لمن الغلبة في سورية … لروسيا أم لإيران؟
عبد الوهاب بدرخان *
في سياق «الفيتو» الغبي الذي شهرته روسيا والصين صار حتى التدخل «الإنساني» صعباً ومعوّقاً، إن لم يكن مستحيلاً في سورية، بالكاد يحتمل نظام دمشق وجود الصليب الأحمر والهلال الأحمر، لأنهما يشكلان ضغطاً في الداخل على عمليات القتل بدم بارد والإعدامات الميدانية، فكيف يوافق على فرق خارجية تأتي بالمساعدات للمناطق المنكوبة. بالنسبة الى النظام، لا يشكل الإغاثيون سوى فرق من الشهود الدخلاء الذين سيقاسمونه احتكار السيطرة، وسيكون عليه أن يفرض لائحة شروط طويلة وشديدة للتحكم بعملهم، فهو لا يرى ضرورة لأي مساعدة أو إغاثة، لأن من يعتبرهم العالم منكوبين بالقمع والقتل والقصف والتهجير هم في نظر النظام مجرد متمردين خارجين عن الطاعة، وما عليهم ببساطة، سوى أن يمّحوا من الوجود.
لكن «التدخل الإنساني»، المشروط بموافقة من القتلة، ورغم أنه لا يزال مجرد تمنٍّ، هو أقصى ما استطاعه المجتمع الدولي. سيكون على كوفي أنان أن يقبّل الأيدي والأقدام للتوصل الى اتفاق بشأنه، فهذا نظام مستقوٍ باستقالة العالم وعجزه عن اختراق جداره، وبات يعتبر أن الاستعداد الصريح المعلن عن تسليح «الجيش الحرّ» يسوّغ له الإسراع في الحسم العسكري ومضاعفة الوحشية في ارتكاب المجازر، بل تعمّد بث أشرطة التنكيل بالمدنيين الذين غامروا بالبقاء في بيوتهم في بابا عمرو. جمع «شبّيحته» خلاصات الإجرام وتجاربه، من روسيا في الشيشان، ومن صربيا في البوسنة، ومن راوندا، ومن اسرائيل في الضفة والقطاع… الى حد أن زعيم المافيا الروسية–الإسرائيلية أفيغدور ليبرمان «صُدم» مما يجري، باعتباره «لا يطاق»، وتذكّر فجأة أنه يعيش في القرن الحادي والعشرين، متناسياً أن الاحتلال الاسرائيلي يتعامل مع الفلسطينيين بعقلية القرون الوسطى وما قبلها.
على هذا المنوال، قد لا يجد «أصدقاء سورية» داعياً لعقد مؤتمرهم الثاني في إسطنبول، وربما لن يجدوا ما يقولونه، إذ إنهم كرروا في تونس ثرثرة كل ما ثرثروه خلال سنة، وستكون مهزلة كبرى أن يعودوا الى الرطانة ذاتها فيما يكون قتلة النظام راكموا بضعة آلاف أخرى من الضحايا مستهزئين بكل المؤتمرات التي لا تكفّ عن طمأنتهم بأنهم يستطيعون مواصلة الولوغ في الدم، فللقتلة روس وصينيون وإيرانيون يحمونهم ويحولون دون أي محاسبة لهم، وحتى حين بدا أن الصين فضلت الخروج عن الصمت بعد مجازر بابا عمرو، وجرى التأهب لرؤية تعديل ما في مقاربتها للأزمة، إذا بها تحبط الجميع بـ «أفكار روسية» مقلّدة ومستهلكة.
جهدت «الأفكار الصينية» لإقامة توازن عنفي بين النظام والشعب، مشددة على احترام سيادة سورية، سواء في المساعدة الإنسانية للمدنيين أو في رفض التدخل الخارجي. لكن عن أي سيادة يجري الحديث هنا، فالنظام كشف سورية، حتى لم يعد مفهوماً مَن يحكمها واقعياً طالما أن النظام نفسه يعوّل على روسيا وإيران، كما كان عوّل على تركيا، وكما عوّل دائماً على مساندة إسرائيل ليتجاوز أزماته التي لم تكن يوماً داخلية ولم تهدد أبداً وجوده في السلطة. وفي أي حال، تأخرت بكين في «اللامبادرة» التي طرحتها، لأن «أمبراطور» روسيا فلاديمير بوتين أرسل قبيل معاودة تتويجه إشاراتٍ فُهم منها أن ما قبل الانتخابات قد لا يكون كما بعده، الى النظام السوري.
هل هذا سراب آخر في صحراء الأزمة السورية ومجاهلها؟ أم خدعة؟ أم صحوة في «ضمير» الديبلوماسية المافياوية؟ وهل يمكن الوثوق بموسكو عندما يتعلّق الأمر بكرامة الشعوب وحريتها؟ لو أجدى قبلها الوثوق بالولايات المتحدة لبدت المجازفة مع روسيا ممكنة. الأرجح أن «التغيير» سيكون متدرجاً، ولن يبادر الى تنازلات جوهرية، ورغم أن موسكو رهنت مصالحها بهذا النظام السوري، لكنها لا تجهل أنه آفلٌ لا يستطيع الاستمرار بعدما أصبح أشبه بقوة احتلال. لذلك، إذا كان لا بد من تغيير هذا النظام، فقد تفضّل روسيا أن يتمّ بإرادتها وبمشاركتها، وقد تضطر الى هذا الإجراء إذا ارادت فعلاً ترجيح «الحل السياسي»، فمثل هذا الحل لا بد أن يقوم على قاعدة نقل السلطة لكنه لن يبصر النور ولن ينطلق اذا كان شرطه (الروسي) أن يبقى بشار الأسد رئيساً، فبقاؤه لا يساعد الحل ولا يعني سوى أن الأجهزة الأمنية برؤوسها الحالية ستتحكّم بهذا الحل. هناك فرصة لـ «تفاهم» مبدئي عربي-روسي (في الاجتماع الوزاري بعد غد السبت)، لأن العناصر المطروحة للحل متقاربة، أما الفارق، فيتمثل عربياً في انعدام الثقة بالرئيس السوري والحلقة القيادية المحيطة به.
واقعياً، لدى موسكو فرصة لا تنطوي على خيارات كثيرة، واذا لم تنتهزها فإنها ستتحوّل الى مخاطر وخسائر كثيرة، فالشعب السوري يحمّلها منذ الآن مسؤولية دماء ضحاياه واحتقارها لتضحياته، لكنها تستطيع أن تبذل جهداً لتحسين صورتها وسمعتها سورياً وعربياً اذا تمايزت عن هذا النظام الدموي، ويعني ذلك أن تستخدم نفوذها لإجراء تغيير أولي من داخله. لكن النظام سيكون متحسباً لمثل هذا الاحتمال، وسيقاومه بالشراسة نفسها التي يتعامل بها مع الشعب، فلا يبقى له عندئذ إلا الحليف الإيراني الذي لا خيار آخر له سوى الحفاظ على نظام الأسد.
قد لا يدور صراع علني على سورية بين روسيا وإيران، لكن الأكيد أنهما لا تنطلقان من مواقف متطابقة ولا من أهداف متماثلة ولا من مصالح متكافئة في التعاطي مع الأزمة السورية. والأكيد أيضاً، أن المرشد الايراني لن يقول كما قال بوتين، إن «لا علاقة خاصة» تربطه بالنظام السوري. صحيح أنهما يقدمان اليه ما يحتاجه من وسائل القتل والتدمير، ويدعمان حسمه العسكري ضد الشعب، لكن الصحيح أيضاً أن روسيا اعتمدت ديبلوماسية لا تمكن إدامتها الى ما لا نهاية مهما كان حيّزها «المبدئي» كبيراً. أما إيران، فمعنيّة مباشرة بحياة النظام وبموته، وتعوّل عليه، سواء في نفوذها الإقليمي أو لإبعاد المخاطر عن «حزب الله» في لبنان. وعلى ذلك، اذا تعذّر التوفيق بين رؤيتي روسيا وإيران لـ «التغيير» في سورية، قد يدور سباق بينهما الى رسم معالم أي تعديلات داخل النظام. وهنا ستكون الأرجحية لإيران، فالنظام لن يتعامل مع أي موقف روسي قد يشكّل تضييقاً عليه.
في مقال سابق (الحياة 16/6/2011)، كان التساؤل: «من يحسم في سورية… تركيا أم ايران؟»، واختار النظام أن يتخلى عن الصديق التركي لمصلحة الحليف الإيراني، وذلك بالتزامن مع بداية لجوئه الى حليف آخر هو الروسي، رغم ما كان بينهما من جفاء بسبب مواقف سابقة لموسكو (منها تحديداً عدم تعطيلها إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بالاغتيالات السياسية في لبنان)، وقد يخسر هذا الحليف في المرحلة المقبلة، وإن حافظ عليه مصدراً للسلاح.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة