ماذا بعد أن تتخلص سوريا من طبيب العيون الذي لا يرى شيئا؟
علي سالم
لست مؤرخا، ولا أطمع في أن أكون، أنا فقط زبون دائم لدى التاريخ أتجول في شوارعه مستمتعا بالفرجة على ما يعرضه في واجهاته الزجاجية من بضاعة، ومحاولا طول الوقت أن أفهم ما يرسل به من إشارات. وحتى الآن أستطيع أن أقول لك، كانت سوريا اسما لبلد ودولة ونظام، ولن يمضي وقت طويل قبل أن نكتشف أنها باتت اسما لمأساة ومحنة ولعنة. مأساة تخصنا جميعا، ومحنة نعانيها جميعا، ولعنة أخشى أن كلا منا نحن سكان المنطقة، سينال نصيبه منها.
في الأسبوع الماضي، عقدت جماعات سورية مؤتمرين في القاهرة، انتهيا بالطبع إلى تشكيل جبهات أو ائتلافات من ذلك النوع الذي يسمونه في السياسة «بيع فراء الدب قبل اصطياده». كان من الواضح أن عددا من السوريين البعيدين عن المذبحة والدمار، قرروا أن يقفزوا على السلطة قبل أن توجد، وهذه الحكاية نعرفها في مصر، هناك من يجهدون أنفسهم في صنع صينية البقلاوة، على أمل أن يحصلوا على قطعة منها، فيفاجأون بمن يهبط على غير انتظار على مائدة الإفطار ليخطف الصينية كلها.
فبشار الأسد ما زال يحكم هو وعصابته، وما زال مستمرا في قتل الشعب السوري والنهاية ما زالت بعيدة. بشار الأسد أثبت أنه طبيب العيون الوحيد في العالم العاجز عن رؤية أي شيء، وذلك بعد أن تخطى كل نقاط الحدود التي يصلح عندها الحوار أو التفاوض لحقن دماء شعبه. أما حكاية خروجه عبر ممر آمن إلى ملاذ آمن فهي ليست أكثر من خرافة، ولذلك فما يجب أن يكون واضحا لنا جميعا، هو أن متاعبنا أو متاعب الشعب السوري بالتحديد لن تنتهي بسقوطه وسقوط نظامه، بل هي بداية لمرحلة جديدة في المنطقة تسودها المتاعب ولعل هذه الكلمة هي أخف ما يمكن استخدامه في هذا السياق.
لست أقول لك نبوءة، أو تحليلا سياسيا، بل هي مجرد انفعالات خوف بداخلي ربما اكتسبتها من قراءة مراحل التاريخ، وربما كانت مجرد مخاوف ليس لها ما يبررها. ولكن هؤلاء الأقدر مني على التحليل السياسي من خلال الأحداث الفعلية وليس المخاوف فقط، أكثر مني قدرة على شرح ذلك. خاصة في العنوان الصادم الذي اختاره الأستاذ صالح القلاب لمقاله وهو (المثلث «الحدودي» غدا ملتهبا.. والحرب الإقليمية قد تشتعل في أي لحظة!) (الشرق الأوسط الخميس 2 أغسطس 2012) الواقع أنك ستلاحظ أن 90 في المائة من كتاب العدد كتبوا في الشأن السوري عجزوا فيها جميعا عن إخفاء مخاوفهم من خطر قادم.
الواقع أن حكومة إيران الحالية ستجد في هزيمة النظام في سوريا – الحليف الوحيد لها في المنطقة وفي العالم كله – هزيمة لسياستها الداخلية والخارجية، وربما تجد في ذلك أيضا سقوطا لاستحكاماتها الدفاعية باعتبار النظام السوري حائط صد وشريكا لها في سياساتها القائمة على معاداة العالم، وهو ما يجعلها بعد سقوطه تقف في عزلة في مواجهة شعبها وهو ما نجحت حتى الآن في قمعه. الإحساس بالتوتر الناتج عن كل ذلك سيدفعها إلى تكثيف عملياتها داخل المنطقة وخارجها، بضربات عمياء تجلب لها المزيد من العداء والأعداء، هكذا تستمر المأساة والمحنة واللعنة.
