صفحات الرأي

مقال رضوان السيد ” الحملة على الإسلام.. والحملة على العرب” ورد جورج طرابيشي عليه والجدال الذي دار حوله

 

 

الحملة على الإسلام.. والحملة على العرب/ رضوان السيد

لا يكاد يمر أسبوع إلاّ ونشهد أحد احتفالين أو الاحتفالين معا: احتفال بالحملة على الإسلام المتشدد والتكفيري والإرهابي، واحتفالٌ آخر بمفكر «تنويري» عربي ما ترك على جسد الإسلام الظلامي والتكفيري لحما ولا شحما. وهذه التنويرية ما حدثت الآن، بل إنها مستمرةٌ منذ ثلاثين أو أربعين عاما! ولو تأملْنا دخائل هذه الحملات الإدانية للموروث أو الأُصولية الجديدة، والأخرى الثنائية على عظمة التنويرية والتنوير، لوجدْنا عجبا دون الاضطرار لانتظار حضور رجب!

لنبدأ بفحص الحملات على الإسلام، تحت عنوان مكافحة التشدد والإرهاب. إنّ معظم الحاملين عليهما لا يتعاطون مع تصرفات هؤلاء وأولئك إلاّ في خاتمة مقالاتهم أو بحوثهم العلمية العميقة جدا. أمّا جوهر هذه الأُطروحات الضخمة، فهو الحملةُ على إسلام العصر الوسيط، أو الأرثوذكسية السنية، أو التقليد الأسود والجامد، أو بصراحة الإسلام السني. وهذا الفنُّ أو الأدب الإداني يزدهر الآن. أمّا أبوه الشرعي فهو الراحل محمد أركون. فقد أراد أولا تحطيم كل الأرثوذكسيات لأنها حجبت عنا القرآن والإسلام الأول. ثم قرر أنّ المهمة التحريرية تنقضي أو تتحقق بضرب الأرثوذكسية السنية، كما قال. أما الأرثوذكسية أو الأرثوذكسيات الأخرى المسيحية أو الشيعية فيجب تحطيمها أيضا، لكنّ المهمة معها أسَهل، ثم إن فيها باطنية وفيها خيالات وأساطير زاهية تبعث على البهجة، وليست حروفيةً نصوصيةً قاتمة مثلما هي عند السنة. وفي النهاية فإنّ الأصوليات الإسلامية الحاضرة تستند إلى تلك الأرثوذكسية القديمة لا غير. وقد ذكرتُ له في أواسط الثمانينات أنه لا علاقة حقيقية بين التقليد الإسلامي القديم، والإحيائيات الحاضرة، وإنما هو انتماءٌ رمزي وتأويل تأصيلي. وهناك فرقٌ كبيرٌ بين الاستمرارية التي يقتضيها التقليد، وبين التأصيل الذي تلجأ إليه حركةٌ جديدةٌ للشرعنة والتسويغ: فكيف تقول يا رجل بالاستمرارية، وأنت من أتباع قطائع فوكو، وبنيويات فلان وعِلاّن؟ وبالفعل فقد سارع الرجل إلى وضع كتاب باسم: استحالة التأصيل! ثم ما لبث أن نسي كلَّ شيء، ولجأ هو وتلامذته حتى اليوم (توفي أركون عام 2010) إلى تصفية حساباتهم مع الإسلام السني القديم (من القرآن وإلى محمد عبده) بحجتين: التقليد المتجمد، والأُصوليات القائمة اليوم على ذلك التقليد. ومن هؤلاء على سبيل المثال عبد المجيد الشرفي، الذي نشر كتابا قبل ثلاثة شهور لمناقضة الإسلام السياسي، وإذا به يزعم أنّ الإسلام السياسي فاسد لأنه يستند إلى التقليد الفاسد، والتقليد (في الفقه والتفسير) فاسد في فهمه للقرآن، ففي النهاية: الكل فاسد! وظهر لدينا أيضا قبل الثورات وبعدها فريقٌ تنويري يريد اجتراح إصلاح ديني، يشبه تماما ما فعله الأوروبيون مع تراثهم الديني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولذلك انصرف عشراتٌ من هؤلاء لاصطناع قراءات تنويرية وتحريرية للقرآن والسنة، والتيارات الفكرية والدينية السلفية والأشعرية، والخروج بعد كتبٍ ممتدةٍ، إلى أنهم تمكنوا من تحطيم الإسلام السني. وكانوا في زمن العسكريين والأمنيين الطويل، يحصلون على جوائز منهم بسبب العقلانية التي اشتهر بها حافظ الأسد وبشار الأسد ومعمر القذافي. وهم يجدون اليوم وسط المخاضات الفظيعة التي دخل فيها الجهاديون الحزبيون فُرَصا جمةً للإشادة من جديد بالتنوير الذي عليه الأسد وصدّام قبله، وإيرانيو الخامنئي ونصر الله من بعد (!)

ولا يظنّنّ قارئٌ أنني أصطنع هذا النقاش للاستطراف والاستظراف. فبين يدي 17 كتابا كلّها صادرة بعد عام 2010 همُّها تحرير العرب والمسلمين من الإسلام السني على وجه الخصوص، بحجة صدور الجهاديين والإخوان منه وعنه. ويصارحك البعض الآخر بالانحياز إلى الأصولية الشيعية تارةً بحجة المقاومة، وطورا بأنّ الدين الشيعي متحرر أكثر من السني. وعندي أربعة كتب واحدٌ منها يربط آشور بانيبال بحسن نصر الله في معمعة القصير، والإسلام السياسي السني والعربي بجيفري فيلتمان، وثالث يركّز على العلائق الدينية الوثيقة بين الاثني عشرية والعلويين، ورابع يعتبر أنّ القومية العربية هي صناعة الأقليات الشيعية والعلوية والمسيحية، وعندما دخلتها الأكثرية فسدت؛ ولذلك لجأ القوميون السابقون واليساريون، ويلجأون، إلى «تحالف الأقليات» الذي يناضل باسمه اليوم حسن نصر الله والقوميون السوريون! أمّا الكتب الأُخرى (الأكثر جدية!) فتدخل في أبواب التحرير والتنوير والتطهير وضدَّ الإسلام السني فقط! ومن الفظائع التي روَّجها حسن نصر الله عندما أراده الخامنئي على الذهاب إلى سوريا لمقاتلة الشعب السوري لصالح بشار الأسد وإيران، زعمه أنّ خصومه هم التكفيريون، أي المسلمون السنة، إذ كيف سيفرّق مدفعُهُ بين من يكفّر الشيعة ومن لا يكفّرهم (!) ولستُ آخُذُ ذلك عليه فقد فعل دائما ما هو بهذه المثابة أو أفظع؛ بل الفظيع أنّ وسائل الإعلام العربية (والمصرية على وجه الخصوص) صارت تُسمّي كلَّ الداخلين في الأعمال الإرهابية: تكفيريين، في سيناء وغيرها! وهذا الأمر كمن يتهم نفسه ودينه. بل القتلة في سيناء وغير سيناء هم انتحاريون وإرهابيون ومُحاربون (كما سمّاهم القرآن)، ولا داعي لاستخدام مصطلحاتٍ ابتدعها غيرنا لإدانتنا. وها هو الخامنئي والمالكي والآخرون من ذاك المعسكر يعرضون على الأميركيين والدوليين القتال معهم ضد الإرهاب (السني بالطبع)، وهم يتقربون إليهم بأنهم يقومون بذلك في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان!

هناك إذن مخاضٌ عظيم بداخل الإسلام. وقد دخلت فيه ضدَّ الدين فئتان: فئة باسم التنوير والتحرير، وفئة باسم الإسلام الشيعي ضد الإسلام السني. وإذا كان الإيرانيون وأتباعهم يفعلون ذلك من أجل مصالح عاجلة دونما تفكيرٍ بالعواقب، فلستُ أدري ما هي مصلحةُ الكاتبين العرب في الحملة على الدين بحجة الإصلاح، وقد كان بوسعهم إذا شاءوا أن يكافحوا الأصوليات والشموليات مباشرةً، ودونما حاجة لإثبات «سنية» هؤلاء أولا، ثم الحملة على أهل السنة منذ كانوا، وهم اليوم 90 في المائة من المسلمين في العالم!

ثم إنّ هؤلاء يقرنون تحرريتهم تجاه الإسلام السني، وإرادتهم الخلاص منه؛ بالانتصار للإيرانيين ولتنظيماتهم المسلَّحة، وحلفائهم الطائفيين في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين. ولستُ أدري ما العلاقة بين انزعاج جورج طرابيشي مثلا من الأرثوذكسية وأهل الحديث في القديم، وانزعاجه من فظائع الأصوليين، وعدم انزعاجه من بشار وفظائعه؛ وهو وأدونيس وعزيز العظمة وأشباههم! كل المعارضين الذين هم ضد مذابح بشار (بمن فيهم ميشيل كيلو المسيحي الماركسي) هم في نظر هؤلاء: طائفيون! أما الأسد ونصر الله فهم علمانيون تنويريون، وإلاّ فَلِمَ لم يحملوا عليهم كما حملوا على كل المعارضين لبشار بالداخل والخارج إمّا بحجة الإرهاب أو بحجة الطائفية!

لا أعرف – إلا فيما ندر- قوميا أو بعثيا أو يساريا إلاّ وهو اليوم مع بشار الأسد وخامنئي ونصر الله والمالكي. ويضاف لذلك المعسكر المصري الذي لا يمكن تصنيفه سابقا ولا لاحقا. وهذا المعسكر الكاره للعرب في مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق ما صار مع بشار وإيران عندما ظهر العنيفون في سوريا مثلا، بل هو منذ بداية الثورة في سوريا على هذا الموقف. وبعض هؤلاء طائفيون بالفعل – كما يحب طرابيشي أن يسمي كل خصومه الفكريين ومنهم محمد عابد الجابري – بمعنى أنهم من مجتمعات شيعية أو علوية أو مسيحية؛ لكن منهم أُناسا من أُصول عربية سنية، وهم يتشرفون بزيارة الأسد أو أحد مسؤولي حزب الله أو يذهبون إلى طهران، دوريا. وإذا دقّقت معهم ناحوا على صدام، كأنما إيران كانت أصدق أصدقائه، أو قالوا إنهم منزعجون لتفكيك جيش الممانعة السوري، كأنما هو يتفكك في مواجهة إسرائيل وليس في مواجهة شعبه!

