لماذا يكره الكتاب السوريون بعضهم بعضاً؟/ عارف حمزة
هر آذار/مارس من عام 2011 كانت هناك حروب شخصيّة وخصومات بين بعض الكتاب السوريين، وهذه الحالة طبيعيّة وتنطبق على باقي الكتاب من الدول الأخرى، وذلك لأسباب عديدة، منها الاشتغال في حقل الكتاب والكتابة وتلقي الدعوات إلى المهرجانات أو الترشح لنيل الجوائز. ولكن بعد ذلك التاريخ تحوّل الأمر إلى حالة عالية من الكراهية، ووصل إلى حد التخوين والمطالبة بسحب الجنسيّة وتقديم الكاتب إلى المحاكمة، فمن السهل، والحال، أن نسميها: الكراهية الدمويّة!
ربّما الذي أشعل الشعلة الأولى، في موقد تلك الكراهية، كان الشاعر والكاتب المعروف أدونيس، الذي فسّر أمر خروج الاحتجاجات على النظام السوري بأنّه احتجاجات تخرج من الجوامع ضد نظام علمانيّ، وبالتالي فهو يقف ضدها، مما أشعل “ثورة جانبيّة” ضد أدونيس في كل مكان، حتى وصل أمر الاحتجاج إلى الدول التي منحته جوائز في ما بعد، كما حدث في ألمانيا العام الماضي، ثم إلى الاستهزاء به والاحتفال بعدم نيله جائزة “نوبل” للآداب في كل أكتوبر طوال الأعوام السبعة الماضية. وفي حالة نوبل، للحقيقة، كان هناك الكثير من الكتاب، حتى قبل عام 2011، الذين كتبوا وسخروا من عدم نيله الجائزة، لتكون حالة سوريّة غريبة، في الاحتفال بعدم نيل المرشّح السوريّ لجائزة نوبل!
لم ينته الأمر عند هذا الحد، بل قام الشاعر والروائي والصحافي السوري إبراهيم الجبين بتوظيف أدونيس كشخصيّة في روايته “عين الشرق” تؤدي خدمتها الإلزاميّة في أحد فروع المخابرات السوريّة، مع ما يُحمّله ذلك من فظائع وسيئات تخصّ المخابرات السوريّة.
لماذا سحبتم السكاكين عليّ؟
من جهة أخرى تعرّض الشاعر نزيه أبو عفش لحملات كبيرة بعد كلّ “بوست” كان يكتبه على صفحته الشخصيّة في فيسبوك، وربّما تقصّد أبو عفش كتابة “بوستات” في مدح الرئيس الروسي بوتين، أو حتى مدح المنتخب الإيراني لكرة القدم، الذي كان سيلعب مع المنتخب السوري، وكأنّه كان يُريد استفزاز المزيد من المواقف، ثم يذهب إلى عزلته في “مرمريتا”، ويعود قبل أيام بدعوة من جمعية “عين الفنون” في دمشق، ليسمع الجمهور “يومياته الناقصة”.
“عندما كتبت “ليتها لا تحدث”، نلتُ نصيبي من الشتائم والتخوين، وعندما كتبت “البيت سوف يُهدم”، ردّوا عليّ بأن هذا ليس بيتًا. قلت ليكن جحرًا ولكن لندافع عنه، وعن الأمهات اللاتي ما زلن يبكين على موتاهنّ. وفي المقابل حين كتب منذر مصري “ليتها لم تكن” صفقوا له، فيما سحبوا السكاكين عليّ”، قال صاحب “كم من البلاد أيّتها الحريّة”.
في كلّ يوم نسمع عن هجوم جديد، وعن تشهير جديد، وعن مشاة وفرسان يُشكلون جيوشًا من الكراهية المتقابلة. لا نقاش ولا تبادل لأفكار ولا بحث عن حلول وتوافق. الشتائم والوعيد يسيل من الشاشات الزرقاء في البيوت والبلدان البعيدة.
وهذا ما حصل مع الشاعر والروائي سليم بركات، والشاعر والروائي عادل محمود، والمترجمين صالح علماني وثائر علي ديب، والروائي إبراهيم الجبين، والشاعر مروان علي، والروائية سمر يزبك، والكاتب ياسين الحاج صالح، وآخرين كثيرين. بينما لم يسلم الشاعر والفنان التشكيلي منذر مصري من حملات الشتائم، على العكس من كلام أبو عفش السابق، بعد كتابته عدّة مقالات، من بينها مقالته الشهيرة “ليتها لم تكن”. بينما كان افتتاح معرض فنّي للفنان وللمعارض السوري المعروف يوسف عبدلكي في دمشق “انهيارًا” لكلّ ماضيه المُعارض، وصلت درجة السباب على صفحات التواصل الاجتماعي وصفحات الصحف.
لقد تعرّض الكثير من الكتّاب والفنانين السورييّن، الذين وقفوا ضد ديكتاتوريّة النظام السوري وضرب جيشه مواطنيه وتجويعهم والتنكيل بهم، لحملات تخوين كبيرة، بدأت مع الموقعين على البيان الذي سُمّي وقتها “بيان الحليب”، الذي أطلقته الكاتبة ريما فليحان عبر صفحتها الشخصية على فيسبوك في 29 نيسان/إبريل 2011، وطلبت التوقيع عليه، والذي طالب السلطات السوريّة بتسهيل دخول الحليب والأدوية لأطفال مدينة درعا المحاصرة، حيث نشرت المواقع الرسميّة والموالية للنظام السوري أسماء الموقعين على البيان، وسمّت تلك القائمة بـ”قائمة العار”، وتمّ الاعتداء على العديد منهم، واعتقال بعضهم، وطردهم من الوظائف، من دون التضامن معهم من قبل زملائهم في الكتابة أو العمل.
