مثقفُ السلطة السورية قــِبْقَـابُ الجَــامِــع !
ياسين عبد اللطيف
– مركِبٌ صعبٌ ؛ أنْ تكتبَ مقالة عن مثقف السلطة في سوريا ؛ وأنتَ تعلم أن هذه السلطة لم تُنتج نُخبة ثقافية طوال عقود وهي تُطبقُ بإحكام على المؤسسات العلمية والثقافية والإعلامية ،و قد ربطتها بحبل متينٍ إلى مربدِ حزب البعث الذي توَّقفَ فـقهه الثقافي عند سِفرِ المنطلقات النظرية وفكر القائد الرمز !. بل أنتجت السلطة لفيفاً مُتعَالمٍ من هنا وهناك – بدلَ النخبة الغائبة ؛ تألَّبَ والتفَّ حول السلطة المستبدة . يَعْتَلونَ المشهد الثقافي والإعلامي في سوريا ، ويركبون مَطية الجهل ، ويُطِيحون في أودية ضلالات الحاكم الفرد بافتتان ، وهم يُعِينونَه على فجوره السافر ، ويورونَ نارَ حروبه العبثية ضد الناس والحياة، وقد ربطوا أنفسهم بوشائج التبعية المطلقة؛ وبعقلية الخَدِيْم !.
– ما دُمتُ قد سلكتُ هذا المسلك الوعر؛ لأرى بالعرض إنْ كان” مثقف ” السلطة السورية يستحق أنْ أذهبَ به إلى تعريفات القرن العشرين، لقياس حالته على نظريات العصر التي تناولت بجدية وعبقرية علاقة المثقف بالسلطة .
– تصفَّحتُ آراء المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 – 1937 ) في” دفاتر السجن ” المنشور بين 1948- 1951 ، الذي ميَّز بين نوعين من المثقفين؛ المثقف التقليدي : الذي يندرج تحت سقفه ،الكهنة والعلماء والإداريون. ويمارس هذا المثقف الموصوف دوراً ثقافياً من جيل إلى جيل. والمثقف العضوي : وهو صاحب العقل ، والمفكر ؛ الذي يرتبط ويلتصق بالطبقات بصورة مباشرة ، ويتورط بطريقة فاعلة في المجتمع، ويكافح بآليات فاعلة لتغيير الأفكار والعقول !.
خاب ظني وأنا أصل إلى هذه النتيجة ؛ لأنَّ مثقفي السلطة السورية في ظل سلطة العائلة المالكة للناس والحجارة ؛ لا هي من النوع الأول، ولا هي من النوع الثاني !.
0قلتُ لعليَّ أجدُ ضالتي عند الكاتب الفرنسي، جوليان بندا ( 1867 -1956 ) فقلَّبتُ آراءه التي ضمَّها كتابه الشهير ” خيانة الإكليروس ، أو خيانة المثقفين” المنشور عام 1927، الذي وصف المثقفين بأنهم : الفئة قليلة العدد من الفلاسفة والموهوبين والمتفوقين الذين يمثلون قيم البشرية ، ويسهرون للحفاظ على القيم المطلقة ؛ كالعدالة ، والحقيقة ، والعقل ، مثل سقراط ، و السيد المسيح ، واسبينوزا ، وفولتير، وسواهم …!.
فخاب ظني أكثر؛ وأنا أردد القول : أين مثقفي السلطة الأسدية من هذا وذاك في سورية !.
– ثم ذهبتُ إلى مفكر عربي قريب منا ؛ مطلعٌ على ثقافتنا ، ويعرف ُالمشهد الثقافي العربي من تحت ومن فوق ؛ وهو إدوارد سعيد (1935-2003 ) الذي يرى في كتابه ” المثقف والسلطة ، أو صورة المثقف ” أنَّ المثقف : هو فردٌ مُنحَ القدرة على تمثيل ” رسالة ” وشرح صور التمثيل في كتابه . وهو الذي يملك أفكاراً يمكن التواصل والتعبير بها للغير ؛ بمقالة ، بمحاضرة ، بكتاب ، مع ضرورة التمسك بقيم العدالة والحرية ، واستقلال المثقف عن السلطة أولاً !.