هناك مخاضٌ عظيمٌ يمرُّ به العرب بشرا ودينا ومجتمعاتٍ ودُوَلا. وقد قال لنا رسولُ الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه إنه يأتي على الناس زمانٌ يكونُ فيه القابضُ على دينه كالقابض على الجمر. إنه زمانُ القبض على جمر الدين وجمر العربية والعروبة. نعم، نحن مسؤولون ولسنا مسؤولين وحدنا: «وإنه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تُسألون».

 

 

الحملة على الإسلام.. قراءة مغايرة/ جورج طرابيشي

أحدث مقال الكاتب رضوان السيد المنشور بتاريخ 18 أبريل (نيسان) الحالي تحت عنوان: «الحملة على الإسلام والعرب» جدلا كبيرا بين أوساط المثقفين العرب. «الشرق الأوسط» ولإيمانها بحق الرد على كل ما تنشره، تنشر اليوم رد الكاتب جورج طرابيشي.

في مقال منشور في صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 18/4/2014 تحت عنوان: «الحملة على الإسلام وعلى العرب»، شنّ السيد رضوان السيد هجوماً شرساً على شريحة من المثقفين العرب ممثَّلين بالراحل محمد أركون وأدونيس وعبد المجيد الشرفي وعزيز العظمة وجورج طرابيشي. وكما هو واضح من عنوان مقاله، فإن التهمة الموجهة إلى هؤلاء المثقفين، كشريحة تمثيلية لغيرهم من المثقفين من ذوي الاتجاه اليساري والقومي والعلماني، هي التآمر – وليس أقل من ذلك – على الإسلام والعرب. ومن يقرأ بيان الاتهام هذا يلاحظ للحال أن مضمونه لا يطابق عنوانه. إذ بدون أن تغيب كلمات العرب والعروبة لفظياً، فإن الاتهام الموجّه إلى أولئك المثقفين الخمسة هو حصراً – وليس أقل من ذلك – المشاركة الفعالة في «الحملة على الإسلام». ولكن مع مزيد من التدقيق سيلحظ القارئ أن هذه الحملة المزعومة التي يقودها أولئك المثقفون ليست على الإسلام بإطلاقه، بل على «الإسلام السني» حصراً. وصائغ بيان الاتهام لا يتردد في أن يتبنى هذه الحصرية بقوله في السطر السابع من مقاله إن المقصود بالحملة التي يقودها حاملوها الافتراضيون هو «بصراحة الإسلام السني».

ولنكن بدورنا صريحين، ولنقل إن ذلك «الإسلام» الذي يحضر بإطلاقه في العنوان يخلي مكانه في النص لـ«إسلامَيْن»: الإسلام السني والإسلام الشيعي. ففي نص لا يتعدى تعداد سطوره 42 سطراً تتردد 26 مرة ألفاظ «السنة» و«الشيعة»، و«السنية» و«الشيعية»، و«السني» و«الشيعي»، مع التوكيد مراراً على أن هدف الحملة المزعومة هو «تحطيم الإسلام السني» و«تحرير العرب والمسلمين من الإسلام السني على وجه الخصوص» و«التحرير والتطهير ضد الإسلام السني فقط».

وفي مقابل هذا «الإسلام السني» الضحية لا يحضر «الإسلام الشيعي» والمثقفون الخمسة المتآمرون معه إلا بصفة الجلاد. وشخصياً لست بصدد الانتصار للضحية، ولا بصدد تبرئة الجلاد. وإنما إن يكن هناك من ضحية في اعتقادي فهو «الإسلام» بإطلاقه وبألف ولام التعريف، وإن يكن هناك من جلاد، فهو الذي يتبنى ويروِّج لتلك القسمة المانوية للإسلام إلى إسلامين: واحدهما خيِّر كل الخير، وثانيهما شرير كل الشر، أو بالعكس: واحدهما شرير كل الشر، وثانيهما خيِّر كل الخير.

وما دام السيد رضوان السيد قد اختار لبيانه الاتهامي عنوان «الحملة على الإسلام»، فلأعترف له أن هذه الحملة قائمة على قدم وساق فعلاً، ولكنها بالضبط تلك الحملة التي تجعل من الإسلام إسلامين، وزيادة في الطين بلّة: إسلامين متنابذين ومتناحرين حتى النفَس الأخير.

وهنا ليسمح لي السيد رضوان السيد أن أسأله: إذا كان الإسلام هو الدين الذي نزل به القرآن، فهل القرآن سني أو شيعي؟ وإذا كان من أُنزل عليه هذا القرآن هو الرسول محمد، فهل كان هذا الرسول سنياً أو شيعياً؟

إن بليّة عظيمة قد نزلت بساح الإسلام تمثلت بمقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة، ثم بمقتل الحسين حفيد الرسول و«قرّة عينيه»، ثم باقتتال طائفي بالسلاح وبالكلام تتابعت موجاته بين علو وانخفاض على مدى قرون، وصولاً إلى يومنا هذا الذي يمثل مقال السيد رضوان السيد أحدث حلقاته بدون أن يكون آخرها.

إنها فعلاً إذاً «حملة على الإسلام» يقودها ويخوض غمارها كل من يتبنى ويرِّوج لتلك الثنائية المانوية التي لا تريد أن تتصورالخير في معسكر، إلا بقدر ما تنسب الشر إلى المعسكر الآخر، وذلك تبعاً للانتماء الطائفي الذي يلومني السيد رضوان السيد شخصياً على كوني بالغت في التحذير من وخامة عواقبه.

وبقدر ما أن بيان الاتهام يتصل بشخصي – إلى جانب الزملاء الأربعة الموضوعين في قفص الاتهام – فليسمح لي صائغه أن أتوقف عند نقطتين.

فثمة، أولاً، إشارة ضمنية في بيان الاتهام إلى أنني انفردت بنقد «الأرثوذكسية السنية» و«أهل الحديث» دون سواهم من ممثلي «الأصولية الشيعية». وأنا أقرّ بالفعل بأني في كتابي الأخير «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» لم أتعرض بالنقد إلا إلى أئمة المذهب السني بدءاً بمالك والشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل وانتهاء بابن حزم والغزالي والخطيب البغدادي وابن الجوزي. ولكن لو كان متهمي اطلع فعلاً على كتاباتي، لكان أدرك أني كنت سبّقتُ هذا النقد لممثلي المذهب السني، بنقد لا يقلّ صرامة من وجهة النظر العلمية عن نقدي لممثلي المذهب الشيعي في كتابين لي على التوالي: «هرطقات2» و«المعجزة أو سبات العقل في الإسلام»، وفي عدادهم الكليني والحلّي والعاملي والطبريان الشيعيان الكبير والصغير والنوبختي والطوسي والموسوي والراوندي والمجلسي والبحراني (من دون ترتيب للتسلسل التاريخي)، وصولاً إلى الإمامين الخوئي والخميني.

وهناك، ثانياً، التهمة الموجهة إليّ شخصياً ومفادها أني، في عداد جملة القوميين واليساريين والعلمانيين، أؤيِّد النظام السوري ورئيسه الأسد. ولن أردّ هنا على هذه التهمة الموجهة بالجملة إلى ممثلي هذه التيارات، مع أن العديد منهم كانوا من نزلاء سجون النظام السوري. ولكن لست أجد مناصاً، ما دام الأمر يتعلق بشخصي واسمي وموقفي، من أن أتحدى متهمي بأن يأتي بدليل واحد على ما يدعيه من تأييدي للنظام السوري ورئيسه. فأنا، بعد تجربة في السجن في عهد البعث، اضطررت إلى أن أهاجر عن بلدي منذ 42 سنة؛ وطيلة العقود الأربعة التالية، ورغم كل ما أسهمت به في خدمة الثقافة العربية (نحو من مائتي كتاب مؤلف ومترجم)، لم أُكرَّم قط في بلدي، ولم أُمنح جائزة من مؤسساته، بل لم أًدعَ ولو مرة واحدة إلى حضور ندوة واحدة من الندوات التي كانت تنظمها هذه المؤسسات. وهذا فضلاً عن أن كتابي الذي يجرِّمه متهمي ضمنياً، وأعني «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، قد صودر في معرض دمشق للكتاب ومنع من دخول سورية. وعندما اندلعت الانتفاضة السورية قبل ثلاث سنوات كتبت مقالاً عرف توزيعاً واسعاً بعنوان «سورية: النظام من الإصلاح إلى الإلغاء» طالبت فيه النظام السوري، لا بإصلاح نفسه – فتلك كانت خطوة قد فات أوانها – بل بإلغاء نفسه بنفسه، إذا كان يريد تجنب الحرب الأهلية في بلد كسورية متعدد الأديان والطوائف والإثنيات. ومنذ ذلك الحين لم أعد إلى كتابة أي مقال آخر، لا عن النظام ولا عن المعارضة، ولا عن الغزوة التكفيرية القاعدية الطالبانية. فعندما يرى الإنسان بلده يُدمَّر على نحو غير مسبوق في تاريخ الحروب الأهلية، فإن الألم يشلّ القلم، فلا يبقى له أن يكتب إذا استطاع أن يكتب سوى: وداعاً يا سورية التي كنت أعرف.

