لماذا يموت المخرجون ويبقى الشعراء في سورية؟
فادي عزام
على الهاتف صوتُها المغموس بالألم يختزن حرقة قلب ثلاثين ألف أمِّ سوريّة.
كل ما استطعت أن أقول لأمه ‘ تامر’ اليوم في عرسه فارفعي رأسك يا أمي.
ابن قريتي الاسمر المديد القامة لم اعرفه إلا عند مفترقات الأيام، لم نتبادل الحديث ولم نتشارك الرفقة؟ أي وجع يعتصرني الآن؟ ماذا كان يشغلني عنه؟
الذاكرة تتوهج حين تلمحه مستقرا في داخلها، أراه في جرمانا قبل سنوات طوال يعمل في محل ورود يشتلُ ويقلّمُ ينتقي وينسق ويختزن عطورا في روحه. ستجلب الحمام لاحقا إلى كتفيه.
يومها مررت مستعجلا سلّمت عليه ابتسمَ بحب ووعدته بأن أمر لأراه ولم أفعل!؟
لماذا لا نعرف كيف نحتفل بالحياة؟ لماذا لا نتدرب على حدس من يختزنون هذه الحدائق في قلوبهم؟
لماذا ألأنه قريب ومن قريتي التي يفتك فيها الملل؟ يجعلني لا اتوقف في محله الصغير الممتلئ للثمالة بالعطور السورية.
تقول صديقتي البارعة في قراءة سيمياء الوجوه، وجهه سوريّ بامتياز يمكن أن يكون في كل مكان يعمل في كل المهن، وجهه متشكل من ألفة الصديق.
لماذا يصبح الشهداء فجأة بهذا الألق البرّاق؟
برقٌ وامض يجمد الصورة ويجعلها بطيئة ممتدة تتشبع فيه العدسة العينين الوامضتين، لقطة واسعة أراه في دار نشر صغيرة في معرض كتاب فقير.
أدور متفقدا العناوين أسأله عن بعضها وعن الأيام ما تفعل به ؟ يفاجئني صوت واثق إنه سيعمل في الإعلام ويتحدث بجمل غامضة عن توثيق العدم السوري.
هل فعلا همس لي بذلك .. هل’ ذاكرتي الآن تعتقد وبعد ذلك تتذكر’
ما أنا واثق منه قبل سنوات طويلة، كان يمسّد الكتب، يجمع عناوينها يتقن قراءة مكْرَها والممنوع منها، وعدته يومها أن أعود لنتحدث ولم أفعل لأني كنت مستعجلا !
مرت السنوات بذهول السرعة بخطاطيف والكلّبات التي تشلع الذكريات وتحشو الرأس بكل أنواع الحنين المريب للبلد وعنجهية الاغتراب
غاب وجهه واسمه تماما ليظهر في برلين بفيديوهات على اليوتيوب.
يومها مررت الفيديو لكل اصدقائي وهو يقف محتجا يرفع لافتة معلنا إن جيلا جديدا لم يعد يخاف من التلعثم أو يرزح تحت سطوة القواعد والإعراب والتكسير والضم والسواكن . .
يعلن بلسانه المثقل بسنوات الصمت والخوف انه لم يعد خائفا، وان جيلا جديدا صار بوسعه طرح الأسئلة ،مفجرا كلّ بلاغات الإجابات الكاذبة.
ويقول لي شخصيا ابن قريتي الغارقة في ‘ مطخ الملل ‘ إنه صار بوسعنا أن نشهر الصوت نتخلص من التقية فلقد لاح لنا أخيرا جسد وطن.
زمن الخوف والمخيف يتأرجح وجدار برلين السوري الذي فصل ابناء البلد عن الجسد وعن انفسهم ضربت به أول مطرقة في درعا. وانداح فيض الاشهار.
يقول تامر العوام في تسجيلاته الأولى أشياء تكاد لا تصدق، ترسم ابتسامة عدمُ مبالاة لدى الكثيرين وسخرية من سدنة الثورات ومنظري التثوير المفصل على قدر المخيلات الضيقة.
لكنه يمضي بكل ما تستطيع حنجرته وعدسته الشرهة التي تدور حول الحدود متلهفة لتتحرش بالموت الجاثم على صدر البلد علّه يزيحه لقطة فلقطة.
يكتب على صفحته جملا حاسمة واضحة لا تخطىء الهدف.
إنها ثورة حرية وكلما اعتمت وتشوشت الرؤية تزداد جمله حسما فإن كان ما يجري في سورية ليس بثورة فإن ما يجري بجسدك ليس بدم وما يقبع برأسك ليس بمخ.
إذا جيل الثورة بدأ يقول كلمته، لم يقتنع الكثيرون أو يأخذونه على محمل الجد راكضين وراء البرّاق من الكلام ومن يتقنون القول الفصيح واللسان الصحيح تركوها للشعراء ومدمني الفضائيات.
إنها ثورة الصامتين الأزليين والمتلعثمين ممن لم يستطيعوا يوما أن يشرحوا أنفسهم أو يشهروا لغتهم.
في الداخل يتماهون مع الموت السوري يعانقونه يوميا، يفردون له الصدر والحلم والصوت.
وفي الخارج يقطع بعضهم الحدود إلى سوريتنا من باب الجرح النازف يظنون إنهم يحملون المعدات اللازمة لتقطيب جسد البلد ‘كاميرا بعدسة واسعة وقلب فسيح’.
تامر العوام وباسل شحاذة والكثيرون ومن يود أن يرى كيف تنطفئ الكاميرات وتعاقب وتثقب وتداس وتحبس وفي كثير من الاحيان تنام برقة على صدر صاحبها المغمض العينين والمنسفح الدم مسلمين الراية لحامل ‘ كاميرا ‘ جديد، فليبحث في أرشيف ‘أكاد الجبل’ فلديه كل أنواع موثقي الموت المستشهدين.
شيء يجعلني أسخط على الشعراء وأرباب القلم، ألا من شاعر أو كاتب واحد يستشهد بجوار هؤلاء برفقة قلم وورقة بيضاء؟
إذا إنها بعض من ملامح المعجزة السوريّة جيل جديد لم يعد يتلعثم صار يتقن التصوير.
أخيرا..
هذه المرة لم تدعوني لأمر كي نحتسي فنجانا من القهوة.
هذه المرة أنت الذي كنت مستعجلا.
كاتب من سورية
القدس العربي