كما كانت هناك تُهم جاهزة يتم وصمها، من قبل مَن يشتغلون في حقل الكتابة، للكتاب المُعارضين، مثل الكاتب الأردوغاني، نسبة إلى رئيس الوزراء التركي، والكاتب المأجور بالأموال الخليجيّة، أو الكاتب الإخواني، نسبة إلى الإخوان المسلمين…
ففي الوقت الذي صرنا نسمع تلك الألقاب البغيضة مثل “شاعر البراميل” أو “نزيه أبو بوتين” أو “الكاتب الداعشي” أو “شاعر الإخوان المسلمين” أو “الكاتب الشحّاذ في بلاد اللجوء”… الخ، صار هناك مصطلح متداول هو: كتّاب الداخل السوري وكتّاب الخارج. أو من خلال مصطلحات طائفيّة، مثل كاتب سنّي أو كاتب علوي أو كاتب درزي…
فخ الثورة وفخ النظام
خلال هذه السنوات الثقيلة افتتحت قنوات تلفزيونيّة عديدة، وصحف ومجلات وإذاعات، ليس لنشر أفكار أو مقالات أو نقاشات جديدة وكتابات جديّة عن الثورة أو الفاشية أو الديكتاتوريّة، بل لنشر الكراهية، وتوزيع صكوك الوطنيّة وسحبها، وكذلك توزيع صكوك الثورية والوطنية على من يوافقونهم الرأي والخيانة والعمالة على ما يختلفون معهم.. تخندق كثيرون وراء فكرتي مع أو ضد الثورة/ مع أو ضد النظام، وسبح مصطلح “الرمادي/ الصامت” بين الضفتين من دون أن يُفكر أحد الطرفين في انتشاله أو إنقاذه أو عدم قتله. تمّ غضّ النظر عن الكثير من الأسماء والكتابات الرديئة تحت راية “مع أو ضد”، في الوقت الذي نسفت فيه تجارب كبيرة تحت تلك الراية أيضًا.
الفخ التالي، والذي أشعل نار الكراهية، وأبرز فصامات شخصيّة لكتّاب كثيرين، كان الوقوف مع “سلميّة الثورة” أو مع تسليح الثورة لحماية المدنييّن من بطش الجيش السوري الذي ترك الثكنات وهجم على المدن والقرى والجامعات.
جولة واحدة في صفحات مُعيّنة تصدمنا بكمّية الدماء التي تسيل في الخفاء، وتجعل أحدنا يتساءل: كيف ربّى السوريّون كلّ هذه الأحقاد والكراهية ومتى؟
الملف
نحاول في هذا الملف الوقوف على رأي بعض الكتاب السوريين حول سبب الكراهيّة المتفشية بين الكتّاب السوريين؟ هل يتعلق الأمر بما يجري في سوريا، أم يذهب إلى ما قبل ذلك؟ هل وصلت هذه الكراهية إلى الكتابة نفسها، سواء في الرواية أو القصة أو المسرح أو الشعر؟ هل وهناك كتابات تنحو، أو تستخدم أوصافًا أو مصطلحات طائفيّة أو تخوينيّة؟ هل شعروا بشكل شخصيّ بوجود حملة من الكراهيّة ضدهم، أو تعرّضوا للمقاطعة أو رسائل التهديد من زملاء آخرين في الكتابة؟ ألا يمكن وقف حالة الكراهية والعداء والتخوين بين الكتّاب السورييّن؟ وكيف؟
هذه كانت فكرة هذا الملف، الذي اعتذر عن عدم المشاركة فيه العديد من الكاتبات والكتّاب السوريين، لأسباب اكتفوا بالقول بإنّها شخصيّة، رغم اعترافهم بأهمية الموضوع المطروح. هناك ظروف غير شخصية، كما نعرف، تواجه الكتاب السوريين الذين فضلوا البقاء في بلادهم.:
د. سعد الدين كليب (شاعر وأكاديمي مقيم في حلب): ليس أكثر من الديكة في مزابل البلد
أستطيع التوكيد أن ليس هنالك سياسي أو مثقّف أو أديب أو حتى أيّ مواطن سوري لا على التعيين، إلا ودخل في خانة الاتهامات بأنواعها ومستوياتها كافة. فالحدث السوري ليس مجرّد حادث عارض أو مجرّد سحابة صيف حالما تنقشع. إنه زلزال بأعلى الدرجات الممكنة أصاب مجتمعًا هشًّا في تركيبته الاجتماعية والوطنية، مجتمعًا كنّا نظنّه قويًا ومتماسكًا، كلوحات الفسيفساء الحجرية التي كثيرًا ما راقنا تشبيهه بها، وإذ به مجرّد قطع زجاجية ملوّنة ومعشّقة لا تحتاج زلزالًا ولا حتى جبهة هوائية باردة كي تنفرط وتتكسّر قطعًا متنافرة.
