لماذا يتحول المثقفون؟/ بلال فضل
لماذا تأكل الثورات والحركات الجماهيرية أبناءها؟، ولماذا تبدأ دائماً برجال الكلمة الذين كان لهم أكبر دور في تعرية الأنظمة التي ثار عليها الناس؟ يطرح الكاتب الأمريكي إيريك هوفر إجابة مثيرة للتأمل على تلك الأسئلة في كتابه «المؤمن الصادق» الذي درس فيه الحركات الجماهيرية عبر التاريخ، مؤكداً على أهمية الدور الذي يقوم به القادرون على صياغة الكلمات في هدم الأنظمة الفاسدة، بحيث لا يمكن نظرياً أن يطول بقاء نظام فاسد، إلا إذا كان هناك غياب كامل لرجال الكلمة والمبدعين المعارضين له، أو إذا كان هناك تحالف وثيق بين الحاكمين وبينهم، وحين يحدث ذلك الغياب أو ذلك التصالح، يستمر النظام الفاسد في الوجود أطول من المتوقع.
في العادة، تركز السلطات قمعها العنيف على المتطرفين في معارضتهم لها، بل إنها قد تستمد من نشاطاتهم المعارضة حيوية جديدة، في الوقت نفسه تتسامح مع رجل الكلمة غير المتطرف، لأنها تظن أن كلماته لا تستطيع تحقيق نتائج فورية، فتفضل تجاهله، أو تستخدم وسائل ناعمة لإسكات صوته، وحين تكتشف أنه يمكن أن يهدد مؤسساتها، وأن يهيئ التربة لحركة جماهيرية، تلجأ إلى تقريبه منها والتحالف معه، مستغلة أن هناك شعوراً بالنقص لا يمكن تجاوزه داخل كل مثقف، ما يجعله في حالة دائمة من الشك في نفسه، وبحاجة إلى إثبات ذاته دائماً، مهما كان ناجحاً أو متحققاً، وهنا يستشهد هوفر لتأكيد كلامه بالمفكر أليكسي دو توكفيل الذي يصف المثقف بأن «لديه من الاعتداد أكثر ما لديه من الطموح، وهو يؤثر التقدير على الطاعة… استشِره أولاً، ثم افعل ما تريد، وسوف يلاحظ ما تظهره له من احترام أكثر مما يلاحظ ما تقوم به من تصرفات».
لا تمتلك كل الأنظمة الفاسدة ذلك القدر الكبير من الذكاء الذي يساعدها على ترويض غالبية رجال الكلمة، بل على العكس نجدها كثيراً ما تحتقرهم وتقمعهم، فضلاً عن وجود فئة قليلة منهم غير قابلة للشراء أو التدجين، لكن حين يتسع تأثير المعارضين من رجال الكلمة أياً كانت دوافعهم: أصيلة ومخلصة، أم ناتجة فقط عن رد فعل على احتقار السلطة وقمعها، فإن دورهم في كشف ظلم الأنظمة وفسادها، يصبح مؤثراً للغاية، في مرحلة اختمار وانطلاق الحركات الجماهيرية، وحين تنطلق الحركات الجماهيرية، يكتشف رجال الكلمة أنها تقود كثيراً إلى نتائج غير متوقعة بالنسبة لهم، وأنها قد توصل إلى السلطة أصحاب أفكار شمولية تسعى لفرض الولاء المطلق لأفكارها، وتقوم بتحويل الجماهير إلى كيان قوي موحد، ويجد ذلك تجاوباً من الجماهير الذين يكتشف رجل الكلمة أن ثورة أغلبهم على النظام القديم، كانت ضد ضعفه وليس ضد ظلمه، وأنه كمثقف لم يقنع الناس بمساوئ النظام القديم، بقدر ما أقنعهم بضعفه وعجزه، ولذلك ـ كما يقول هوفر ـ ينتظر الذين ساعدوا على ولادة الحركة الجماهيرية، مصير مرعب، لأن أغلبهم يؤمنون بأهمية الرأي الفردي والمبادرة الفردية، ويظلون فرديين في تصرفاتهم وأفكارهم، مهما مجّدوا العمل الجماعي، ولذلك يصطدمون بالسلطة، حين تقع في يد أولئك الذين لا يؤمنون بالفرد، ولا يقيمون له أي وزن، والغريب أن استخفاف هؤلاء بحقوق الفرد، يتماشى تماماً مع عواطف الجماهير الملتهبة، التي تتصور أن تأييدها للعصف بحقوق الفرد، لن يضر بها.
