لو أنّ لديكم كرامة وشرفاً!/ عمر قدور
ينقل الصديق الكاتب بكر صدقي في صفحته الشخصية، عن شاهد من الداخل السوري، هذه الحادثة: مساعد أول في الجيش يقتحم كوة الفرن الضيقة، ويحصل على كمية خبز تكفي عشرين شخصاً، ثم ينظر إلى الطابور الطويل من “المواطنين” الذين ينتظرون دورهم في الحصول على الخبز، ويخاطبهم باحتقار شديد: “أنتو مفكرين حالكم زلم؟ لو عندكم كرامة وشرف ما تحملتوا هالذل اللي أنتو فيه.
ربما يلزم بعض الشرح لغير السوريين، فالحادثة كما هو واضح جرت في إحدى مناطق سيطرة النظام، أما الازدحام على الأفران فظاهرة عاشتها أجيال من السوريين، حيث تحتكر السلطة تجارة القمح ومشتقاته، وتحت دعوى بيع الخبز “وهو مادة أساسية جداً على مائدة السوريين” بأسعار أرخص كانت هناك في أغلب أوقات حكم تنظيم الأسد أزمة خبز، بصرف النظر عن النوعية المتدنية منه. رتبة المساعد الأول ليست عالية، لكنها كافية في الأوقات العادية لتجاوز أولئك البسطاء الواقفين في الدور، أما في مثل هذا الوقت فهي قادرة أيضاً على قتلهم إذا كان منظرهم لا يروق لصاحبها. الأهم طبعاً تلك العبارة الفظيعة التي يخاطب فيها ذلك المساعد الذين تجاوز حقهم في الدور، فهو لا يكتفي بإذلالهم وهو صامت، وإنما يصرّ على تأكيده إمعاناً في التحقير.
يمكن ترجمة عبارة المساعد أول على النحو التالي: أنا أذلّكم بالأصالة عن العصابة الحاكمة، وأنتم تعلمون ألا طاقة لكم بمواجهتها لأنها محمية من عصابات دولية لا قدرة لكم على مواجهتها، ولقد خرج أمثالكم للتو خاسرين من هذه المواجهة. عصابة كالتي أمثّلها تستحق الثورة عليها، لكنكم لن تتجرؤوا ثانيةً على الثورة التي تتمنونها في قرارة أنفسكم بعد سحق ثورتكم أو ثورة أشباهكم، وأنتم مضطرون الآن لدفع ثمن ذلك. وحتى إذا وجد بينكم من لم يكن مع الثورة أصلاً فهو يستحق الاحتقار المضاعف، لأنه لم يكن صاحب كرامة من قبل.
بالتزامن مع هذه الحادثة وما يشبهها كان ضابط معروف بوحشيته في “الحرس الجمهوري”، وله صور يسلخ فيها جثثاً آدمية “اسمه عصام زهر الدين”، قد توعد المهجّرين السوريين في حال عودة أحد منهم إلى البلاد. وانبرى قائد ميليشيا عشائرية تقاتل إلى جانب عصابات الأسد، هو نواف البشير الذي احتُسب يوماً على المعارضة، بالقول أن كل من يقاتل من عصابات النظام من لبنانيين وإيرانيين وعراقيين وأفغان… يحمل الجنسية السورية، بينما ستُسحب الجنسية من كافة معارضي العصابة الحاكمة.
بالتأكيد نقل هذه التصريحات ليس رسالة للرئيس اللبناني وصهره اللذين يؤرقهما وجود اللاجئين السوريين في عهدهما القوي! فالمسألة تتعدى “الحرتقات” الصغيرة إلى فهم ما يحدث الآن في الداخل السوري، وكيف ينعكس الانتصار المزعوم للتحالف الروسي الإيراني من خلال العصابة المحلية. فما يحدث في سوريا لا تجوز مقارنته حتى بممارسات تنظيم الأسد قبل الثورة، أو بالتنظيم المخابراتي الذي كان عليه أيام الأسد الأب. الإمعان في إذلال وقهر الناس لم يعد نهجاً محسوباً، ولا يمكن الزعم بأنه يتوخى أهدافاً سياسية حقاً، ولو كانت تتلخص في استرقاق ما تبقى من السوريين.
كان يمكن مثلاً لشيخ عشيرة كنواف البشير، الوارد ذكر تصريحاته، أن يعود إلى العصابة الحاكمة مع قليل من الاتزان في أدائه. مثلما كان يمكن لضابط متوحش ألا يسمح بتصويره وهو يسلخ الجثث، وألا يصرّح على التلفزيون الرسمي بنيته استهداف العائدين حتى إذا سمحت لهم “الدولة” وسامحتهم بحسب تعبيره. لولا أن إمكانية حدوث ذلك تتنافى جذرياً مع ما آل إليه تنظيم الأسد، فالعائد إليه من صفوف “المعارضة” لم يكن ليفعل سوى ليمثّل هذا القبح تحديداً، والضابط الذي لم يفارق صفوف التنظيم يسبر غوره جيداً ولا ينطق عن هوى شخصي.
إننا هنا لسنا إزاء تنظيم منتشٍ بالنصر، يدفعه الإحساس بالنصر التام إلى المغالاة في سحق الخصوم وإذلالهم. فشبيحة التنظيم، بمختلف الميليشيات التي ينتسبون إليها، لم يكونوا يسلكون مسلكاً مغايراً عندما كان تنظيمهم في أشد حالاته ضعفاً، بل حتى في حالات الضعف تلك كان إذلال جمهور الموالاة يُعدّ وسيلة لإظهار القوة وإنكار الضعف أمام الخصوم. وإذا أرجعنا الغطرسة إلى انتصار حافظ الأسد على عموم المجتمع السوري، واستلام السلطة من ورثة تربوا على السلطة المطلقة، فهذا العامل يصلح إلى حين اعتماد الورثة على الدعم الخارجي وإدراكهم ألا بقاء لهم من دونه.
ربما يكون العامل الأخير هو الأبلغ تأثيراً فعلاً، إذ منذ دخول الميليشيات الإيرانية لم يعد تنظيم الأسد يرى في مؤيديه إلا استكمالاً إعلامياً لصورته، فضلاً عن ضرورة الزج بشبابهم في المعارك. منذ ذلك توزع السوريون بين ثائر يهدد التنظيم ومؤيد غير قادر على إنقاذه، يُضاف إلى هاتين الفئتين الشبيحة الذين أصبحت مهمتهم الأساسية إثبات وجود وقوة التنظيم في أماكن سيطرته، وأحياناً الانتقام ونهب ممتلكات أهالي المناطق الخارجة عن السيطرة. احتقار تنظيم الأسد مؤيديه لم يكن أصيلاً كما أصبح في السنوات الست الأخيرة، وعندما قال بشار في خطاب له قبل أكثر من سنتين أن “سوريا لمن يدافع عنها” لم تكن تلك رسالة لمعارضيه وخصومه، بل كانت أيضاً رسالة لمؤيديه الذين لم يتمكنوا من حمايته.
بهذا المعنى انتهى رسمياً ذلك العقد الضمني الذي كان حافظ الأسد أبرمه مع مؤيديه، والذي كان ينص على تقاسم مستويات متدنية من النفوذ والفساد لضمان عدد أكبر من المؤيدين والمدافعين عنه ساعة الحاجة. اليوم العقد الوحيد الذي له القوة هو العقد المبرم مع الحُماة الخارجيين، والسوريون هم فائض بشري لا قدرة للتنظيم على شراء ولائه، لا بالمال ولا بالنفوذ ولا بأية أيديولوجيا خادعة. جمهور الموالاة نفسه لم يعد يشعر بتلك الحماية المتبادلة، وصار يعوّل عليها من مصادرها الخارجية مباشرة، وربما هذا أكثر ما يزعج النظام إذ يهدده بدوره كوسيط بين الخارج والداخل.
ربطاً بذلك يجوز القول بأن احتقار التنظيم مؤيديه “أو مجمل الواقعين تحت سيطرته” بات يمثّل مقلوباً للعلاقة التي تربطه بحماته الخارجيين، فهو طوال سنوات تلقى إهانات إيرانية وروسية “ولو أتت أحياناً على شكل تسريبات غير رسمية” لن يجد فرصة للرد عليها سوى في الداخل، وهكذا كان حاله أيضاً مع الغارات الإسرائيلية المتكررة، والتي يصرّح بأن رده عليها سيكون في الداخل بزعم توجيه الرد للمعارضة المدعومة إسرائيلياً.
فحوى الإهانات الخارجية لا يتوقف عند حد القول بأن أصحابها حموا التنظيم من السقوط، بل تُفهم أيضاً بأنهم قادرون على إزاحته عندما تقتضي مصالحهم. عند هذه النقطة قد نجد تفسيراً أفضل لسلوك عناصر هذا التنظيم، وحتى لعبارة المساعد أول الواردة في المستهل، فاليقين المضمر لدى رؤوس العصابة وأفرادها أنها تعيش احتضارها رغم كل مظاهر الغطرسة، وإذا كانت الثورة قد كشفت حجم التأييد المتبقي لها بين السوريين فإن استجلاب الاحتلال الخارجي كشف القوة الحقيقية للمؤيدين، وكشف أن تنظيم الأسد بلا قوة داخلية حقيقية أو كافية. بهذا المعنى يصعب أن يظهر تنظيم الأسد إلا بأشد المظاهر ابتذالاً وتفاهة وخروجاً عن مقتضيات السياسة، وقد يصحّ اختصار الأمر بالفرق بين نظام مستبد يستخدم الوحشية خدمة لبقائه وتنظيم ذي وحشية غرائزية يدرك أن بقاءه محدود كمهمة وكأجل.
المدن