فإذا كانت هذه حال المجتمع السوري برمّته، في هذه الحرب القذرة التي لم تنجُ منها مدينة أو قرية أو حارة أو عائلة سورية، فلا غرابة أن تكون حال الثقافة والمثقفين على هذه الشاكلة من التنابذ والتباغض والاتهامات القاتلة. فقد كشفت الحرب فعليًا عن غياب شبه تام لما يسمّى بالهوية الوطنية ثقافيًا وسياسيًا على السواء، فارتدّ الكثيرون من المثقفين والأدباء إلى هوياتهم ما تحت الوطنية كالإثنية والدينية والطائفية والعشائرية والمناطقية، وراحوا يتراشقون بها تكفيرًا وتخوينًا وتهديدًا بالقصاص العاجل أو المؤجَّل. كما تكشّفت لدى الكثيرين منهم أيضًا مخالب ذئبية شخصية تحت أقنعة الموالاة أو المعارضة، و”الوطنية” أو “الثورية”، حتى بات المشهد الثقافي السوري، في الداخل والخارج، أشبه بصراع الديكة، ولا أكثر من الديكة في مزابل البلد!
كان من المفترض أن يكون للثقافة العالمة، على أقلّ تقدير، أثر طيّب في تخفيف ارتدادات الزلزال المدمّر، كأن تمنع الانهيارات الأخلاقية أو تخفّف من حدّة الاتهامات الطائفية، أو تسرّع في رأب الصدع الاجتماعي، غير أنّ شيئًا من هذا لم يحصل للأسف. بل لعلّ العكس هو الذي كان، فكانت الثقافة العالمة لدى بعضهم، وما أكثرهم، أداة تسويغية للتشنّج الاجتماعي والتمترس السياسي والاحتراب الطائفي والقومي، حتى بدت الثقافة الشعبية، بعجرها وبجرها، أكثر تحضّرًا وإنسانية من الثقافة العالمة لدى بعض المثقفين الذين انغمسوا حتى آذانهم في ثقافة الحرب. فرأينا ما رأيناه من تصنيفات واصطفافات واتهامات عبر مجمل التطورات الدراماتيكية في المسألة السورية، بدءًا بالحراك السلمي وانتهاء بالحرب الإقليمية والدولية.
وبالرغم من أنني لا أحبّ الحديث عن تجربتي الشخصية، وهي غنية فعلًا بالاتهامات المضحكة المبكية، لكن لا بأس من القول إنني هوجمت شخصيًا من متطرّفي الموالاة والمعارضة معًا، لأنني كنت ضدّ العنف، وضد السلاح، وضد “الجهاد”، وضدّ الخطاب الطائفي، وضدّ الحرب، ومع الحوار والسلم الأهلي والسلام الوطني، ومع سورية الدولة الديمقراطية؛ هوجمتُ لأنني حموي- نعم لأنني من مدينة حماة !- وهوجمت لأنني بقيت في حلب الغربية تحت سيطرة الدولة، ولأنني لم أترك عملي أستاذًا في الجامعة، وهوجمتُ لأنني لا أرى في خصمي عدوًا، وإنمًا أراه شريكًا في الوطن. هوجمت حتى حين كنت أتنفّس بطريقة لا يتنفس بها هذا أو ذاك من الموالين أو المعارضين أو “الموارضين”! وذلك في الوقت الذي لم يحدث أن هاجمتُ أحدًا بعينه، إذ كنت، وما أزال، معنيًا بالمواقف لا بالأشخاص، وبالمعاني لا بالأسماء.
للأسف لم نستوعب دروس الحرب بالشكل الذي يجعلها دروسًا في السلام، ولم نتعامل مع الحرب إلا بوصفنا أبناءها الموتورين والمشوّهين، لا بوصفنا مثقّفي السلام والحرية والديمقراطية، وأخشى أنّ أمامنا زمنًا طويلًا حتى نفطن إلى ذلك. وإلى أن يفطن الجميع إلى أنّ ثقافة السلام هي الخطوة الأولى في إعادة بناء البلد على أسس جديدة، فإننا جميعًا في خانة الاتهامات القاتلة.
خليل صويلح (شاعر وروائي وصحافي مقيم في دمشق): عنتريات لفظية تنسف مثقفًا بجرّة قلم
أفضّل مصطلح “شجاعة الجهل” في تفسير ما نحن فيه. أن تقتحم الساحة بخردة اللغة لإطاحة الخصم، وإحياء معجم يغطيه الغبار لإنشاء خلائط جاهلية وعصبوية وعقائدية في محاربة عدو مفترض، وذلك باستثمار ميديا متطورة، كأن ترتدي الجينز وتضع على رأسك عمامة! مهاجرون وأنصار على شاشة واحدة في عراك محتدم وانتصارات وهمية، فيما تتلاشى الخريطة تحت وقع فولاذ حقيقي يصهر الأرواح على الهواء مباشرة.
الغارقون في تقليب صفحات المعجم لتفسير ما حدث ويحدث، ذهبوا إلى تمجيد كلمة “ثورة” باعتبارها رافعة لأي نصّ ركيك. نصّ سينجو من أي محاكمة نقدية نزيهة لمجرد أنه مضاد للاستبداد. ولكن ماذا نفعل بكل هذه المدونات التي استنفرت مفردات التخوين والإقصاء والاتهامات عن طريق الكونترول، وعلى بعد آلاف الأميال من المذبحة؟ نحن الذين لم نغادر المكان لأسباب تخصّنا، كان علينا أن نواجه الطعنات داخلًا وخارجًا، ورغم أننا على مرمى أمتار من الدم والقذائف والفزع، إلا أننا في قوائم التصنيفات وجدنا أسماءنا في خانة “الرمادي”، وكأن كل هذا الأحمر مجرد ألعاب فوتوشوب وحسب.
