مدن الواقع.. مدن الرواية/ ممدوح عزام
تبدو العلاقة بين الرواية والمدينة محيّرة، إذ ما يزال الروائي يعيش توتراً صعب الحل بسبب واو العطف التي قد تشير إلى علاقة تبعية بين المدينة كمرجع، والرواية كمنتج، أو إلى أن جوهر العلاقة ينهض على قيمة أمومية تؤكد أن الرواية بنت المدينة، وأن تاريخ هذا النوع الأدبي مرتبط بنشأة الرواية، أو ولادتها، التي تجعلها تتغذى من عالم المدينة بكل ما فيه من تنوّع واختلاف، أو تلك التي تشير إلى ندّية تتبادل فيها كل من المدينة والرواية التأثر والتأثير، في البنية والتقنيات.
حديث التشابه بين تقنيات المدينة، وبين تقنيات الرواية يثير شهية التفكير والخيال أكثر من حديث النشأة والولادة، إذ يتطلب هذا الأمر البحث في كل رواية تجري أحداثها في إحدى المدن عن أوجه الشبه والتماثل، أو نواحي الافتراق والاختلاف بين تقنيات هذه الرواية وتلك المدينة.
وفي الحالتين تشترك المدينة والرواية في مجموعة من السّمات مثل: “التنوّع والمرونة والانفتاح والتحرر والفردية والتعدد اللساني وتنوّع الخطاب والاحتفاء بالثقافة البصرية”، غير أن المشتركات لا تمنع، وهي لم تمنع قط، الرواية من أن تبتكر مدينتها، بحيث أمكن أن نتحدث عن: “مدينة الواقع، ومدينة الرواية”.
لا يقلّد الروائي المدينة بل يعيد بناءها. يبتكر مدينة أخرى. فلن ترى القاهرة نفسها في روايات محفوظ، بل سوف ترى قاهرة مبنية على غرار مدينته، أو على غرار المتخيّل الذي يعيد به خلق العالم من جديد، وبهذا المعنى فالروائي قد يجاري مهندسي العمارة في بناء المدن، وقد يبزّهم أحياناً.
ولكن ماذا تقول الرواية عن المدن المهدمة أو المدمرة؟ لا نعرف بعد، ولكن إذا كان تاريخ النقد يقرر أن التبدّل في شكل العمارة، أو في تخطيط المدن أفضى إلى تغيّر في تقنيات الكتابة الروائية، فإن السؤال الداهم هو: هل يمكن استعادة حلب؟
“كان جيمس جويس قد حلم أن يعطي عن مدينة دبلن لوحة متكاملة في روايته “عوليس”، حتى إن حدث واندثرت المدينة فجأة من على وجه الأرض، فإننا نستطيع بناءها مرة أخرى منطلقين من كتابه”. هذا محرج للغاية، فهو يضع الرواية السورية أمام امتحان لم تفكّر فيه من قبل قط، إذ لم يستطع الخيال أن “يرتقي” إلى فكرة اندثار المدن، فقد هجرنا هذه اللحظات منذ القرون الوسطى، حين كان الشعراء العرب يرْثون المدن المحطمة.
كيف يمكن خلق المشترك بين الرواية والمدينة المدمرة؟ هل يكتب الروائي نصاً محطماً من حيث البنية عن مدينة محطمة؟ أي هل تحاكي الرواية المدينة المدمرة، أم تسعى إلى استعادتها؟ هل تستطيع الرواية التعويض عن الأمكنة الضائعة في حلب أو حمص أو درعا؟ أو هل يمكن إعادة إحياء” اللحظات الميتة”؟ الجواب هو: نعم ولا. فسواء كتب الروائي عن المدينة قبل دمارها، أو كتب عنها بعد تدخّل المدافع، فإن الخيال يستطيع أن يستعيد الأمكنة، ليس كما كانت، بل كما يشتهي أن تكون.
العربي الجديد