عند هذه النقطة أتوجه بالحديث إلى الدول المستقرة في المنطقة للحفاظ ولو على الحد الأدنى من الاستقرار. علما بأن الطريقة الوحيدة للحفاظ على الحد الأدنى من أي شيء، هي أن نعمل على الوصول إلى حده الأعلى. حتى الآن لم يحدث أن اخترع الإنسان شيئا يفوق قدرة الدولة على الحفاظ على حقوق الإنسان، ومن هذه الحقوق أن تحميه من كل هؤلاء الذين يريدون حرمانه من حقه في الحرية ومحاولة الوصول إلى السعادة مستخدمين في ذلك الدجل أو الخرافة أو الكراهية. في شبابي المبكر تربيت في بيئة ثقافية تمجد الجموع، وكانت هذه الثقافة أمرا طبيعيا في بلد يدور في فلك الاتحاد السوفياتي، غير أنني طول الوقت كنت أشعر على نحو غامض بأن الأفراد المتميزين هم من يصنع التاريخ، ولست أقصد التاريخ بوجه عام فما أكثر مهازله ومذابحه، بل أقصد ذلك الجانب المشرق منه وهو تقدم البشر وإحساسهم الدائم بالبهجة والطمأنينة والتحقق. وإذا كان الإنسان الفرد قادرا على صنع الجانب المضيء من التاريخ، فهو أيضا القادر على صنع الجانب الوحشي فيه. على الدولة أن تختار في ماكينتها المعقدة وتروسها العديدة أشخاصا يكرهون رؤية الدماء ولا تدفعهم عقدهم الشخصية لكراهية البشر. والأمر ليس معقدا في الدولة إلى الدرجة التي يظنها بعض الناس، يكفي أن يكون الناس جميعا سواسية أمام القانون، يكفي أن يشعر كل مواطن أن الدولة ستخف بكل أجهزتها ومؤسساتها إلى نجدته وإغاثته عندما يتعرض لأي مكروه. يكفي أن يكون مطمئنا إلى أن من حقه أن يتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها أي إنسان آخر.
مع كل فعل تقوم به الدولة لحماية حقوق مواطنيها، تصبح أكثر قوة ومنعة وصلابة. وهو ما يرسخ داخل الإنسان الفرد احترامها والخوف منها. وإذا كنت تنظر باسترابة لكلمة «الخوف» فاسمح لي أن أسبب لك صدمة خفيفة بأن أقول لك، نعم الخوف، هناك نوع من البشر لن تستطيع اتقاء شرهم إلا بإخافتهم، وعلى الدولة أن توفر لهم نصيبهم من الخوف الذين هم في حاجة إليه. تجاربنا كمصريين في هذه المرحلة واضحة في هذا المجال، هناك صنف من البشر إذا لم يشعروا بالخوف من الدولة، فسيقطعون طرق السيارات والقطارات ويسرقون الناس تحت تهديد السلاح جهارا نهارا وهم في الشارع الذي امتلأ بالمارة.
هناك ميل داخل العقل البشري يستمتع بالخوف، أريدك أن تلاحظ سعادة الطفل عندما تحكي له حدوتة مخيفة، كما أريدك أن تلاحظ حرص بعض محطات التلفزيون على بث أفلام مخيفة وتوفر لها الدعاية الكافية، نعم هناك بين البشر من يجب أن تخيفه الدولة. ولكن علينا أن نفهم جيدا معنى الخوف المقصود، فالاستبداد والتعذيب وكل أنواع الوحشية عاجزة عن إخافتهم، هم يشعرون بالخوف في حالة واحدة هي أن يكونوا على يقين من أن الدولة قادرة على الوصول إليهم ولو كانوا في بروج مشيدة، وتقديمهم إلى محاكمة عادلة يعجزون عن الإفلات من أحكامها، على أن يتم كل ذلك في إطار قوي من احترام حقوق الإنسان. وفي هذا المجال أنا أقترح على دول المنطقة المستقرة أن تقوم بتدريس الفلسفة في كليات الشرطة، جربوا.. لن تخسروا شيئا.
كان من المستحيل أن توجد الدولة الموحدة في الجزيرة العربية بغير وجود عبد العزيز آل سعود، رجل الدولة المنشئ، كما كان من المستحيل أيضا أن تنشأ الدولة الحديثة في مصر بغير محمد علي باشا. إنه دور الفرد في التاريخ. الفرد القادر على اختيار معاونيه على شاكلته، الفرد الذي يدرك الصعاب والأخطار غير أنه يعرف جيدا كيف يتعامل معها للخروج بشعب موحد قادر على حماية نفسه في عالم تعوّد فيه القوي أن يأكل الضعيف.
الشرق الأوسط