شخصيًا لم أدخل مقاولات الداخل التي لا تحتاج إلى مهارة في القنص، كما لم تغوني جعالات الخارج. على أن ثبات هذا الكادر لا يعني أنني لم أُصب بسهام الثوريين الطارئين، أولئك الذين خرجوا من صفحات “بريد القراء” في الصحف المحلية إلى واجهات دكاكين الثورة بكامل ركاكتهم وهتافهم المضاد. كان يليق بنا كسوريين مفردة “طوشة” على غرار التسمية التي واكبت أحداث 1868، أو فزعة، أو احتجاج، بما يتلاءم مع المستوى اللفظي المتبادل بين خندقين. ما هو مؤكد بأننا نحتاج ثورة لغوية في المقام الأول، لكن معظم النصوص الراهنة استنفرت معجمًا متهالكًا، وخطابًا طائفيًا مضمرًا، ونفاقًا وزيفًا، بما يتلاءم مع أجندة هذا المنبر أو ذاك، لتمزيق خريطة ممزّقة في الأصل.
ما أستغربه هذه الكراهية الداكنة للبلد نفسه، وهجاء كل ما فيه بالجملة والمفرّق، على أن خلاصة القول “كل إناء ينضح بما فيه”. صنابير مفتوحة على الحقد والأمراض المزمنة تروي حقول البغضاء، بدلًا من مديح الغفران، أما منح شهادات حسن السلوك وعدمه فهي من اختصاص مخاتير الأحياء. ككاتب، عليك أن تكتب نصّ الإقامة لا نص العبور المؤقت والطارئ والنيء. أنا شخص خائف، وينبغي أن أكون خائفًا، في هذه المتاهة الجهنمية، لذلك أستغرب من هذا الزحام حول مقعد البطل، ومن تلك العنتريات اللفظية التي تنسف مثقفًا بجرّة قلم، وتمجّد صبيًّا غرًّا بجرة قلم، لمجرد أنه كتب بركاكة عن الاستبداد، من دون أن يخوض معركة واحدة على الأرض. أراقب أولئك الذين طلبوا صداقتي على فيسبوك ثم ألغوها لاحقًا، أكتشف ذلك بالمصادفة، حين أتذكر أحدهم فجأة، فتباغتني عبارة “أضف صديقًا”. بكل الأحوال، وبقوة دفع بقايا بداوة قديمة المنشأ، أجد أن فنجان قهوة مرّة كفيل بالغفران، أما النص الركيك فسيبقى ركيكًا، اليوم وغدًا، مهما أضفنا إليه من توابل الثورات.
منذر مصري (شاعر وفنان تشكيلي مقيم في اللاذقية): خياري بالبقاء جعل مصيري مرتبطا بمصير بلدي
سبع سنين.. ولم أسمح لنفسي بأن أتناول أي إنسان بإساءة شخصية، مباشرة أو غير مباشرة. حتى أولئك الذين بدوا كأنهم ينتظرون مني أي هنة أو خطأ، الرمي بي في حاوية قمامة الثورة مع كل ما كتبت وما رسمت خلال حياتي كلها، ووجهوا لي كل أنواع الإساءات. ومنهم من هم ذاتهم ممن كانوا يكرهونني ويعادونني قبل الثورة بسبب موقفي المعارض ذاته.
*
سبع سنين.. وضعت الشعر جانباً، وكتبت ما لم يجرؤ عليه أحد اختار البقاء في البلد وفي مدينة اللاذقية بالذات: (إلى ماذا يؤدي تسمية البلاد بأسماء حكامها + الأقليات من المتحول للثابت + لماذا خرج الشعب السوري +…) وأيضاً (ليتها لم تكن) التي تطوعت أن أقولها نيابة عن كل من فقد ابناً أو أخاً أو بيتاً، والتي شرحتها وفسرتها مرات ومرات دون جدوى. حتى صارت وكأنها وصمة عالقة بي. وبوصلتي في كل ما كتبت هي ما يجمعنا نحن السوريين ويساعدنا على عبور مأساتنا وتحقيق أمانينا بحياة حرة كريمة في وطننا سورية، الذين لا وطن لنا سواه.
*
سبع سنين.. كان خليقاً بها أن تغير كل شيء بي. لكني بقيت على ما أنا عليه. أحمل ذات الموقف الوطني والأخلاقي والإنساني، ولا أقول السياسي؛ لأنني بكل إصرار لست سياسياً ولا غاية لي أن أكون. الموقف الذي دفعت ثمنه في الماضي وأدفع ثمنه اليوم وكل يوم. وكدت مرة أدفع ثمنه حياتي كلها.
*
سبع سنين ولم أدع أي بطولة أو مكانة أو معرفة فوقية تسمح لي بأن أحكم وأدين الآخرين. ولا حتى أن أبدأ خطبي وبياناتي مخاطباً جمهوري وأتباعي!!.. بأنني لا أحب!!.. ولا أوافق!!.. والحق أقول لكم.. فمن تظن نفسك يا ابن المصري، حتى يهمنا ما تحب وما لا تحب، وحتى ننتظر موافقتك.
*
مع أني والله أستطيع.. أستطيع أن أشرّق وأغرّب، وأردّ الصاع صاعين وثلاثة، ومن يعرفني نصف معرفة يعرف أنني لست على هذه الدرجة من النبل والطيبة على الإطلاق.