قلتُ في نفسي : ما علاقة مثقفي السلطة السورية بمعايير وتعريفات القرن العشرين ، وفلسفات النخب الفكرية هذه ؛ حول المثقف والسلطة من منظور يساري، وليبرالي !!.
– قلت ُ سأذهب وراء القرون ، لأقفَ على حال المثقفِ الإسلامي في ظل السلطة المطلقة ؛ بعد سقوط مؤسسة الخلافة الراشدة وقيام الممالك ؛ وأعني الدولة الأموية والدولة العباسية.
– بدأت بعبد الحميد الكاتب (المقتول عام 132 هـ ) الذي أوجدَ فن الكتابة ؛ بل صناعة الكتابة، وكان يُمّثِّلُ في عصره الثري ثقافة الديوان ، وقيم الطاعة للحاكم المطلق ؛ ثمَّ أعرضتُ عنه لأنَّه لم يترك مُنجزاً مهماً مثل غيره؛ كعبد الله بن المقفع؛ إمام الطبقة الأولى من الكتاب (المتوفي عام 142 هـ ) وقد عابَ عليَّ مثقفٌ يساري مُخبرٌ في أحد مواقع أمن الدولة الإلكترونية أني استشهدتُ بقول: لابن المقفع في حلقة خاصة على قناة الجزيرة حول مثقف السلطة حينَ أعلنتُ انشقاقي وخروجي على النظام في 19- 1-2012 م ، إذ علَّقَ هازئاً : هذا فلان المثقف المتنور- عني – على الجزيرة يستشهدُ بابن المقفع وكليلة ودمنة ؛ إذْ يعتقدُ هذا المندوب الأمني الرقيع ؛ الذي سمع بابن المقفع من حلاق الحارة بأنه مؤلف حكايات !. ولجهله أقول : إنَّ ابن المقفع ترجمَ لأبي جعفر المنصور كتب أرسطو الثلاثة في المنطق، وكتاب إيساغوجي لفرفوريوس الصوري ( منطق ) وكتاب التاج في سيرة أنو شروان ، وألَّفَ كتابي الأدب الصغير والكبير، وكتاب اليتيمة في طاعة السلطان !. وعلى ذكر الطاعة ، فإنَّ ابن المقفع يرى الكاتبَ في مرتبة الخادم ” فاعلم أنكَ تعملُ عمل السخرة ” ويرى الكاتب بين متاهتين ” إمَّا مع الملوك مُكرماً ، أو مع النُسَّاكِ مُتبتلاً ” !.
– أما الجاحظ ،إمام الطبقة الثانية من كتاب العصر ( المتوفي عام 255 هـ ) الذي يعتبر نابغة العرب ، وفولتير الشرق في الأدب، وكتبه تزيدُ على مائتي كتاب في العلم والأدب؛ لم يُنشر منها إلاَّ : البيان والتبيين في الأدب والإنشاء والخطابة ، وكتاب الحيوان ، وكتاب المحاسن والأضداد ، وكتاب البخلاء ، وديوان رسائله.
ويرى الجاحظ أنَّ الكتابة : ” لا يتقلدها إلاَّ تابعٌ ، ولا يتولاها إلاَّ الخَدِيْمِ ” أي أنَّ الكاتب يستظلُّ بظلِّ الحاكم المُطلق؛ يرى بعينه، ويتكلم بلسانه ، ويزوِّرُ إرادة المحكومين. ومن يخرج من طاعةٍ ، أو يفلتَ من رَبْقـَةِ هذه الربوبية ، يلقى الموت ، كما جرى لعبد الله ابن المقفع حينَ حقدَ عليه المنصور- بعد حادثة الأمان – فأوعزَ بقتله إلى سفيان بن معاوية المهلبي والي البصرة ، فقتله حرقاً دون رحمة ؛ لحزازة في النفس من ابن المقفع قديمة ، تذكرها كتب تاريخ الأدب !.
أو يعيش مذموماً ، غريباً في وطنه ” غربة ٌ وصَّابَة وفقرٌ كفقرِ الأنبياء ” ، يعاني من المكارهِ ، وشظف العيش ومرارة الحرمان، ويموت وحيداً من الخلاَّن ، وناصره قليلُ رغم صيته الذائع ؛ كما جرى للفيلسوف المعتزلي المتصوف، والأديب البارع أبي حيان التوحيدي ( 311 -414 هـ ) الذي رأى : أنَّ الكتابة عبادة ؛ قانونها الخلوة ، وآلتها الجوع. وقد بلغ به اليأس والإحباط مبلغاً عظيماً ، دفعَاهُ إلى حرق كتبه الكثيرة في آخر أيامه احتجاجاً على عصره الظالم ، حين ” يصبحُ العلمُ كَلاَّ على العَالِمِ !. وقد سَلم من الحريق بعض كتبه التي نسخها لغيره، وهي من الآثار النادرة في الأدب الإنساني : الإمتاع والمؤانسة ، والبصائر والذخائر ، والصداقة والصديق ، وأخلاق الوزيرين ، والمقابسات ، والهوامل والشوامل ، وتقريظ الجاحظ ، والإشارات الإلهية.
– بعد أبي حيان التوحيدي؛ الذي تبعثُ سيرته على الشجا والألم – أين أذهب للاستشهاد والمقابلة في وصف مثقف سلطة نظام الأسد، وقيمه، ورسالته الهزيلة ؟. وليس فيهم ، ومنهم ، من ينطبق عليه تعريف المثقف ؛ لا عند انطونيوغرامشي ، ولا جوليان بندا ، ولا إدوارد سعيد صاحب مفهوم الرسالة ، ولا غيرهم . وليس فيهم من الجاحظ إلاَّ وصفه لأمثالهم بالخديم ، وليس فيهم من اعتزلَ الناس وتبتلَ ، كي لا يبيع مروءته، ودينه للحاكم الظالم بنصيحة كاذبة ، أوبالتتشبيح الثقافي والإعلامي الفاجر!.
لذا سأذهب للبحث في أدب العوام ” فلاسفة الفطرة وتجارب الأيام ” الذين تركوا لنا تراثاً وفيراً من أدب الأمثال – لعليَّ أجد الوصف الصحيح والجواب الأكيد الذي يَصْدُقُ على حالة مثقف سلطة الأسد ؛ الذين هم : جوقة خرقاء من الأصوات المتنافرة ، والرؤى الشوهاء. وينطبق عليهم قول : أبي حيان التوحيدي ” لا إنسان ولا لسان ” !.
ومن هذه الفلسفات الشعبية واللمحات الذكية ؛سحبُ سلوكِ الحيوان على الإنسان، إذ يقولون : ” نَعَّجَ ” للجبان الخانع الذليل ، وقس على ذلك من هذه الأفعال التي تلوكها الألسن في كل مناسبة !. وشبَّهوا الإنسان بالأشياء ، والهيئات ، ومنها : ” فلان مثل قبقاب الجامع ” وهذا بيت القصيد عندي !.