 

*كاتب سوري

الشرق الاوسط

 

 
إلى السيّد رضوان السّيّد : الخليج لا يحتاج إلى قرضاوي آخر/ محمد عبد المطلب الهوني
طالعتنا جريدة الشـــــرق الأوسط في عددها الصادر يوم 18 أبريل 2014 بمقالة للأستاذ رضوان السيّد تحت عنوان “الحملة على الإسلام.. والحملة على العرب”، يهاجم فيها كوكبة من المفكرين العرب، وهم الأساتذة جورج طرابيشي و عزيز العظمة وعبد المجيد الشرفي والمرحوم محمد أركون.
ورغم عدم التمـــاسك الداخلـــي للمقالة، وهــــي سمة مشتركة لأكثر كتّاب المقـــالة اليوميّة، فإنّ الاتهامات الّتي وردت فيها ضدّ هؤلاء المفكرين كانت صـادمة بسبب فبركتهـــا لوقائع مجافية للواقع. وهذا ما أدهش القرّاء الّذين كانوا يأخذون مقالات المناضل السياسي رضوان السيّد على مأخذ الجدّ.
ولنتنــاول هذه التّهم الّتـــي ساقها من هذا المقـــال دون أن يكلف نفسه عنـــاء الإتيان بقرينة واحدة للبرهنة على حدوثها وإثبات صحّتها تهمة تهمة، حتّى لا نقول فرية فرية.
يتهم الكاتب الصحفي رضـــــــوان السيّد هؤلاء المفكـــرين بأنّهم جندوا أنفسهم لهدم الإسلام السنّي التكفيريّ لمصلحة الإسلام الشيعي والانتصار للإيرانيّين وحلفائهم وتنظيماتهم المسلحة فــــي كل من العراق وسوريــا واليمن والبحرين. إنّ إطلاق هذه التّهم في حقيقتها جريمة قذف وتشهير مكتملة الأركان من الناحية الجنائية. أمّا من الناحية الفكرية فهي تدل، بافتراض حسن النّوايا، إمّا علــى عدم القدرة على فهم ما كتبه هؤلاء، أو تدلّ على محاولة ليّ عنق الحقيقة لمصلحة عاجلة، القصد منها التقرب إلى هيكل العجل الذهبي للسيـاسة بقرابينِ أسماءٍ فذّة امتنعت عن أن تشرك بوحدانية الحقيقة من أجل مغريات الأباطيل.
أمّا من الناحية الواقعية، فإنّني أتحدّى الكاتب، وعلـى رؤوس الأشهاد، أن يثبت ما يقوله عن “عزيز العظمة” و “جـورج طرابيشي” و“عبد المجيد الشرفـــي”، من أنّهم انتصروا لأي طائفة ضدّ طائفة أخرى أو كتبوا أو حاضروا فـي تمجيد الطوائف سواء أكـانت شيعيّة أم سنيّة أم خارجيّة، أو حتّــى أدلوا بحديث صحفي أو مقابلة تلفزيونية يُشتمّ منها ولوغهم في مثل هذه الفعلة.
أمّا اتهام الرّاحل الكبير “محمد أركون” بأنّه سخّر قلمه لتحطيم الإسلام السنّي فهذا ما لم يستطع قوله حتّى القرضــــاوي. وإنّ قراءة محمد أركــــون تحتاج إلــــى جدّ وصبر لا يمكن أن يتحققا بمجرد الاطــلاع على عناوين فصول كتبه خلال فترات الاستراحة القصيرة للمؤتمرات.
إنّ محمد أركــــــون كان يريد تفكيك التراث، لا تحطيمه، من أجل إســــلام أجمل ومن أجل مسلمين متصالحين مع عصرهم ومع تاريخهم. إنّه كـــان ينادي بالخروج عن الوثنية المتمثلة في عبادة الأسلاف، وبالرجوع إلى النّص القرآني وينابيعه الصافية لاستنطاقه وتأويله حتّى يكون لدينا فقه عصري جديد ينقذ المسلم من وضعيته التعيسة الّتي يعيش فيها، بحيث يُدرَّس فقه الفقهــاء العمالقة الأوّلين باعتباره تاريخا للفقه، لا باعتباره “الفقه” بألف ولام التعريف كما يحدث الآن.
إنّ سوريا اليوم ولبنان معرضتان للتشظي والانقسام إلى دويلات طائفية بسبب عدم القدرة على ولوج الحداثة وعلى نبذ الطائفية الّتي يغذّيها الفقه القديم فـــي كلّ المذاهب. إنّ أركون قد رأى كلّ ذلك تنبؤاً. أمّا صاحب المقال فلا يرى ذلك الواقع رغم أنّه يعايشه.
ثمّ يقول الكاتب: “خرج علينــا قبل الثورات وبعدها فريقٌ تنويري يريد اجتراح إصلاح ديني، يشبه تماما ما فعله الأوروبيون مــع تراثهم الدينــي في القرنين الثــامن عشر والتاسع عشر. ولذلك انصرف عشراتٌ من هؤلاء لاصطناع قــراءات تنويرية وتحريرية للقرآن والســـنة، والتيارات الفكرية والدينية السلفية والأشعرية، والخروج، بعد كتبٍ ممتدةٍ، إلى أنهم تمكنوا من تحطيم الإسلام السني. وكــــانوا، في زمن العسكريين والأمنيين الطويل، يحصلون على جوائز منهم بسبب العقــــلانية التي اشتهر بها حافظ الأسد و بشــــار الأسد ومعمر القذافي. وهم يجدون اليوم وسط المخاضـــات الفظيعة التــــي دخل فيها الجهـــاديون الحزبيون فُرَصا جمةً للإشادة من جديد بالتنويــــر الذي عليه الأسد وصدّام قبله، وإيرانيو الخميني ونصر الله من بعد”.
إنّني آسف لكاتب في حجم رضــوان السيّد كيف يطلق كلاما على عواهنه بهذه الخفّة المرسلة. فهذه الفقرة من مقاله لا تصلح حتّى أن تكون جزءا من تقرير لمخبر نزق تدفعه الغيرة أو الكراهية إلى الوشاية أملا في أن يرى رأس غريمه يتدحرج من منصة مقصلة.
إنّني أرد على الكـــاتب بمجموعة من الأسئلة يجب أن يجيب عنها بالوقائع والبراهين الدامغة حتّى يدافع عمّا تبقى من مصداقيته :
1- متى ذهب أيٌ من هؤلاء المفكرين إلى إيران ومتى اجتمعوا بالمرشد الأعلى؟
2- متى التقى أحد هؤلاء المفكّرين بمعمّر القذافي أو ببشّار الأسد أو صدام حسين أو حافظ الأسد؟
3- متى حصل أيّ من هؤلاء على جوائز من أولئك الحكّام؟ وأين؟ وفي أيّ تـــــــــاريخ؟
4- في أيّ مطبوعة قرأت أنّ هؤلاء المفكرين أشادوا بحسن نصر الله أو حزب الله، حتى عندما كان في أعلى درجات شعبيته، وعندما كنتم تطلقون عليه لقب “سيد المقاومة”؟
5- متى وأين قرأت أن أحد هؤلاء الكتّاب أيّد مذابح بشّار في سوريا أو مدح فظائع نظامه؟
أمّا قولك إنّ هؤلاء المفكّرين قد كوّنوا فريقاً يهدف إلى اجتراح إصلاح دينيّ كالذي حدث في أوروبّا، فهو صحيح ولك كلّ الحقّ في أن تنتقد هذا المسلك ما دمت ترى أنّه ليس في الامكان أبدع مما كان، أي أبدع من الفكر التكفيري الّذي تدافع عنه في مقالك باعتباره جوهر العقيدة السنّية والأس الأساس للنهضة في العالميـن العربي والاسلامي، وما دمت ترى أنّ التراث الموروث من العصر الوسيط يحمل في أضابيره كافة الحلول الناجعة لإكراهــــات الحياة المعاصرة ومشاكلها.
إنّ المفكرين التنويريين الّذين قلت فيهم كل هذه الشتائم ودبّجت في حقّهم بقلمك كلّ هذه الأباطيل هم أكبر من أن ينخرطوا في حرب طائفية مقرفة لن تكون لها غير نهاية مدمرة للأوطان والمجتمعات. من حقّك أن تكون أحد الفرسان المغاوير في هذه الحرب، ولكن ليس من حقّك جرجرة الآخرين إلى خوض غمارهــا.
ويبقى سؤال قلق يحوم حول هذا الكمّ الهائل من الادعاءات الباطلة والأخبار الكاذبة ويبحث عن إجابة :
لماذا هذا الهجوم الشّرس على مفكرين يعرفهم الكـــــــاتب حقّ المعرفة، ويعرف أنّهم لم ولن يقوموا بما اتّهمهم به، ويعرف أنّهم ما كانوا في يوم من الأيّام أبواقا لأحد، ولم يبذلوا ما بذلوه من جهد خوفا من وعيد أو طمعا في وعد؛ وحتّى عندما تغيّرت آراؤهم ومواقفهم من الايديولوجيــــــــــات المختلفة كان ذلك بفعل نقد ذاتي استعملوا فيه العقول لا البطون؟
إنّ هؤلاء المفكرين ومن على شاكلتهم قد نَأَوْا بأنفسهم عن دوامة الحقد والكراهية، واعتبروا أنّ مسؤولياتهم التــــــــاريخية الجسيمة تحتّم عليهم تضميد الجراح ورسم خارطة طريق للمستقبل بعد أن تضع هذه الحروب الطائفية أوزارها ، فأمعنوا في نقد البنى الفكريّة والاجتماعيّة السّائدة من أجل بناء أوطان للأجيال القادمة الّتـــي لن تعرف دولة الإنسان المؤمن بل دولة الإنسان المواطن، وذلك إذا ما كتب لهذه الأوطان البقاء.
إنّ الفكر التكفيـري الّذي تدافع عنه هو المؤسس والمبرر العقدي للإرهاب. وإنّ التكفيريين السّنة لا يقتلون أهل الأديان والنحل والملل والمــــــــذاهب الأخرى فقط ، بل هم طائفة داخل الطائفة السّنية يقتلـــون السّنة الصوفية والسّنة الشعبية، وكلّ من اعتبروه فاسقا أو ملحدا أو كافرا.
فهنيأ لك أنت والقرضاوي بهذه الصحبة الجديدة الّتي تخلط بين الدّين والسياسة، وبين الدولة والطائفة ، وبين فكرة دولة المواطنة ودولة الإيمان.
وعندما قرأت المقال للمرّة الثانية استوقفتني كلماته الاستهلالية وأنقلها حرفيا : “لا يكاد يمر أسبوع إلاّ ونشهد أحد احتفالين أو الاحتفاليـــــن معا : احتفال بالحملة على الإســــلام المتشدد والتكفيري والإرهابـي، واحتفالٌ آخر بمفكر «تنويري» عربي ما ترك على جسد الإسلام الظلامي والتكفيري لحما ولا شحمــا”.
إذا علم القارئ أنّه، في يوم 5 من هذا الشهر ومن هذه السّنة، أقيم بتونس حفل تكريمــــي للمفكر العربــي جورج طرابيشي، بطُل العجب دون حاجة إلى استدعاء رجب كشهر أو رجب أردوغان.
إنّ هذا الحفل الّذي أقامه عدد من المثقفين من مختلف الأقطار العربيّة احتفـاء بجــــورج طرابيشـــي وعرفانا له لما بذله من جهد فكري وثقافي كتابة وترجمة ونقدا فـي تاريخ العرب الحديث، كان هو القادح على هذه الحملة. فربّما اعتملت الغيرة في صدر صاحبنا، فأخذ يخبط خبط عشواء، وطاشت أسهم حنقه غيظا، فأصابت الأحياء والأموات. وإلاّ فبم نفسّر كلّ هذا الهراء؟
إنّ رابطة العقلانيين العرب كرّمت جورج طرابيشي لا فقط لأنّه يحــارب الاسلام السّلفـي التكّفيري وله الفخر في ذلك، بل لأنّ له تاريخا في البحث والنقد والترجمة والتأليف يمتدّ على نحو مائتي كتاب. وكان من حقّك يا رضوان أن تهاجمنا لو أنّنا قمنا بتكريمه لأنّه حضر ألــــف مؤتمر أو أضاع عمره في المشافهة والنجومية الكاذبة أو انتفخت جيوبه و امتلأت حســــاباته من المقاصد الشيعية أو المسيحية أو السنيّة أو غير ذلك.
وأخيرا، نناشدك، إذا كانت لا تزال لديك مساحة للتّفكير لم يستغرقها التّكفير، أن تبتعد بحمولتك الطّائفيّة التّكفيريّة عن دول الخليج وعلى الأخصّ دولة الإمارات العربيّة المتّحدة التي أراك كثيرا ما تتردّد عليها، بعد أن أوشكتم على تدمير أرض الشّام، وساهمتم مع الأصوليّات الطّائفيّة الأخرى في تشظّيها. لسنا في حاجة إلى قرضاوي آخر يثير الفتن، ويحقّق وحدة الحقد والكراهية للأمّة السّنّيّة.