*
ما أراه واضحاً الآن، أنّ خياري بالبقاء جعل مصيري مرتبطاً بمصير بلدي. المكان والبشر الذين يحيون فيه، فإذا انحدر ننحدر معه، وإذا سقط في الهاوية نسقط معه إلى الهاوية. وعلينا نحن الذين بقينا على سطح هذه السفينة أن نفعل ما بوسعنا لنحول دون ذلك. وليس لنا من خيار آخر غير ذلك.
رشا عمران (شاعرة مقيمة في القاهرة): التقييم الطائفي هو الأكثر ظهوراً
في بداية الثورة، أوائل 2011، حين بدأ الكتاب في اصطفافهم السياسي بين مؤيد للنظام ومؤيد للثورة، استطاع الاصطفاف في جهة واحدة تنحية عداوات الكار بين الكتاب والمثقفين، وحدث ما يشبه عملية تطبيع لتلك العلاقات. فمثلاً في أول سنتين للثورة، كان يمكن لأي متابع أن يلاحظ حالة عالية من المودة في حديث الكتاب عن بعضهم البعض، أقصد الذين اصطفوا في جهة الثورة، وعدا عن المودة كان هناك ترويج للمنتج الإبداعي لهؤلاء من قبل بعضهم البعض. أنا هنا لا أستثني نفسي طبعاً، حتى لو كان المنتج هزيلاً على المستوى الإبداعي. وهج الثورة والحلم المشترك بالتغيير والعنف المريع الذي طاول السوريين الثائرين، مضافاً إليها تشويه السمعة والإساءات التي طاولت كل الكتاب والمثقفين المنحازين للثورة، من قبل زملاء لهم والوا النظام في كل جرائمه، أبعد الموضوعية عن تقييم الإبداع المنتج المنحاز للثورة، وهاتان المحبة والألفة كانتا جميلتين جداً حتى بعدم موضوعيتهما، كانتا أشبه بالاحتضان والحماية، كأن الجميع كانوا يريدون من ذلك احتضان الثورة وحمايتها من المخاطر المحدقة بها. المخاطر التي حدثت بعد وقت قليل، وأصابت الكتاب والمثقفين أنفسهم، سرعان ما أعادت الخلافات القديمة للظهور، وطفت عداوة الكار على السطح، صار الأمر أكثر خطورة برأيي، إذ إن المتغيرات المريعة التي حدثت خلال السنوات السابقة في حالة الثورة وحالة سورية عموماً، أظهرت المكنون والمخبوء إلى العلن. ليس صحيحاً أننا لم نكن طائفيين وعنصريين وطبقيين، كنا جميعاً هكذا، لم تمض سنتان حتى ظهرت خلافاتنا الطائفية والمناطقية والإثنية، أتحدث عن الكتاب والمثقفين تحديدًا، وعاد الهجوم العنيف على المنتج الإبداعي لأي كاتب، على أن المعايير أيضاً بقيت غير موضوعية، وصار الهجوم بناء على طائفة الكاتب أو قوميته أو طبقته أو منطقته، وإن كان التقييم الطائفي هو الأكثر ظهوراً ووضوحاً. صرنا نقرأ روايات كاملة يتم الترويج لها بوصفها روايات ثورية فاضحة لسورية ما قبل الثورة أشبه بالنميمة الطائفية. صرنا نقرأ مقالات تنشرها مواقع وصحف معنية بشأن الثورة السورية بنفس طائفي لا يخفى على أحد. اللجوء أيضاً وظروفه وقلة الفرص المتاحة ومحاولة تصدر المشهد أوروبياً جعل العلاقات بين الكتاب والمثقفين السوريين في أكثر حالاتها بؤساً وأكثرها إثارة للشفقة.
فيسبوك طبعًا أصبح المنبر الأكثر أهمية لنا جميعًا لنظهر ما نحن فيه من بؤس، بؤسنا نفسه الذي يتابعه الآلاف على صفحاتنا ويضعون علامات الإعجاب، ويشدون على أياديه ليستمر. استطعنا فعلًا على فيسبوك أن نكون نخبة للسوريين، لكننا النخبة التي سقطت سقوطاً مريعاً وأسقطت معها من آمنوا بنا.
ما يخصني شخصياً، منذ البدايات وحتى الآن وأنا أتعرّض للتخوين وتشويه السمعة والإساءات المتنوعة، من قبل كتاب النظام وصحافييه، ومن قبل من يقفون في المنتصف في السنوات الأخيرة، من قبل من كنت معهم في جهة واحدة. لم تبق تهمة لم تلصق بي. لم تبق إساءة لم تكتب عني. هل أنا الوحيدة؟! يقيناً لا. تعرضنا جميعنا لذلك، خصوصًا الكاتبات والمبدعات، خصوصًا من كنّ من الأقليات السورية، دفعنا الثمن من سمعتنا كخائنات للوائنا وخائنات للوطن/ النظام وخائنات للثورة، وطبعا غلف كل ذلك غطاء (ثقافي) ذكوري استباح، أول ما استباح، سمعتنا كنساء في مجتمعات تضع المرأة أساسًا في مرمى الشتائم ذات الطابع الجنسي، فما بالك في حالات الانقسام المريع والتطرف متعدد الأوجه الذي نعيش فيه كسوريين؟
جان دوست (شاعر وروائي ومترجم مقيم في ألمانيا): المثقفون يتبادلون سموم الكراهية
بعد نشوب الثورة في سورية حدث استقطاب هائل شمل كافة نواحي الحياة وجميع فئات الشعب. وبطبيعة الحال لم يكن المثقفون والكتاب استثناء في هذا المجال. وأنا أعتقد أن الاستقطابات الحادة في زمن الحرب أمر طبيعي؛ بمعنى أنها ظاهرة عامة في جميع الأزمنة وكل الأمكنة. إن الانجذاب إلى الطائفة والعرق والمذهب في عصور الأزمات مخرج للمثقف ومنجاة له من تهم التخوين. فالمثقف الذي لا “يصطف” مع قومه، معتدين أو معتدى عليهم، يعتبر خائنًا أدار ظهره لشعبه. وشخصيًا تعرضت لهذه التهمة بسبب مواقفي من قتل المدنيين الأبرياء في المنطقة الكردية، إذ لم أشأ أن أسكت على الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين بحجة أننا نعيش في الحرب. كان الجمهور ينتظر أن أصبح صوتًا قوميًا فاقعًا بدل أن أكون صرخة إنسانية.
للأسف برزت الكراهية بين المكونات في أحلك وأبشع صورها. وتبادل المثقفون سموم الكراهية حتى إن بعضهم صب الزيت على نار الكراهية ليزيدها اشتعالًا بدل أن يحاول إطفاءها بما يمتلك من إمكانات متواضعة.
في الحقيقة كانت الكراهية موجودة وكامنة في النفوس، وذلك بسبب غياب دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية، واستئثار نخبة طائفية بالحكم إلى جانب نخبة فاسدة من بقية الطوائف. احتقنت النفوس خلال عهد طويل من الاستبداد الذي استخدم طائفة معينة رأس حربة لقمع الناس. هذا الأمر زرع الكراهية وسقاها بدون أن يكون في الإمكان قطع الطريق على ذلك، إذ لم يكن مسموحًا مناقشة هذه الأمور ولا التواصل بين مكونات الشعب لإيضاح أن السلطة ليست طائفية إنما سلطة استبداد تتكئ على الطائفة وتستغل خوفها الموروث للبقاء في السلطة.
لست معنيًا بالمصطلحات التي ظهرت كألقاب للكتاب مثل سني، درزي، علوي، أو حتى كردي. هذه صفات غير مبررة، إنها ليست شتيمة بطبيعة الحال لكنها ليست امتيازًا ولا علامة تفوق. ربما تظهر إشارات الكراهية في كتابات بعض المثقفين وهذا يعبر عنهم شخصيًا؛ أي أن الكاتب الذي يستعمل الطائفة والمذهب والدين والقومية كصفات للآخرين كاتب موبوء فعلًا. قرأت في أحد الكتب مثل هذا الأمر ولم أستسغه. كيف أصف سعد الله ونوس مثلًا بأنه كاتب علوي؟ وهل يجوز إطلاق صفة سني على كاتب ولد لأبوين على مذهب السنة؟ حتى لو كان أحد الشعراء مواليًا للنظام فهل سنطلق عليه لقب علوي؟ لا أبدًا. هو كاتب سلطة بغض النظر عن ماهية السلطة. الذين صفقوا لصدام حسين كثيرون فهل نسميهم كتابًا سُنّة؟
قومنة، مذهبة أو “طأفنة” الثقافة والكتاب أمر خطير يجب أن ننتبه له، لأن ذلك يزيد من درجة الكراهية، ويزيد الشرخ بين مكونات الشعب. ومحاربة الكراهية لا تكون إلا بإشاعة مُثل التسامح والكتابة عنها وبحثها وتحليلها وجعلها خبزًا يوميًا، مع أنني يائس من قدرتنا كمثقفين فقط على إطفاء هذه النار. يجب أن تُسخَّر إمكانات هائلة لهذا الموضوع كوسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي. وللأسف فهذه الأدوات يملكها الذين يستفيدون من جو الكراهية.
أحمد م أحمد (كاتب ومترجم وناشر مقيم في طرطوس): الكاتب الأخلاقي هو الذي يقف إلى جانب الضحية
في الخلاف الذي بدأ بين الكتّاب السوريين منذ بداية الكارثة في بلدهم، قلتُ إن الأمر يستحق التأني لسببين رئيسين، الأول: معرفة (بعضنا) بورطة سورية الجيوسياسية وتبعية الأنظمة المتوالية للأقطاب الصاعدة القوية في الجوار، وبالتالي حتمية توجّه هذه الأنظمة إلى الضرب بيد من حديد على أيدي كلّ من يحاول زلزلة هذه البنية وإيصال الترددات الزلزالية إلى تلك الأقطاب، بالإضافة إلى الطبيعة الخاصة للنظام السوري التي لا تعرف الحوار. وهذا يقود إلى السبب الثاني: أن التكاليف ستكون عالية في حال تجاهل (الخصوصية) السورية، من دم الأبرياء إلى التهجير واللجوء ودمار البنى التحتية وشرخ النسيج السوري بشكل لن يعود قابلًا للرتق.