– والقبقابُ مَداسٌ، وباللهجات العربية مركوبٌ ، يُلبَسُ بالأرجل في أماكن خاصة رطبة ، وهو مصنوعٌ من أردأ أنواع الخشب، وله سُيُورٌ من أردأ أنواع ” السختيان ” . بدَنُهُ من خشب ، ووجهه من السختيان . ينتعله الناس في حمامات السوق لمنع الزلق؛ لكثرة الماء المسفوح في الأرضيات ، و يوجد في مواضيء الجوامع كوقفِ ؛ إذ يَخلعُ المتوضأ نعليه ، وجوربيه كي لا يصيبهما البلل ؛ وينتعل القبقاب المتوفر بكثرة في المكان. يدخلُ فيه إلى بيت الخلاء ، بيت الأدب ، الكبِّينَة ، الكنيف ، الطهَّارة ، التواليت ؛ على اختلاف مسميات المقذرة ، ثم يخرج بعد الاستنجاء من النجاسة والتطهَّر منها ، ليتوضأ بعدها وهو ينتعل القبقاب. وبعد أن ْيفرغ منه يخلعه من قدميه رمياً بإهمال في أيِّ مكان يشاء ؛ لتنتعله أرجلٌ جديدة قبل كلِّ صلاة مرات ومرات ؛ في اليوم الواحد لأنه متوفرٌ، ومبذولٌ لمن يرغب بلبسِه ، ومجاني بالتأكيد؛ ولا يتخُّ من كثرة الاستعمال ، ويقوى بَدَنَهُ من تَشَرِّبِ الماء ، والدوس عليه ؛ وهو يطقطق ويقرع الأرض بصوته الأجوف المألوف ، طراق …. طراق …. طراق … !.
أطنبتُ في وصف القبقاب -عمداً – لأني وجدتُ في القياس وصفاً عظيماً لمثقف سلطة الأسد ” قبقابُ جامع ” لأنَّه رخيصٌ، ومبذولٌ ، وخدومٌ ؛ ويشبه القبقاب في كسمه ورسمه ووظيفته !.
القبقابُ بّدَنُهُ من خشب ، ووجهه من ” سختيان ” ومثقف سلطة نظام الأسد في قطاع الثقافة ، والإعلام ، والوسط الفني ، والصحافة ، واتحاد الكتاب والصحفيين، والجامعات- بّدَنُهُ ؛ بل قلبُه من خشب ، ووجهه من سختيان لا يندى من الخجل وهو يُعانقُ النظام ويستخذي بذلٍّ و يقعُ في مهاواة الحاكم الظالم المأفون طمعاً بالرمرمة وخُبثِ المكاسبِ ، ليُلبسَ الحقَّ ثوبَ الباطل، ويزِّيف ، ويلفَّقَ الحقائق ، و يُزوِّرَ إرادة الناس، ويشهد على عصره زوراً وبهتاناً ، ويصمتُ كصمت ِ القبور وهو يرى بعينيه الباهتتين الكسيرتين الذليلتين من العار – ثمَّ يَشيحُ بوجهه الميت الأثيم عن الإبادة الجماعية في سوريا الحرة ، والحاكم يُمعِنُ في القتل ” يسومُونَكُمْ سوءَ العذابِ يُقتِّلونَ أبنَاءكُمْ ويستحيُونَ نساءَكُمْ وفي ذلكُمْ بلاءٌ منْ ربِّكُمْ عَظِيمٌ ” الأعراف (141 ) يرى بعينيه كيف يُحوِّلُ حاكم الصدفة المتهوِّسِ نضَارة الشام ، وبيوتها العامرة ، إلى نظَّارة وسجون ، وإلى مواكب شهداء ؛ عند كلِّ رفةِ عينٍ حالمة بالحرية ، وفي كلِّ لحظة ولفظة يصرخُ فيها مظلوم خرج على الظالم دون خوف : الشعب يريد إسقاط النظام…!.
– لقد ظلمتُ القبقابَ في قياسي غيرَ المُنصفِ هذا ؛ لأنَّ القبقاب أكرم وأطهر من مثقف السلطة الذليل الذي يسعى بالكذب والتدليس؛ لإلباس الناس ثوبَ العبودية الذي يلبسهُ بالذلِّ والمسكنة ،والمنفعة الرخيصة لتكريس قيم الطاعة للحاكم المطلق على حساب القيم الإنسانية الرفيعة والضرورات التي تحميها الشرائع السماوية و القوانين الوضعية !.
– القبقاب أكرم لأنَّه يَخدمُ المصليين لله ، وقبقابُ السلطة يخدمُ الجِبْتَ والطاغوت !.
– ألا تستحونَ من طولِ ما لا تستحون ……..!.
– كلنا شركاء