هل كان لينين يحدس باللحظة العربية الراهنة، حين أطلق عبارته المستاءة: «أقربُ الناس إلى الخيانة المثقفون»، لأنهم في نظره الأقدر على تبرير خيانتهم؟ وهل كان يعلم أن يوماً سيأتي يكون أشياعه من المثقفين اليساريين المتفرّعين من شجرة الفكر الأممي، الأشد انقلاباً على الميراث الديموقراطي والإنساني، والأكثر خيانة للضمير الكوني، ولمبادئ العدالة الأولى التي أقامت حدوداً، لا تخطئها البداهة، بين العدل والظلم، وبين الخير والشر؟ ثم، هل كان رولان بارت واهماً عندما وصف، بحماسة، المثقفين بأنهم «عظماء الأمة»؟ أم إنه كان يتحدث عن «صنف» منهم ينتسب إلى تلك المدينة الفاضلة التي حلم بها ذات زمان سحيق فيلسوف يوناني، رأى في المفكرين والمثقفين الطبقة الأفضل لحكم تلك المدينة، لما يتمتعون به من حكمة وخيرية، وامتثال كبير للقيم المعيارية؟
ظل المثقفون، على مدى العصور، متأرجحين بين الانحياز للسلطة وبين معارضتها والانشقاق عنها، على ما يحمله هذا الخيار من «عواقب» أقلها الموت حرقاً، كما حدث مع ابن المقفع الذي قتله سفيان بن معاوية، أيام حكم أبي جعفر المنصور، بأن قيّده وأخذ يقطّعه عضواً عضواً ويرمي به في النار ويُكرهه على أكل جسده مشوياً! ولم يكن الحلّاج أوفر حظاً في ميتته، في الزمان ذاته، أيام حكم الخليفة العباسي المقتدر الذي أمر بأن يُجلد ألف جلدة، ثم تُقطع يداه ورجلاه ورقبته.
ويزخر التاريخ العربي «المجيد»، قديمه وحديثه، بمثقفين واجهوا المحن والسجن والنفي، وأبشع أشكال العذاب من حكام طغاة وسلطات انقلابية غاشمة، لكنهم، بعد تقلّب الأزمنة والتحالفات، راحوا يهللون لتلك السلطات، ويحجون إلى عواصمها، وليس أدلَّ على ذلك من الهرولة المتواصلة لمصافحة بشار الأسد، والتقاط الصور التذكارية معه من «مثقفين» و «نقابيين» عرب، بعضهم عانى الأمرّين من الطغاة والحكم الاستبدادي وتوريث السلطة!
وإزاء هؤلاء، الذين لا تروعهم فظاعة المحرقة التي وقودها السوريون العزّل، تستعيد بريقها مقولة لينين السابقة، فلهؤلاء ذرائعهم الكافية التي تدفعهم إلى مواجهة الموت، كما حصل مع قافلة أردنية سابقة حجت إلى دمشق، من أجل الشدّ على يد السفّاح، وتشجيعه على مزيد من القتل، دفاعاً عن «العروبة» و «المقاومة والممانعة» ومواجهة «الحلف الصهيوأميركي» و «المال الخليجي» الذي يسعى إلى هدم قلعة سورية المنيعة التي يحرس منارتها بشار بمعاونة حسن نصرالله والولي الفقيه في إيران وبغداد وموسكو!
وإذ يتكرر حجيج «المثقفين» المعلن الذي يُفصح، بلا أي شعور بالإثم، عن خياراته الممانعة، فذلك مدعاة للنظر العميق في صور المثقف ووظيفته ما دام ينظر بعين القداسة إلى خيانة ميراثه الإنساني، وتطلعه الديموقراطي الذي يقضي، بداهة، بمكافحة الحكم الفردي الاستبدادي، والاعتصام بعذابات الشعوب، والتضامن مع أشواق الضحايا وتطلعاتهم نحو الخير والعدالة والكرامة.
فضرب بعرض الحائط هذه المبادئ النبيلة، لمصلحة «الخيانة المقدسة» المتمثلة في نصرة «الجزّار»، وتحمّل خطر الموت للوصول إلى قصره المنيع، ورفع صوره في التظاهرات، وهو الذي يدكّ المدن بصواريخ سكود والبراميل المتفجرة، ويبيد الكائنات بالأسلحة الكيماوية، يعني أن الذرائعية التي تحدث عنها لينين، انتصرت. إذاً، فليمت البشر، ولينتصر الديكتاتور، ولتتقدس الخيانة، ولتذهب أنّات الضحايا إلى الجحيم. (وهل هناك جحيم أشد ويلاً من الجحيم السوري اليوم؟)
لقد كشفت «ثورات الربيع العربي» عن طبقات الخراب العميق في الطبقات الغورية للوعي العربي الذي لا يزال مستلباً صوره الطاغية بكل صلفها وجنونها (والحال المصرية الراهنة مكتظة بالشواهد!). كما سقطت الصور النمطية الطفولية للمثقف، لكن لم يملأ، بعد، مكانَها أحد، إذ النشطاء الشباب تغلبهم الحماسة والنفس القصير، ويسيطر عليهم ضيق الرؤية/ الرؤيا، ما يجعل شروط إدوارد سعيد عن المثقف الحقيقي الذي لا تستقطبه الحكومات ولا السلطات، يتضاءل، ويخفت صوته، لا لشيء إلا لأن الضجيج عالٍ وعامّ وطامّ.
بيْد أن ذلك لا يعني سقوط الشعلة، أو ترك الساحة لأنصار «الخيانة المقدّسة»، فثمة مثقفون «عضويون» ظلوا، وما انفكوا، قابضين على جمرة المبدأ، ولم يخونوا نصوصهم، وأصوات أرواحهم، ولم يقلبوا ظهرَ المجنّ لفكرهم النقدي. وحسب هؤلاء أنهم يقاومون التنميط والاستقطاب والاحتواء، ويكدّرون صفو السلطة، أي سلطة، وهذا أضعف الإيمان!
الحياة