طيّب يا أخي والله الأمر جدير بالتأني، وحتى بالخلاف/ الخلاف بلا شرشحة، لأنه ينطوي على سؤال أخلاقي كبير، (يا سيّدي الكبير المقيم في فرنسا الآن، حين أجبت عن سؤالك “لماذا لا تثورون يا أهل الساحل؟” قلتُ: “لستُ مع فكرة أن تُقصف مدينة جديدة في حال خرج أهلها، ولو كانت في الساحل”). هل تسمح بهذه المقتلة والنزوح وتهتّك ذلك النسيج بأكمله من أجل إسقاط شخص، أو شخص ومنظومته، كانا أساسًا في طور (التحييد) بفضل الشعب السوري الخلاق المبدع، إذا كان هذا السؤال الأخلاقي جديرًا بأن يُطرح، فلماذا تخوين من وقف ضد الموت والقتل؟
فهم بعضهم أن هذه الدعوة للتأني خروجٌ (عنهم) وبالتالي (اصطفاف) إلى جانب النظام، هذه هي العقلية الميكانيكية التي أنتجها النظام: إذا لم تكن معنا فأنت ضدنا. لا: أنا ضدكم، ولكني لستُ مع النظام بأي شكل من الأشكال، ولم أكن معه في يوم من الأيام. ومضى (الفرز)، وسرعان ما قسّم بعضُ الكتّاب السوريين الشعبَ إلى فئاتٍ وبدأوا برجمها، وعزلوا كتابًا سوريين كانوا يشاركونهم الطعام والشراب ومكان الإقامة، ومضوا يرمونهم بالسهام، ومنها السهام المسمومة التي تنبش أحيانًا الحياة الشخصية لرفيقهم في الكلمة، وتتعرض لكرامته، فتسقطه إلى أسفل سافلين. يترصّد الكاتبُ اللاهثُ الـ (آخرَ)، وينتظر هفوةً، أو كلمة، أو حتى (لا كلمة) حتى يمسح به الأرض، والعدّة جاهزة، عدة المفردات والاتهامات الرخيصة. حتى لو كتبتَ نصًا أدبيًا يحتوي لقطة فوتوغرافية عن (امرأة محجبة وزوجها….) فأنت تكتب ذلك لأنك طائفي. وإذا ضمّنتَ نصّك شيئًا من البوح والانكسار فأنت (كذاب لأنك تعيش في مناطق النظام)، وإن اشتغلتَ في الإغاثة فأنت (منافق و….) وإذا شكرتَ صديقًا مدّ يد العون لك، وهو ممن ينتقد أصوات رجالات المعارضة الخارجية وسجين النظام لعشر سنوات فهذا يعني أنك (ذيل) للسيد المنتقد. وإذا شُحطتَ مرات ومرات وتجرجرت في فروع الأمن فأنت…. لا صوت، يكتفون بالسكوت.
كانت حملة (التعهير) التي طاولت كلّ من (ليس معكم) منظمةً وذكية، لكنها مجحفة ومسعورة، ظالمة وطغيانية، وكأنك أمام نسخة مشوهة من النظام الحاكم، نسخة الإلغاء والتخوين بأبشع صوره، ذهب ضحيتها كتّابٌ كبار من صنّاع الوعي في التاريخ الأدبي السوري، أدونيس مثالًا. كما لم ينجُ منذر مصري لأنه كتب (ليتها لم تكن)، ولم ينجُ الصغار من أمثالي، فماكينة الاتهام الطائفي لم ترحم أحدًا. كنتُ أقرأ ما يكتبه مناضلو فيسبوك في حملاتهم الممنهجة عن (ث) و(ن) و(….) وعني، وأحك رأسي قائلًا: في أيّ بلد أعيش، ومن هؤلاء الناس!
البلاد الآن مصانع تخوين معلّب، تخوين بكل النكهات: طائفية، إثنية، مناطقية. مصانع يديرها بعض كتاب عصابيين، وضائعين، وورثة مخلصين للكراهية، حتى باتت البلاد أول منتج ومستهلك ومصدّر ومستورد لهذه السلعة الرخيصة التي لها زبائنها الكثر “الدّفّيعة”.
توزّعَ بعض الكتّاب على مكاتب الدعاية في (فروع أمن الثورة)، حتى صار أيّ صوت عقلاني هدفًا ينبغي إسكاته من قبل الماكينة الإعلامية الهائلة التي رافقت الأخوة (الأعداء) التفتيتيين.
حُرمتُ من ترجمة كتابٍ لي ونشره في لغة أخرى بسبب وشوشة صغيرة: (هذا ليس معنا)! بينما يترجَم أبناء وبنات أرباع المواهب إلى كلّ اللغات؛ أحدهم قال لي في اتصال واتس اب: “لو أنك طلعت معنا كان صار اسمك فووووق…”، قلتُ له: “أنا أقف إلى جانب أهلك المهجّرين إلى الساحل، ألا يكفي؟”.
هناك أحد أكثر الكارهين لي، وهو من أكثر من أحبهم، الصديق الشاعر الذي خرج من سورية منذ سنتين، والذي قال لي ذات يوم حين كان في دمشق: إذا حدث شيء في الساحل، فبيتي الدمشقي لك. وأنا هنا أقول له: بيتي الساحلي لك متى عدتَ من ألمانيا.
دعوات المهرجانات، الحظوة بالأمسيات الأدبية وطباعة الكتب بالعربية، ثم ترجمتها إلى اللغات الأخرى هي من نصيب الكتّاب الذين ادّعوا الثورة فيسبوكيًا حين لاح لهم أنها ستنتصر، بينما عُزلَ الآخرون. والـ (الآخرون) هنا، هل هم موالاة؟ لا، ليسوا كذلك، بل إن لمعظمهم تاريخهم الطويل في المعارضة، ولهم سنوات سجنهم وأولادهم الذين تركوهم صغارًا، وحين خرجوا حضنوا أولادهم و.. أحفادهم.
كنتُ مع الشارع السوري السلمي، وشاركتُ في حراكه مع مجموعة كبيرة من السوريين، ومع أول حدث مسلح، اتجهتُ للمرة الأولى في حياتي إلى (التوفيق) بين من أعرفهم من الأقلام السورية، تحت وهميَ بأن للكتّاب تأثيرهم على الشارع، لكن (فرزني) الشباب الأكارم أنني (لستُ معهم)، وبصورة أوتوماتيكية وضعوني في صفٍّ غريب ويثير الضحك والحزن.
دخل بعض الكتاب السوريين في المقلب الآخر، الوجه الآخر للسعار، الهزيمة والإفلاس والعصابية والقلق وفقدان البوصلة، ومما يدهش له المرء هو سرعة جهر بعضهم بزبالتهم الطائفية، انقلاب المعادلة التي تقول إن المثقف هو من يرتقي بابن الحياة اليومية، إلى: ابن الحياة اليومية وهو يخلف المثقف والكاتب وراءه. فما نشهده على فيسبوك من تخوين وغلّ طائفي لدى الكتّاب، لا نجده على أرض الواقع، لأن (ابن الحياة اليومية) ليس مشغولًا بعقيدتك وربّك، بل بـ “أمانكما” ولقمة العيش لأطفالكما معًا، في محافظة ساحلية كانت حصتها هي الكبرى بين ضحايا الجيش النظامي، وعدد سكانها 800 ألف نسمة، استقبلت مليونًا ونصف مليون مهجّر، بدون أن تُسجّل حادثة واحدة بين مقيم ومهجّر تتجاوز الخلاف بين مقيم ومقيم.
فهناك الوجوه الأخرى المحنطة، وجه البغل الأقلياتي (المفزوووع) الذي لا يقلّ انحطاطًا عن دعاة القتل من الخارج – الأقلياتي المذعور، الصوص، التوتو الصغير الذي رجع بعد عام من الحرب السورية إلى وكره الطائفي، (ليشحن) الذاهبين إلى الحرب بالكراهية ضدّ (أولئك) بمسلّحهم ومدنيِّهم، بشرهم وأنعامهم، موصيًا الفتيان (وهو الذي أصبح حبرًا أقلياتيًا مشهودًا له) أن أحرقوا الأخضر واليابس. هناك الشاعر الرسمي، والشاعر الآخر الذي تصوّف، والذي تحوّل إلى الكتابة عن الطبيعة، وشاعر (المحبة والسلاااام!!)، وتفعل الطبيعة فعلها بآخر فيحدث (التحوّل) الغريغور سامسي لديه ويستيقظ صباحًا ليجد نفسه نيتشويًا بتسعين ذراعًا، وثمة الأخ الكريم الذي صار يقينيًا و(آدميًا) وزوجًا وأبًا صالحًا وترك الشعر لصالح شرب المتة، وهناك مَن دخلوا زرافاتٍ زرافاتٍ في ثيماتٍ شعرية ثوروية منها هجاء مدير الكهرباء ومدير الأعلاف. هناك السادة الكتّاب الإنسانيون الذين نشروا صورهم وهم يسلمون أطفال المهجّرين ألبسة شتوية وعادوا إلى التفاهة وأكل الهوا. وجاء في آخر الزمان الكتبة المطالبون بتعزيز (الهوية) القيئية الإقليمية وإرجاعها إلى الحالة الفينيقية (لأننا) لسنا (منهم)!
على هذا الطرف من مزبلة التخوين السورية، يقبع كتّابٌ آخرون أنصاف موهوبين، أبناء القطعان المذعورة، ممن يطالبون بفرم صاحب أيّ صوت آخر حين يعود، أو منعه من العودة، أو اعتقاله أو خصيه ومصادرة أملاكه وسحب الجنسية منه.
أيضًا، من تجليات السعار على هذا المقلب، المطالبون بالتقسيم، وبإحراق المدن فوق أهلها، المهللون للكيمياء، والذين نسجوا شبكة أقلياتية وخطوطًا ساخنة مع العشائر الضئيلة المنكمشة تحت شعار (نحن) و(أنتم) تحت النار ذاتها.
وهناك مسرح عبث لا ينتهي، وحديقة حيوانات داجنة آخذة بالتمدد.
يبقى أدونيس وصادق جلال العظم وبرهان غليون وزكريا تامر وسليم بركات وحيدر حيدر وفواز حداد ونزيه أبو عفش ومنذر مصري وخليل صويلح وو.. هم ثروة سورية الثقافية، و(كتّابي) السوريين الذين لن أفرّط باسم أيّ منهم مهما كان الموقف مما يجري، فأنا أثق بأن كلًا منهم قد تصرف وفق رؤياه ومنظومته الذهنية ولمصلحة البلد من وجهة نظره. هناك كتّاب فرنسيون طالبوا بسحق الثورة الفرنسية وآخرون ناصروها، وبقي الجميع من ضمن الأيقونات الفرنسية على مرّ العهود. وهنا أتذكر موقف نجيب محفوظ الهزيل تجاه زيارة السادات إلى (إسرائيل)- الموقف الذي لا يليق بكاتب من الدرجة التاسعة والعشرين، ومع ذلك، يبقى درة الرواية العربية الكبرى.
الكاتب الأخلاقي هو الذي يقف إلى جانب الضحية؛ فقراء هذه البلاد، الذين لن يغفروا أبدًا لمن شحنَ طرفًا ضد طرف آخر فاستباح منهم من استباح وقتَل منهم من قتل.
وأخيرًا، مبروك للنظام، فقد خرّجتْ مدرستُه تلاميذ موالين ومعارضين أكثر كفاءة منه، وأكثر إلغائية منه، وأكثر تعددًا في الأفرع والعسس منه، والدليل ما قيل أعلاه.
ضفة ثالثة