لذلك نجد أن كثيراً من رجال الكلمة، الذين طالما عملوا من أجل يوم يتهاوى فيه النظام القديم، يصابون بالهلع حين يبدأ في التهاوي، «وينتابهم من النظرة الأولى إلى الفوضى العارمة فزع يشل قواهم العقلية، وهنا ينسون كل ما قالوه عن الناس الطيبين البسطاء، ويهرعون إلى طلب الحماية من الرجال العمليين والضباط الكبار والإداريين ورجال البنوك ومالكي الأراضي الذين يستطيعون إيقاف مد الفوضى». لأن رجل الكلمة في رأي هوفر مهما كانت انتقاداته للنظام القائم مريرة، فهو في الحقيقة مرتبط بالحاضر، يتطلع إلى الإصلاح لا إلى الهدم، ولذلك يتصور أن تحالفه مع الرجال الأقوياء سينجيه من الفوضى، وهو ما يفسر كثيراً من تحولات المثقفين الذين يكتشفون أن ما كانوا يتبنونه من تصورات رومانسية لحركة الجماهير، تختلف تماماً عن كابوسية الواقع، فيفضلون الارتماء في أحضان رجال الدولة، حتى لو كانوا يمثلون عكس ما ناضلوا من أجله في السابق.
في الغالب الأعم، لا يجني المثقفون من تحالفاتهم هذه الكثير، إذ يستمر النظام الذي يتحالفون معه في التصدع، والأخطر من ذلك، أنه حين يغيب المثقف عن دوره في دعم التغيير الحقيقي، ظناً منه أنه يحمي نفسه، فإنه يتيح الفرصة لقادة رأي جدد، متطرفين وغير مبدعين، ينطلقون لتأجيج نيران الغضب بين الناس، وتسعدهم رؤية العالم القديم وهو ينتهي، فلا تبقى غير أنقاضه التي يتوجب إزالتها، وحينها يصبح رجال الكلمة الذين تحولوا، الهدف الأول لغضب المتطرفين، وعلى حد تعبير هوفر، «إذا لم يمت الواحد منهم في اللحظة المناسبة، فليس أمامه سوى أن يصبح معزولاً ومهمشاً ومنسياً، أو أن يواجه الإعدام»، لكن المتطرف المنتصر بدوره لن يكون أسعد حظاً في المستقبل، لأنه حتى لو بدأ نظامه في التبلور، سيصبح عامل توتر وإرباك، حين يدفعه جوعه إلى البحث عن أشد المواقف تطرفاً، ولذلك تجد معظم الحركات الجماهيرية نفسها بعد انتصارها فريسة للخلافات والصراعات، وبمجرد أن يغيب أعداؤها الخارجيون، يبدأ المتطرفون فيها بمعاداة بعضهم، وحتى حين لا يتعمدون إثارة الفرقة، فإنهم يحطمون حركتهم بدفعها نحو أهداف يستحيل تحقيقها، حتى ينقذها ـ في رأي هوفر ـ الرجال العمليون، الذين يقومون بطرح أفكار واقعية لا تحلم بإعادة صياغة العالم، بقدر ما تهمها السيطرة على انهياره.
يمكن مناقشة ونقد الكثير في رؤية إيريك هوفر، التي ظهرت في منتصف القرن العشرين، مرتبطة بالبيئة الأمريكية المحافظة والمعادية للحركات الجماهيرية الخارجة عن سياق النظم التقليدية، لكن ذلك لا يعني أن ما يطرحه هوفر ليس مثيراً للتأمل، خصوصاً رصده وتفسيره لتحولات علاقة المثقف بالواقع قبل الثورات وأثناءها وبعدها، تلك التحولات التي يستسهل البعض تفسيرها بوجود مكاسب مادية مباشرة، فلا ينطبق تفسيرهم السهل ذلك على مثقفين متحولين، يؤيدون الاستبداد الذي ناضلوا ضده، بدون أن يحصلوا على مكاسب مباشرة، بل يفعلون ذلك لأنهم يتصورون أن حضن الدولة القوية سيحميهم من فوضى المتطرفين، ليكتشفوا بعد فوات الأوان، أن تخليهم عن أدوارهم النقدية والمعارضة، لن ينهي أهمية وجودها، بل سينقلها مع ظهور تفاعلات القمع والفساد، إلى أيدٍ متطرفة وطنياً أو دينياً، لن يرى أصحابها في حرص المثقفين على حرية الفكر والإبداع والتعبير سوى مطالب فردية تافهة، يمكن أن يتم سحقها بمباركة عارمة من الجماهير، التي تتعامل مع المثقف بوصفه خطراً أو خائناً أو مجنوناً، ويستمر الحال هكذا، حتى تضعف قوة النظام الباطش بفعل الزمن، فتظهر أصوات جديدة تعارضه من المثقفين، وحين يفشل النظام في استقطابها أو حين يتجاهلها ويعاديها، تنجح تلك الأصوات بعد زمن يطول أو يقصر في التهيئة لحركات جماهيرية مقبلة، «ودوّخيني يا لمونة».
…
«المؤمن الصادق: تأملات حول طبيعة الحركات الجماهيرية» ـ إيريك هوفر ـ ترجمة غازي القصيبي ـ منشورات كلمة والعبيكان والانتشار العربي
٭ كاتب مصري
القدس العربي