 

ردا على طرابيشي والهوني: لماذا حملتُ على «العقلانيين العرب»؟/ رضوان السيد
قرأتُ مقالتَي الأستاذين طرابيشي والهوني، ردا على مقالتي بـ«الشرق الأوسط» في 4/19 بعنوان: «الحملةُ على الإسلام والحملةُ على العرب». وقد توقّعت الردَّ بل الردين. وكنتُ قد انتقدت من قبل في مقالةٍ بجريدة «الاتحاد» كتاب الأستاذ عبد المجيد الشرفي الأخير «مرجعيات الإسلام السياسي»، وأردتُ من وراء ذلك الدخول في نقاشٍ معه، لكنه لم يردّ. وقد صَدَقَ حَدْسُ الأستاذ الهوني في الدوافع المباشرة لمقالتي الأخيرة «الحملة على الإسلام». فقد أثارني الاحتفال ببيت الحكمة بتونس الذي أقامته جمعية «أوان» وما قيل فيه. وسأوضّح سببَ أو أسبابَ ذلك.
أولا: أنا مهمومٌ مثل كثيرين من العرب مما يجري بداخل الإسلام، ومما يجري على أرض العرب: فما يجري بداخل «الإسلام السني» من انشقاقاتٍ بسبب الانفجارات الجهادية، وبسبب الإسلام السياسي، منذ أكثر من ثلاثة عقود، يبعثُ على الروع والفزع. وما يجري على أرض العرب منذ الغزو الأميركي للعراق، والتدخل الإيراني المباشر وعبر التنظيمات المسلَّحة وغير المسلَّحة في ست أو سبع دول عربية، يبعثُ على الغضب. وقد تابعتُ مثل غيري من العرب (وعبر ثلاثة عقود) وقائع الانشقاقات والاختراقات بداخل الإسلام، وأصولها القريبة، وصدرت لي عدة بحوثٍ وكتبٍ فيها هي: «الإسلام المعاصر» (1987)، و«سياسيات الإسلام المعاصر» (1997)، و«الصراع على الإسلام» (2005). ويصدر لي الآن بأبوظبي (وهو أول كتبي وليس بحوثي بعد الثورات) كتابٌ عنوانه «أزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسي». ووجهةُ نظري الإجمالية التي لا يتّسع للتفصيل فيها هذا الردّ أنه كان هناك في القرن العشرين إحياءان: سني وشيعي. والإحياء السني وسط ظواهر الحداثة والاستعمار، وتجريفات الدولة الوطنية الفاشلة ذات الأنظمة العسكرية والأمنية، واصطفافات الحرب الباردة؛ تولدت عنه: الأحزاب العقائدية الدينية – السياسية الكبرى مثل الجماعة الإسلامية بباكستان، وجماعة الإخوان المسلمين بمصر ومتفرعاتها العربية، وهذا من جهة.. ومن جهةٍ ثانيةٍ: السلفيات الجديدة التي انفجرت عنفا وجهادياتٍ منذ السبعينات.
أما الإسلام الشيعي فقد نجمت عن إحيائه أيضا حركات عنيفة ضد الدولة الإيرانية الحديثة، وانفجرت في ثورةٍ شعبية عام 1979، وتولت قيادتها المؤسسة الدينية التقليدية، التي أقامت نظام ولاية الفقيه. ولا مجالَ هنا لشرح عِلَل اختلاف المصائر بين الإحياءين، ذوي الأصول الواحدة، واللذين يشتبكان الآن للمرة الأولى بمبادرةٍ من إيران. لكنني زعمتُ في بحوثي وكتبي السالفة الذكر أنّ من أسباب الافتراق في المآلات: صمود الأنظمة العسكرية العربية بسبب اصطفافات الحرب الباردة، في حين تخلّت الولايات المتحدة عن الشاه – وأنّ المؤسسة الدينية السنية لا تملك قوة المؤسسة الدينية الشيعية، بينما لم تبلغ «التحويلات المفهومية» على خطورتها والتي أحدثها الأصوليون السنة درجة تغيير طبيعة الإسلام؛ في حين استطاعت المؤسسة الشيعية تغيير الطبيعة التاريخية للمذهب.
وعلى أي حال، وعندما اندلعت حركات التغيير العربية عام 2011 من جهات الشبان وقوى المجتمع المدني، ما استطاعت الانفراد بإسقاط الأنظمة، كما لم تستطع إقامة أنظمةٍ جديدةٍ، فبرز الإسلام السياسي (الإخواني ومتفرعاته) على السطح لقوة تنظيماته، وشعبيته المعتبرة، وعادت الجهاديات للانفجار في الموجة الثانية بعد تشرذم «القاعدة» ومقتل أسامة بن لادن، وهي الموجة المصنوعة في معظمها من التداخلات بين المحلي العربي، والإقليمي، والدولي. وما سُرَّت الدولة الإيرانية للظاهرة الجديدة (ظاهرة التغيير العربي بجوارها) وارتبكت، بين كلام خامنئي عن إسلامية الثورات وتقليدها للثورة الإسلامية الإيرانية، أو أنها حركاتٌ مصنوعةٌ من جانب أميركا وإسرائيل! لماذا ارتبكت السلطة الإيرانية رغم صداقتها الطويلة للإسلام السياسي المعارض في مصر وغزة وتونس، ورغم احتضانها لجهاديي «القاعدة» بعد تشتيت الولايات المتحدة، والدول العربية لهم؟ لأنها كانت وبالتشارك أو التجاذب والابتزاز قد أقامت وفي حضور الولايات المتحدة مناطق نفوذ في كل مكانٍ بالعراق والمشرق العربي والخليج.
وأحدثت حركات التغيير مَورانا في كل مكانٍ من العالم العربي يُهدّد مناطق النفوذ تلك، وليس في سوريا فقط. وعندما حدث التمرد الشعبي في سوريا تحقّقت إيران من وقوع الخطر، ولذا ما اكتفت بالوسائط مثل حزب الله والتنظيمات العراقية، والمتطوعين الشيعة الآخرين من اليمن وإلى أفغانستان، فتدخَّل الحرسُ الثوري في سوريا أيضا، ودعم الحركة الانفصالية (وليس الحوثية فقط) في اليمن، ونازع على رئاسة الجمهورية في أفغانستان! إنما الجديد الجديد ما كان تدخل الحرس المباشر، بل تلك اللهجة المذهبية الحادّة التي سادت في التحرك كُلِّه، في تجاوُزٍ غير آبِه لكلّ دعاوى الممانَعَة والمقاومة. حسن نصر الله قال إنه ذاهبٌ إلى سوريا لقتال «التكفيريين»، كأنّ مدافعه في القصير والقلمون وحمص وريف دمشق قادرة على التمييز بين المؤمن والكافر أو المكفِّر من أهل السنة بالذات! هل كان ذلك لضمّ الغربيين إلى جانبه أو إسكاتهم بداعي مكافحة الإرهاب.. أم لإقناع المقاتلين المتطوِّعين بضرورة حماية مقام السيدة زينب، الموجود في ضاحية دمشق وليس في القصير، أم الأمرين معا؟
ثانيا: لقد أطلَّ علينا نحن العرب عام 2013، و«الإخوان» ومتفرعاتهم يسودون في تونس ومصر ويتحركون بقصد الاستيلاء في عدة بلدان أخرى، و«الجهاديون» التكفيريون وغير التكفيريين يحضرون في ليبيا وغزة والعراق وسوريا وسيناء، والإيرانيون باسم التشيُّع (وليس المقاومة) يقاتلون لفرض استمرار النفوذ أو تهديد العرب الآخرين في سوريا ولبنان والعراق واليمن والبحرين.
عبر العقد الماضي، أُكل رأس الإسلام السني، إذا صحَّ التعبير، واسودَّ وجْهُهُ عبر العالم وفي دياره من خلال الانشقاقات الجهادية، ومن خلال التضييع في المفاهيم الذي أحدثه الإسلام السياسي بمقولات تطبيق الشريعة، والإسلام هو الحلّ. وجاء الإيرانيون مع الأميركيين وبعدهم لشرذمة المجتمعات وتقسيم الدول (وليس السلطات فقط) تارةً باسم الممانعة والمقاومة، وطورا باسم الشيعة المؤمنين، وضدَّ التكفيريين السنة.
ثالثا: كيف كانت ردود فعل (وليس فعل) المثقفين العرب القوميين واليساريين والتحرريين على ربع المليون قتيل في سوريا، وعشرات الأُلوف بالعراق واليمن وليبيا، واستيلاء حزب الله على الحكومة اللبنانية، وانشلال الدولة بالبحرين، ومهازل العسكريين القاتلة بالسودان والجزائر؟ معظم المثقفين السوريين ناضلوا مع شعبهم ولا يزالون. أما في غير سوريا مثل لبنان ومصر والأردن وتونس وديار الاغتراب، ولدى قلة من المثقفين السوريين، فقد ظهرت ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الذي يعتبر إيران وحسن نصر الله محقّين في ما يفعلانه في العالم العربي. والاتجاه الذي يذهب إلى أنّ العلّة في الإسلام الأُصولي السني ولذا لا بد من الوقوف مع بشار الأسد حتى لا يصيبه ما أصاب صدّام حسين؛ فهو البقية الباقية من القومية العربية الميمونة، والعرب غير مهيئين للديمقراطية بعد! والاتجاه الثالث الذي وجد ضآلتَه المنشودة في المخاض الهائل الحاصل، فانصرف مباشرة لمتابعة برنامجه التنويري لتحرير الإسلام، ليس من الجهاديات والحزبيات فقط؛ بل ومن «الإسلام التقليدي»، على طريقة المحافظين الجدد، الذين كتبوا عشرات الكتب خلال العقدين الماضيين في التأصيل للإرهاب والعنف في الإسلام السني. وهذا هو الذي أزعجني في كتاب عبد المجيد الشرفي المفكر البارز والمحترم، وكتبتُ ضده.
فعنوان الكتاب «مرجعيات الإسلام السياسي». وهو لا يتحدث عن ظواهر هذا الإسلام المعاصر أو الجديد، بل يمضي بعد الصفحات الأولى لالتماس مرجعيات سيد قطب وراشد الغنوشي مثلا في كلاسيكيات الإسلام في تفسير القرآن، وفي فهم آيات المواريث، وقضايا المرأة. كأنّ خلافنا مع «الإسلام السياسي» اليوم يدور حول استرجاعه للطرائق التقليدية في فهم القرآن والحديث. بينما مشكلتنا مع الحزبيات والجهاديات إنما هي الخروج على ذاك التقليد في فهم النص، وفي فقه العيش في التجربة التاريخية الإسلامية. إنها تجربةٌ انقضت، وقد قضى على أكثر إمكانيات تجديدها أو فتح التقليد أو اختراعه (بحسب تعبير هوبزباوم) الإصلاحيون والسلفيون والتنويريون معا، إنما ماذا نقول للمسلم في هذا الزمان؟ هل نقول له إن الإسلام المعاصر مرفوضٌ لأنه قاتل، والإسلام القديم مرفوضٌ لأنّ المفسِّرين والفقهاء أخطأوا أصلا في فهم النصوص، فضلا عن أن تلك النصوص فيها ما فيها؟ّ هل هذا هو الفهم الصحيح للمسألة الدينية في التاريخ والحاضر؟
ثم وقبل ذلك وبعده، هذا المثقف عربي، وهو يكتب باللغة العربية، ويتحرك في مجتمعاتٍ عربية، والمفروض أنه إنْ لم يمتلك إحساسات ووعيا قوميا، فهو يمتلك على الأقل وعيا وطنيا أو إنسانيا. وهذا ما أزعجني في برامجكم أنتم العقلانيين والتنويريين العرب. أنت يا أدونيس من سوريا، وكذلك أنت يا عزيز العظمة، ويا جورج طرابيشي، مع حفظ الألقاب، أليس لكم موقفٌ من المذبحة في سوريا، في وطنكم؟! كيف «تقرفون» من «سلفوية» الثوار وعاميتهم وغرائبيتهم وإساءاتهم، أو خروجهم في مظاهراتهم من المساجد (قرأت في تقريرٍ للأُمم المتحدة أنه دُمِّر في سوريا ألف وخمسمائة مسجد بالطائرات والمدفعية: وهل تعرفون أن قبر خالد بن الوليد نُبش بحمص، ليس انتقاما لمزار السيدة زينب مَثَلا، بل لأنّ المرويات الشيعية تقول إنّ خالدا كان ضد علي وفاطمة، وحاول «الفتك» بعلي لصالح أبي بكر؟!).
جورج طرابيشي أراد طمأنتي في ردِّه علي فذكر لي أنه ما كتب غير مقالةٍ واحدةٍ عن الحرب في سوريا، ولذلك قلتُ له وأقول: تكتب ستمائة صفحة في نقد أهل الحديث، وثلاثة آلاف صفحة في نقض مقولات الجابري وحنفي، ولا تكتب غير صفحتين عما يجري بوطنك؟! طبعا هذا شأنك أو شأنكم، لكنْ ليس من شأنكم ولا من حقكم بهذه الشروط تسمية أنفسكم عقلانيين عربا، في حين ينحصـر عملكم في «تنوير» العرب والمسلـمين بشأن الخلاص من موروثهم الديني، وليـس من مصائب الحاضر مثل القذافي (معمـر وسيف) والأسدي والصدّامي وبن علي والداعشي. تسألني بعد ذلك أيها السيد الهوني عمن أخذ الجوائز، وعمن اشتغل عند العسكريين، ومن أين أتت الأموال، أنا أعرف وأنتم تعرفون اسما اسما وعنوانا عنوانا!
أنا مختلفٌ معكم أيها التنويريون العقلانيون، ليس حول مناهجكم في تحرير الإسلام والمسلمين فقط، بل وحول أَولوياتكم، وحول قوميتكم. ولذلك ما أثارني احتفال تونس لأنه لطرابيشي، بل لأنني توقعتُ أن يكون فرصةً – باعتبار المحتفى به مواطنا عربيا سوريا – بحيث يكون في الحفل حديثٌ عن المأساة في سوريا، وعن ضرورة الخلاص من الأسد وإباداته، ومن «داعش» ومصائبها (وبخاصةٍ أن الأسد والمالكي هما اللذان أحضراها، وطابخ السُمّ آكِلُه)، ومن التدخل الإيراني لشرذمة الدول والمجتمعات العربية. ولذلك فإن مقالتي (التي نُشرت في نفس العدد الذي نُشرت فيه مقالتك يا أخ هوني) كانت عن نهايات القومية العربية التي ما بقي من ممثليها في الحكم غير بشار الأسد بزعم قوميينا في لبنان والأردن! لا أعرف أمةً أو شعبا خذله مثقفوه، كما خذل المثقفون العرب الكبار أمتهم وأوطانهم، في زمن الديكتاتوريات، وفي زمن الثورات!
رابعا: لا أُريد التعرض للغمزات واللمزات الشخصية والعامة والمتعلقة بشخصي ومعارفي. فقد قرأتُ للأستاذ أركون كثيرا وكتبتُ دراسةً مستفيضةً عن أُطروحاته وهي منشورة. وأقرأ للأستاذ طرابيشي منذ السبعينات ترجمةً وتأليفا. وقرأتُ كتابه عن أهل الحديث مرتين. وتعلمتُ من الأستاذ الشرفي في كتبه الأُولى، وقرأتُ كتبه ومقالاته في السنوات العشرين الماضية. وقرأتُ كل الكتب المنشورة للأستاذ العظمة، بما في ذلك كتابه الأخير الصادر قبل شهر. وفيه جديدٌ كثير! فقد كانت أعماله السابقة تنصبُّ على نقض أو تفكيك التجربة التاريخية الإسلامية في الدين والدولة والمجتمع والثقافة، وعمله الجديد ينصبُّ على الحفر في أُصول القرآن والإسلام، وأنه من نتاج «الكلاسيكيات المتأخرة»، وهي أُسطورةٌ أُخرى استعارها كالعادة من غيره، وقد قالت لي صديقةٌ له إنه متحمسٌ «لأُطروحتنا» الجديدة كأنما هي من بنات أفكاره! وفي حين أفدتُّ من سائر مَنْ ذكرتُهم قليلا أو كثيرا، فأنا مختلفٌ معهم في المنهج والأَولويات، وهذا ليس بالأمر الجَلَل، فلستُ ساخطا عليهم من أجل الاختلاف المنهجي وليس من حقي ذلك، بل من طرائق فهمهم للحضارة الإسلامية، ولتأزم الإسلام، ومواقفهم اللامبالية أو الراضية عن المذابح الجارية في العالم العربي.
ليس صحيحا أيها الأخ الهوني أنه ليست هناك مشكلةٌ ين الإيرانيين والعرب، أو بين الشيعة والسنة اليوم. بل هناك نزاعٌ عنيفٌ ربما كلفنا خسران ثلاث دولٍ أو أربع، وخسائر بشرية قد تبلغ في هولها ما حصل في حرب صدام على إيران! ولستُ أنا الذي أقول إنه ينبغي مذهبة النزاع أو قومنته، بل الإيرانيون والمتأيرنون يقولون ذلك ويفعلونه. وقد أصدرتُ قبل أيامٍ كتابا عن ذلك عنوانه «العرب والإيرانيون وعلاقات الزمن الحاضر»، فاقرأهُ يا أخ هوني إذا شئت!
خامسا: تبقى مسألتان، مسألة الخليج العربي، ومسألة القرضاوي. ولا أدري لماذا بلغت بكَ القِحة حدود الدخول في هذا «الهرج» (وأقصد بالهرج هنا التهريج، وليس بمعنى القتل كما في اللغة السبئية!). الخليج اليومَ هو دائرة الاستقرار والقرار الباقية في العالم العربي. ودوله هي التي تكافح إرهابيي «القاعدة»، وخنزوانات الإسلام السياسي، وتقف في وجه الخراب الذي تحاول إيران نشره في العالم العربي.
أما الشيخ القرضاوي فهو عالمٌ جليل، لكنني اختلفتُ معه ثلاث مرات في السنوات الأخيرة. والاختلاف منشورٌ في الصحف والمجلات العالمية: اختلفتُ معه عام 2009 عندما قال إن إيران تنشر التشيُّع في العالم العربي. ولأنني ما كنتُ أعرف عن الموضوع غير معلوماتٍ قليلةٍ من سوريا ولبنان، فقد لفتتُ انتباهه إلى أنّ الأخطر هو «التشيُّع السياسي» في مثل حالتي حماس والجهاد الإسلامي، وأحوال القوميين واليساريين الموالين لسيد المقاومة. ثم عرفتُ بعد ذلك من مسؤولين عربٍ كثر، ومن رجال الدين، ومن السياسيين، أنّ التشييع جارٍ على قدمٍ وساق. وقد اضطر شيخ الأزهر لذكر ذلك للرئيس الإيراني نجاد عندما زاره. وقد قلتُ لمسؤول سوداني قبل سنوات، وهو من أنصار المقاومة، وكان يحدّثني عن التشييع بالسودان: «يا أخي، المسلمون السنة هم 93 في المائة من العرب، و90 في المائة من المسلمين، فلا عليكَ من التشييع، وحبذا لو يغادرنا إرهابيونا ولو إلى المجوسية، وحبذا أيضا لو يتوقف السودان عن أن يكونَ قاعدةً لإيران في خاصرة مصر وفلسطين، لكان ذلك أمرا عظيما حقا»!
وأما المسألة الثالثة التي اختلفتُ فيها مع الشيخ القرضاوي فهي دعمه المنقطع النظير لحكم الإخوان في كل مكان! فقد ذكّرتُه في حديثٍ طويلٍ نشرتُ بعضه أنّ مقولتي «تطبيق الشريعة»، و«حتمية الحلّ الإسلامي» كانتا مما تراجع عنه. كما ذكّرتُهُ بأنّ الإخوان المصريين وقفوا ضدَّه في حملته على إيران، وقد قال لنا وقتها: «عجيبٌ أمر هؤلاء، ماذا سيفعلون بالدين إن وصلوا للسلطة، إذ يرون اليومَ أنه لا حاجة للدفاع عنه في وجه إيران بالذات»!
إنّ الأمر لا يحتمل الهزل ولا التضييع. الإسلام في خطرٍ بسبب الاختراقات بداخله، وبسبب الهجمات عليه. والعرب في خطر بسبب الهجمة الإيرانية على مجتمعاتهم ودولهم. لا بد من نهوضٍ إسلامي، ولا بد من إحياءٍ عربي. وقد فوتنا الأمرين وينبغي أن نستدركهما. وأنا لا أُخاطب الزملاء العقلانيين بذلك، ولا أطلبه منهم، فهم جميعا في دار الغُربة، والغربة غربتان: غربةٌ عن الذات، وغربةٌ عن الأهل. ورحم الله أبا حيان التوحيدي حبيب الأستاذ أركون! أنا أُخاطب جمهور العرب الذين يعانون في بلدانهم من النكران والإنكار، وفي الخارج من الاستغراب والاستشراق!
إنّ من حقّكم يا سادة أن تبقوا تنويريين كما تشاءون. إنما يظل من حقنا أيضا أن نُصرَّ على رفضنا طرائق تعاملكم مع ديننا ومع قضايا أمتنا:
«وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ..
فعلى أي جانبيك تميلُ؟!».

 
التكفيري والتنويري.. بين السيد وخصومه/ سعيد بنسعيد العلوي
يوم الجمعة ما قبل الماضي (18-4-2014) كتب الدكتور رضوان السيد، في حديثه الأسبوعي بـ«الشرق الأوسط»، مقالا تحت عنوان «الحملة على الإسلام.. والحملة على العرب». وقد أثار المقال المشار إليه ردي فعل يختلفان في المنهج والأسلوب ويلتقيان في الهدف. رد الفعل الأولُ أتى من الأستاذ جورج طرابيشي، ورد الفعل الثاني أتى من قارئ ارتأى واجبا عليه أن ينبري للدفاع عن الأستاذ طرابيشي وقد ذكره بالاسم صاحب المقال المشار إليه. وبغض النظر عن مضمون المقال الذي يرد فيه جورج طرابيشي على ما بسطه رضوان السيد من رأي في مقاله المذكور، فإن ما ذكره يعتبر قولا مقبولا من الناحية المبدئية ما دام رضوان السيد قد ذكر طرابيشي بالاسم في معرض الاستشهاد والتدليل على موقف كان موضوع المقال المذكور هو التنبيه على ما يرى رضوان السيد أنه غير مقبول، من حيث إنه موقف يسيء إلى الإسلام عموما ويختص الفكر السني ببالغ الإساءة. أما رد الفعل الثاني، فهو غير ذي موضوع – أو لنقل إنه، في أحسن الأحوال، يدخل في باب الهجاء والمنافرة. ومن ثم، فهو يبعدنا عن جوهر مقال يستحق أن نتدبر مضامينه، ثم إن علينا (قراء)، أو على من كان يرى أن الحق غير ما يذكر صاحب المقال أن يعترض على القول حسب ما تقتضي الأعراف الأكاديمية، ذلك ووفقا لما تستوجبه الآداب المرعية. لا يقدمنا في موضوع في خطورة الفكرة التي يثيرها مقال رضوان السيد أن نعلم أنه تحركه الغيرة من جورج طرابيشي، لأنه قد كان موضع تكريم من إحدى الجمعيات، في حين أن صاحب المقال لم يكن كذلك. ولا شأن للقارئ بإكثار رضوان السيد من حضور المؤتمرات العلمية طالما ما ينشره الرجل من أبحاث باللغة العربية وبغيرها يحظى بالتقدير من رجال البحث العلمي الرصين ونسائه شرقا وغربا، وما دام الرجل حريصا على مسؤولياته الأكاديمية بالجامعة اللبنانية وبالجامعات التي يدعى إليها في ألمانيا وبريطانيا وفي الولايات المتحدة الأميركية. ليس يعنيني ذلك كله طالما ما يصدره من ترجمات رصينة وما يقوم به من تحقيقات وتدقيقات في التراث العربي الإسلامي يعودان على المكتبة الإسلامية بنفع غير قليل، وهو لا يزال على الدرب سائرا منذ ما يربو اليوم على ثلاثة عقود. بل ليس يعنيني أن يمتلك الرجل الموهبة والقدرة على المزاوجة في الكتابة بين العمل الأكاديمي الرصين وما يعتقد أن معركة الدفاع عن العروبة وعن الإسلام القويم يستوجبانه. كل هذه أمور تخصه وحده. إنني، شخصيا، أخجل أن أقول لباحث في أول طريق البحث العلمي إن قراءة فلان من الفلاسفة أو علان من المفكرين أمر دون طاقتك الفكرية وقدراتك العلمية، فما بالك أن ألمز بذلك لأستاذ جامعي يحسن القراءة بعدة لغات أجنبية – فضلا عن اللغة العربية. ولكن، ليس من حقي البتة أن أطلب من الغير التزام قواعد معلومة في الخطاب وليس لي أن أقسره على الارتقاء إلى مستوى من السلوك ليس يمتلك بالضرورة السبيل إلى الارتقاء إليه، ونبينا عليه أفضل الصلوات قد أوصانا بأن نلتمس للناس العذر فيما لا يحسنون ولا يطيقون.
لست إلى شيء من هذه الأمور كلها أقصد في حديثي هذا، وإنما أبتغي أن أنفذ قليلا إلى جانبين اثنين مما ورد في مقال رضوان السيد (الحملة على الإسلام والحملة على العرب)، أجد في النفاذ إليهما فائدة وفي الوقوف عندهما صرفا للفكر عن الخوض في سفاسف الأمور.
الجانب الأول، ما يسعى الكثيرون إلى سلوك سبيل التمويه والمغالطة في الأخذ به وهو سبيل ضرب الإسلام جملة خلف التستر بوجوب مهاجمة الوثوقيات والأرثوذكسيات وتحرير العقول منها توطئة لتحرير العقل العربي. والتمويه، كما تنبه إلى ذلك مقالة رضوان السيد، هو إرجاء القول في الأرثوذكسيات والبدء أولا بضرب «الأرثوذكسية السنية» ثم الوقوف عند ذلك. وملاحظة رضوان السيد ليست صحيحة فحسب، بل إننا نود تكملتها بذكر ما لم يتسع المجال لصاحب المقال لذكره، من الأسباب خطة التمويه والمغالطة: إن ما يصح من الدين الإسلامي فيجب علينا التمسك به وحسن الدفاع عنه هو القرآن الكريم أم الحديث النبوي، فإن المنهجية العلمية الصحيحة تحمل على وجوب التردد والاحتياط الشديدين في أمره. هذا مسعى كبير خطير وهاوية أَجُرُّ الكثير من السذج إلى السقوط في أحابيلها – والحديث فيها ذو شجون، وأوجه الخديعة والمكر تستوجب يقظة تامة.
أما الجانب الثاني (أو المرمى البعيد الآخر الذي ينبه إليه المقال)، فهو أن هنالك فروقا بينة بين مناخ وأسباب الخلاف بين أهل السنة من جهة والشيعة (الإمامية أساسا – فالشأن عند الشيعة الزيدية غير ذلك وهو عند النصيرية والباطنية عموما غير ذلك من منظور مغاير). من جهة أخرى، طبيعة الخلاف اليوم تتجاوز الاختلاف العقائدي داخل دائرة الإسلام بين الشيعة والسنة، وإنما الأمر معركة ضد العروبة من جانب أول، وضد الإسلام (سنة وشيعة) من جانب ثان. يتعلق الأمر بمعسكرين اثنين تتقاطع مصلحة كل منهما في منطقة الشرق الأوسط خاصة: معسكران اثنان يسوء كل منهما (لحسابات خاصة) أن يتجه السنة والشيعة إلى التقارب وتقليص التناقضات الثانوية والخلافات الجانبية حرصا على وحدة الإسلام والمسلمين. يختفي هؤلاء خلف الاعتقاد الشيعي مع تضخيمه والنفخ فيه، ويتمترس أولئك خلف الدعوات التكفيرية التي تدعي الأخذ من إسلام أهل السنة والجماعة. تتقاطع مصالح المعسكرين حينا وتتضارب حينا آخر. وعند كل ذي معرفة بالمكر الآيديولوجي وبقدرة الفعالية الآيديولوجية على التمويه والمغالطة، قدرة على تبين المرامي البعيدة التي تقف خلف دعاوى التكفير من جانب أول والحسابات الخفية التي تحرك، خلف ستار، الكثير من النزعات التي تتذرع بالتنوير وتحرير العقول. ليس من الضروري أن نتفق مع رضوان السيد أو أن نختلف معه في تأويله بعض القراءات، فهذا مستوى من الاختلاف حدوده العالم الأكاديمي وهو على كلٍّ من علامات الصحة والعافية، ولسنا نجد في تاريخ الفكر الإسلامي في عصوره المشرقة حقا إلا شيوعا للتباين في القول العلمي واختلافا في الرؤى والمناهج، ولذلك كان ذلك الفكر قويا متألقا. بيد أن من الضروري، لا بل من الواجب على كل ذي غيرة على العروبة والإسلام معا، أن يقر بأن الحملة على الإسلام والحملة على العرب واقع لا سبيل إلى إنكاره أو إخفائه.
مقال «الحملة على الإسلام».. اختلاق وتقوّل غريبان/ عزيز العظمة
* نشر الدكتور رضوان السيّد، بتاريخ 18 أبريل (نيسان) 2014، في هذه الجريدة تحت عنوان: «الحملة على الإسلام… والحملة على العرب» مقالا أثار نقاشا واسعا بين المثقفين العرب، وحملة واسعة من الردود على الأفكار والاتهامات التي جاءت فيه، إذ أورد الكاتب أسماء بعينها في سياق مقاله.
جريدة «الشرق الأوسط» كمنبر مفتوح لتبادل الآراء والتعليقات وإتاحة الفرص للكتاب والمثقفين العرب للإدلاء بدلوهم في هذا السياق وإبداء وجهات النظر حول هذه المسائل والقضايا، ترحّب بنشر الردود والتعليقات والآراء.
كما كان لاتّهام الدكتور رضوان السيّد لعدد من المثقفين وذكرهم بالاسم في مقاله، مثار مزيد من التعليقات في بعض وسائل الإعلام.
وكان من الردود التي نشرتها الجريدة أخيرا، ردّا الأستاذين جورج طرابيشي ومحمد عبد المطلب الهوني.
وها هي «الشرق الأوسط» تنشر اليوم مزيدا من الردود حول مقال رضوان السيد، بما فيها رد السيد نفسه، ورد الكاتب السوري الدكتور عزيز العظمة، كما تنشر تعليقا للكاتب المغربي سعيد بنسعيد العلوي.
* ما سبق لي أن ناقشت رضوان السيّد في نصّ مكتوب، ولو أن معرفتنا الشخصية تعود إلى أربعين عاما. ما سبق لي أن ناقشته لأنّني ما كنت مقتنعا بجدوى النقاش معه، وما زلت على هذا الرأي. إن لرضوان ذاكرة استثنائية، وهو محقق جيّد للنصوص التراثية، وله قراءات عريضة في مجالات متعددة، ولو أنّني أرى أنّ اطلاعه على ما تجاوز كتب التراث متسرّع وسطحي يكتفي بالإدراك التقريبي وباستخدام هذا الاصطلاح أو ذاك على نحو خطابي. ولذلك فإنّه لم يسبق لي أن ناقشت كتاباته التاريخية والسياسية ولم أستشهد بها، لاختلاط الأمور فيها ولانطوائها على مقاصد دفاعية وسجالية متأتية عن إشكاليات تاريخية متوهّمة، الكثير منها عامي، وهي تروم نتائج آيديولوجية في خدمة مواقف دينيّة اجتماعية وفكرية محافظة من أفق رأيناه يضيق كثيرا في السنوات الأخيرة. تلك هواجس وسجالات تطبّع بها رضوان السيّد منذ حداثة أمره في الأزهر، مرورا بتتلمذه على العلاّمة الدكتور صلاح الدين المنجد – ذي الهوى الإخواني في السياسة والثقافة – ثمّ تسلقه السلّم في معهد الإنماء العربي الّذي أسّسه القذّافي في بيروت، وصولا إلى حيث هو الآن.
وكما أنّه ما سبق لي أن ناقشت رضوان السيّد كذلك لا أعتزم أن أناقشه اليوم استنادا إلى ما كتبه في جريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 18-04-2014 تحت عنوان «الحملة على الإسلام… والحملة على العرب». ولكنْ لديّ تعليق يتناول المقاصد والنتائج والأساليب، إذ إن رضوان هاجمني شخصيا (مع غيري من الأفراد المذكورين بالاسم)، وكفّرني في السياسة كما فعل بغيري. كما أن لديّ طلبا سأسوقه في الختام.
إن ما كتبه رضوان يوم 18-04 كثير الاختلاط كالعادة وغير متماسك في تسرّعه واستعجاله، ويتعذّر فيه على قارئه تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ هذا القارئ الذي يجد نفسه منقادا إلى أن يستشعر من خلال ما يقرؤه من سطور المقال، عصبية طائفية بدائية غير قادرة على التمييز بين الأمور وعلى التعالي عن عماء التعصّب والانتصار لعصبية ما دون السياسة وما فوقها، عصبيّة لا ترى حولها إلاّ فسطاطَيْن: فسطاط الذّات التي لا تحجم، في غياب ملكة التمييز لديها، عن المماهاة بين الولاء للدّم الطائفي والذهاب بهذا الولاء – على تقادمه وضرره – إلى تأييد كل ما نطق باسمه من عاقل أو ناعق أو تكفيري، وفسطاط الآخر الذي ليس على استعداد لانتضاء لواء الاقتتال الطائفي واتّخاذ رضوان السيّد مناضلا قدوة في هذا. على هذا النّحو يصبح كل من كان غير مستعدّ لانتضاء هذا اللّواء متهما بتأييد الفقيه الولي وحزب الله ولواء أبي العبّاس والحرس الثوري وغيرهم.
تلك تهّمة يكيلها لي رضوان ولغيري أيضا، باستسهال يدل إمّا على الخفّة بل الحمق، وإمّا على تهتك في الكيان الأخلاقي والمعنوي. هذه – وغيرها ممّا جاء فيما كتب رضوان – بهتان صرف لا يستند إلى شذرة في الواقع، وليس لديه عليه أي مستند في قول أو نصّ أو فعل. هذا اختلاق وتقوّل غريبان إذ إن رضوان ليس غريبا عنّي ولا هو بجاهل بمواقفي. أمّا أنّه يتهمني بأنّني أعتقد أن الصديق والرفيق ميشيل كيلو طائفي، فهذا أمر غريب إلى درجة العبث. باختصار شديد، إنّ ما أتى به رضوان من بهتان تجاهي، وتجاه البعض من زملائي وأصدقائي ومعارفي، إنّما هو يشكل على الأرجح ومن وجهة نظر القانون قَدحا وذمّا مكتملي الأركان، وهو لم يرتدع عن أن ينشر ما نشر وما كان يجب ألا ينشر في جريدة محترمة على صورة قد ورّطها معه في هذا الأمر. ما فعله الرجل غير أخلاقي ومخالف للقانون، ولعلّه يستذكر أنّ فقه أهل السنة يوجب إقامة الحدّ على القدح والقذف والإفك.
لقد حاولت جاهدا أن أفكر في الأسباب التي أوجبت على رضوان تجاوز حدود الأمانة والأدب والمروءة والقدْر، والافتراء على غيره بهذه الدرجة من الاستهتار. حاولّت تلمّس ما يدعو إليه من التشبيح والضرب يمنة ويسرى علّه يصيب هدفا ما، وهو يطلق خطابا غوغائيا لعله يطمح من خلاله إلى الظهور على شاكلة قرضاوي صغير.
لم أوفق في التوصل إلى الأسباب الممكنة، مع أنّني قلّبت في ذهني الخلافات الآيديولوجية والثقافية والسياسية والفكرية الممكنة، ولكنّني لم أوفق في التوصل إلى الباعث على هذه الفرية على الأشخاص الذين هم على خلاف معه بصدد الشأن الطائفي، وشأن التحرّر والفكر الحرّ. وعلى ذلك فإنّ الأرجح في تقديري هو الشأن الأقرب والأسهل الّذي تراكب على أوهام آيديولوجية وأدّى به إلى هذا التجني وارتضاء استقبال لوثة باعثة على ما كتبه. والأرجح في تقديري أنّه فعل ما فعل لشيء في نفسه. أترك لغيري الإفصاح عن تقديره.
وفي النهاية، إنّني أطالب رضوان وهو منقلب اليوم من ذيل الكهولة إلى بداءة الشيخوخة أن يتوسّل الأمانة والصدق والمروءة، وأطالبه ثانيا بالاعتذار في هذا الموقع بالذات راجيا ألاّ يكون في هذا الطلب تكليف بما لا يطاق. قلت يوما لرضوان، وأنا أمازحه معاتبا إيّاه على الإخلال بالوعد، إنّه من العسير عليّ أن أعتقد أنّه على ذلك القدر من السّوء الّذي يحاول أن يظهر عليه نفسه والّذي بات يتحدث عنه الكثيرون. ولأقلها بصراحة: هذه فرصة تتاح له الآن ليفاجئنا.
* كاتب ومفكر سوري

 

 

 

لا جديد.. خلاف بين معتزلة وأشاعرة! / رشيد الخيّون
أرى أن ما نشر في العديد من الصحف العربية، في الآونة الأخيرة، وما فيه من تخوين لمن عرفوا بالعقلانيين والتنويريين، تكرار لخلاف الأقدمين. فأول التهم للمنادين بالعقل هو هدم الدين. فإذا تحدثت ضد الإرهاب باسم الدين نُعتَّ بالملحد، وإذا تحدثت ضد الولي الفقيه وما يجري من سخرية وهتك للعقل باسم الحسين أصبحت قاتل الحسين؟ ووراء هذا التخوين عصاب سياسي. عليك أن تثبت براءتك إما أن تتحول إلى طائفي وإما إذا ذكرت يوسف القرضاوي عليك ذكر علي خامنئي في السطر نفسه، وإلا لم تسلم من التجريح. للأسف هذا هو الواقع. لا جديد، إنه نزاع قديم ولنرى مشهداً من ذلك القديم، والذي لم يتمكن المتأخرون من تجاوزه!
ظهر المعتزلة بهذا العنوان في بدايات القرن الثاني الهجري، لكن وجودهم كفكر ومواقف سياسية كان قبل ذلك، والمتفق عليه في تأريخهم أن واصل الغزال (ت 131 هـ) وعمرو الباب (ت 144 هـ) أسسا هذا الكيان بعد الاختلاف مع شيخهما الحسن البصري (ت 110 هـ)، وبعد وفاة الغزال مال زميله إلى الفعل الفكري، وبوفاته عادوا إلى السياسة، وعلى ما يبدو كان آخر عمل سياسي لهم مع إبراهيم بن عبدالله (قُتل 145 هـ)، والأخير مثلما قرأنا كان على النهج الزيدي.
أما الأشاعرة فالتسمية نسبة إلى أبي الحسن الأشعري (ت 324 هـ)، وقيل ظل معتزلياً لأربعين عاماً، ومن الأشاعرة من ينفي ذلك. لكن الجميع يتفق أنه كان معتزلياً. لذا أوردنا في «معتزلة البصرة وبغداد» ضمن المتمردين على الاعتزال. لم يُختلف على صلة الأشعري بالمعتزلة، بل اُختلف حول وضعه لأُصول العقيدة السنِّية. فالأشاعرة يعتبرونها من صياغته، حسب «رسالة الثغر» (أصول أهل السنة والجماعة)، فعُرف عند الشافعية بـ«صاحب الأصول» (ابن خلكان، وفيات الأعيان). هذا ما يتحدث به أيضاً مثقفون معاصرون ينسبون أنفسهم إلى الأشعرية، مع أنهم من خارج المؤسسة الدينية والتدين أيضاً، فعدوا الرأي التنويري أو العقلاني يقصد هدم تلك الأصول.
مجمل القول في نسبة الأصول إلى الأشعري نجدها في قول السبكي (ت 771 هـ) عن الكتاب الذي تولى صاحبه الدفاع عن الأشعري: «كل سنِّي لا يكون عنده كتاب التبيين لابن عساكر فليس من أمر نفسه على بصيرة» (طبقات الشافعية). قال أيضاً: «لا يكون الفقيه شافعياً على الحقيقة حتى يحصِّل كتاب التبيين لابن عساكر، وكان مشيختنا يأمرون الطلبة بالنظر فيه» (المصدر نفسه). كان سبب تصنيف ابن عساكر (ت 571 هـ) لكتاب «تبيين كذب المفتري» هو بغض إمام القراءات بالشام لمذهب الأشعري (ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة).
أما الحنابلة فيعتبرون الأصول من صياغة أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) لا الأشعري. نأتي بمثال على تأكيد ذلك: «لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري، فجعل يقول: رددت على الجُبائي (أبو علي المعتزلي)، وعلى أبي هاشم (ابن الجُبَّائي)، ونقضتُ عليهم، وعلى اليهود والنصارى والمجوس، وقلت لهم: وقالوا، وأكثر الكلام في ذلك. فلما سَكت قال البربهاري: ما أدري ما قُلتَ قليلا ولا كثيراً، ولا نعرف إلا ما قاله أبو عبدالله أحمد بن حنبل» (الفراء، طبقات الحنابلة).
على أن تحديد أُصول العقيدة السنية (التوحيد والنبوة والمعاد) والمسائل التي تفرعت عنها، كثبوت الصفات والقدر، كانت رداً على أُصول المعتزلة الخمسة (التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، على اعتبار أن ابن حنبل، والأشعري مِن بعده، كانا بمواجهة المعتزلة، وكذلك على أُصول العقيدة الإمامية (التوحيد والنبوة والإمامة والعدل والمعاد).
إن حمأة النزاع المذهبي بين أهل السنَّة أنفسهم، ناهيك عن النزاع مع وبين المعتزلة والإسماعيلية والإمامية والزيدية، وصل إلى حد يلخص ضراوته قول القاضي محمد بن موسى البلاساغوني الحنفي (ت 506 هـ): «لو كان إلي الأمر لأخذت الجزية من الشافعية» (سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان). كذلك اعتبر مراجع الشيعة الأولون والمتأخرون محمد بن نصير النميري (ت 270 هـ)، مؤسس العلويين، كذاباً، ونعتوا جعفراً ابن الإمام علي الهادي (ت 271 هـ) بـ«جعفر الكذاب» (الطوسي، كتاب الغيبة)، مع أنه ابن إمام معصوم عندهم.
هكذا كان النزاع بين المذاهب وداخلها، اُتهم بعضهم بعضاً بهدم الدين، واليوم جرى الحوار على المنوال نفسه. مع أنه لا يجوز إسقاط الماضي على الحاضر بتهم كيدية، على أن من يتحدث ضد الأُصوليين أنه لابد قد تشبع بتلك العداوات، وأنه يحمل الضغينة للإسلام كدين وحضارة. فهل فقيه الشام هدم الإسلام؟ أم أن البربهاري هدم الإسلام؟ أم أن المعتزلة، ونزاعهم بعد ظهور الأشعرية، هدموا الإسلام؟
تلك صورة مختصرة عن نزاعات الماضي، وهي لا تخلو من منحى ثقافي، فالثقافة آنذاك كانت متلبسة بالفقه والدين، وحتى كتب الجاحظ (ت 255 هـ)، والتوحيدي (ت 414 هـ) عوملت من قبل البعض بميول صاحبيها، وكان يغلب عليهما الاعتزال بقوة بالنسبة للأول وإلى حد ما بالنسبة للثاني، مع أن تلك الكتب عبارة عن بساتين جمعت الأدب والفكر والتاريخ، وحتى هذه الساعة لم يظهر منافس لها.
لم يبق للمثقف وجود وشأن وتأثير إيجابي إذا أخذته الطائفية وبأثر رجعي، فيظهر العقلاني أو التنويري، مثلما يُطلق على الذين يحاولون إحياء العقل، على أنهم هدمة للدين، فماذا يُراد من الحديث عن بن لادن والزرقاوي وما يقوم به القرضاوي مِن دور تعبوي باسم الدين؟ هل نقد هذه العناصر يعني هدم الدين؟ ومن قال إن الدين محمياً بالأشعرية؟ وماذا يُقال للحنابلة الذين لا يطيقون الأشعرية؟
إنها أصولية دينية سياسية سواء كان منجزها ظاهراً في «حاكمية» أبي الأعلى المودودي (ت 1979) أو تلميذه سيد قطب (أعدم 1966)، أو على الضفة الأُخرى «ولاية الفقيه»، وهي الحاكمية نفسها مع اختلاف العبارة. مشكلة عندما يمارس المثقفون سطوة رجال الدين، وسلاحهم الأول التكفير!
إن زج الشباب تحت راية الدين، في الدفاع عن الأضرحة، أو الحرب على العلويين، هي المعاول التي تهدم الدين، لا أهل التنوير، وهذا لا يتم إلا بتشريح معتمدات هؤلاء الذابحين. كانت تلك المعاول سبباً في أن يستهزأ نظام «البعث» السوري على السوريين بانتخابات (ديمقراطية)، وانتظروا سينقش عبارة «الله أكبر» على علمه، مثلما فعلها صاحبنا مِن قبل!

عن جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى