ليس رداً على أحد/ رشا عمران
أعادتني الدعوات المنتشرة حالياً في “فيسبوك” لإعلان الانشقاق عن الطوائف، والتي دعا إليها مثقفون علمانيون، يفترض أنهم منشقون أصلاً عن كل الهويات ما دون الوطنية والإنسانية، خصوصاً بعد ما مر بسورية والمنطقة من أحداث، كان للتطرّف، بشقيه الشيعي والسني، الدور الأكبر فيها، أعادتني هذه الدعوات إلى بداية الثورة السورية في 2011، وكيف وجدنا فجأة، نحن، المنتمين مصادفة للطائفة العلوية، أننا مطالبون بالتبرؤ من أفعال الأمن والجيش والنظام وإجرامهم، ومن تأييد غالبية الطائفة العلوية، وقتها، للنظام ووقوفها ضد الثورة.
كان الأمر يشبه الصدمة لكثيرين منا، إذ انتبهنا، فجأة، أن الآخرين ينظرون إلينا علويين، لا سوريين، وأن وجودنا المادي والمعنوي ينطلق من هذه النقطة. كان مدهشاً أن نقرأ خطابات وبرقيات شكر وتحية لنا لأننا وقفنا مع الثورة، وكأن هذه الثورة في بلد آخر، وكأننا انتقلنا من بلدنا إلى بلد الثورة لنساندها. كان ذلك في الشهرين الأولين من الثورة، وكنا من الحماس والفخر بالثورة ما يجعلنا غير مكترثين بالتوقف عند قضيةٍ كهذه، لم نكن نراها جوهرية. كنا مأخوذين بقوة الانتماء لوطن حقيقي، سيتحقق قريباً لنا جميعاً، وكنا مأخوذين بهتافاتنا وأصواتنا العالية الموحّدة التي أيقنّا، وقتها، أنها كفيلة بإزالة كل الفوارق التي ظننا أنها طارئة وعابرة وآنية.
كان ذلك مبكراً جداً. لهذا، تجاوب كثيرون منا مع دعوات الآخرين لنا للتبرؤ من أفعال الطائفة، وإعلان الانشقاق عنها. كان تجاوباً محبّاً بأغلبه، ومن دون أية خلفية أخرى، وبقصد التعاطف مع الضحايا الذين ليس مصادفةً أنهم ينتمون إلى طائفةٍ معينة، بل بفعل طبيعة المجتمع السوري وتركيبته الديموغرافية، على أن توالي الأحداث ومآلات الثورة أظهرا حقيقة الوضع. لم تكن تلك الدعوات للتبرؤ من أفعال الطائفة عفوية في أغلبها، ولم تكن النظرة إلينا علويين، وإلى الآخرين سنّة، بفعل سياق الحدث اليومي الدموي. كان ثمّة هدف بعيد المدى، هو أحد الأسباب التي أوصلت سورية إلى ما هي عليه اليوم: تعميق الانقسام في المجتمع السوري، والتعامل مع السوريين مجموعات بشرية تعيش على أرضٍ واحدة، لا مواطنين في وطن واحد، يختلفون في السياسة والحرب والثورة وفي كل شيء. وبالتالي، يتم التعامل مع كل مجموعة بوصفها كلاً متجانساً، لا اختلافات فيه، ولا فوارق ولا تمايز بين أفراده. وهكذا يتم تبادل الأمر: تجرّم طائفة بأكملها، ولو كان فيها أبرياء، وتبرّأ طائفة بأكملها، ولو كان فيها مجرمون. وهكذا أيضاً يمكن لأي أحد أن يعطي شهادة حسن سلوك وطنية لبعض العلويين، بفرض أن جميع العلويين متشابهون، أو شهادة حسن سلوك وطنية لبعض السنّة باعتبار أن جميع السنّة متشابهون، لبعض المسيحيين أيضاً وللدروز والأرمن والأكراد. هكذا، يصبح تطييف الثورة أسهل، وتبرير انتشار السلاح أسهل، والحديث عما يحدث بوصفه حرباً أهلية، لا ثورة، أسهل، والحديث عن الانتقام والإبادة والدعس والمعس، بدلاً من العدالة، أسهل، والحديث عن المظلوميات القديمة والجديدة للطوائف أسهل. هكذا، تماماً، يتم القضاء على ثورة شعبٍ بدأت بها فئات مظلومة ومقهورة تاريخياً، وكان يمكن لها أن تمتد لتشمل مجتمعاً بكامله، بل مجتمعات أخرى.
هل ما حدث كان بفعل النظام فقط؟ بالتأكيد، لعب النظام الدور الأكبر في انقسام المجتمع السوري. ولكن، يمكننا أن نسترجع الآن دور الصفحات الثورية العامة على “فيسبوك” في مساندة النظام في تكريس هذا التقسيم. وليس مفاجئاً معرفة أن غالبيتها كانت تدار بمال الإسلام السياسي المعني باستلام السلطة، لا بما أراده السوريون الثائرون من استبدال النظام الحالي بنظام مدني ديمقراطي، وبدولة مواطنة حديثة، لا تمييز بين مواطنيها على اختلاف انتماءاتهم. وليس مفاجئاً، أيضاً، أن هذه الصفحات كانت المصدر الرئيسي للخبر السوري في الإعلام العربي والعالمي الذي كان يصرّ على التعريف بالسوريين المعارضين حسب طوائفهم، لا بوصفهم سوريين ثائرين. وقتها، بفعل الحماسة فقدنا بصائرنا، وانجرَرنا إلى دعواتٍ كهذه. اليوم، في حربٍ تطحن كل شيء، بما فيه الثورة، هل ثمّة مبرر؟
العربي الجديد