من أن تجيب وكأن الذي يجري دوام، تعيش نفوسنا المهشّمة داخل التكرار الذي لن يتكرر، وداخل حكاياتنا الصغيرة البسيطة في الكتاب المعقّد الأوسع، وداخل أغنية الحماسة التي تشبه جندياً انتشى بمجده لحظة فوقع فيها إلى الأبد !

جلستُ مرة أدندن (منتصب القامة أمشي) كانت رقبتي محنيّة بعض الشيء، طغت ابتسامة تهكم في خفائي… المهم الروح فاطمة ! منتصب الروح أمشي، أو أظن…

“وأنا كنتُ بين الشوارع وحدي

وبين المصابيح وحدي

أتصبب بالحزن بين قميصي وجلدي

قطرةٌ قطرةٌ كان حبي يموت

وانا خارجٌ من فراديسه

دون ورقةِ توت”

يا ليت كلّ الليالي تشبه ليلة كهذه، ضوء قمر يسند خطّي، ووجه حمّود على القمر، وأنت تنصتين يا أميرة.

سأخبّئ الكلمات تحت سترتي الثقيلة علّي أصل إلى مطرح أدفأ.

أقنتي لربك فاطمة وصلّي لي، للحكاية عشرون باب وأنا خلف الواحد والعشرين، وأنا أقف خلفكِ…

“أحُبّكِ،

صار الكَمَاَنُ كعوبَ بنادق

وصار يمامُ الحدائق.

قنابل تسقطُ في كُلِ آن…

وغاب الكَمَاَنْ!

وغاب الكمَانْ”

*القصائد المقتبسة للشاعر أمل دنقل من ديوان “العهد الآتي”

https://nafffas.wordpress.com/2015/01/07/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%87%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%AA%D9%8A/

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى